علاقة الأخلاق بالعقيدة
إن الأخلاق الحميدة الكريمة الطيبة هي ثمرة العقيدة الصحيحة والعبادة الصالحة، فالنبي -صلى الله عليه وسلم يقول: ((أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خُلُقًا)) فكلما ازداد إيمان المؤمن حسن خلقه.
وفي علاقة الأخلاق بالعقيدة يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: “لفظ الإيمان إذا أُطلق في القرآن والسنة يُراد به ما يُراد بلفظ البر وبلفظ التقوى وبلفظ الدين، وقد بيَّن النبي -صلى الله عليه وسلم أن ((الإيمان بضع وسبعون شعبة أفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق)) فكان كل ما يحب الله تعالى يدخل في اسم الإيمان، وإذا كان الإيمان أصله الإيمان الذي في القلب وأنه لا بد فيه من شيئين؛ الأول: تصديق بالقلب وإقراره ومعرفته، وهذا هو التوحيد، والآخر: عمل القلب وهو التوكل على الله وحده، ونحوه مثل حب الله ورسوله وحب ما يحبه الله ورسوله، وبغض ما يبغضه الله ورسوله وإخلاص العمل لله وحده -كانت أعمال القلب من الحب والإخلاص والخشية والتوكل ونحوها داخلة في الإيمان بهذا المعنى، وكانت هذه الأخلاق الفاضلة ونحوها داخلة في الإيمان. وأما البدن فلا يمكن أن يتخلف عن مراد القلب؛ لأنه إذا كان في القلب معرفة وإرادة سرى ذلك إلى البدن بالضرورة، ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم: ((ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد، ألا وهي القلب))، وقال أبو هريرة رضي الله عنه: “القلب مَلِك والأعضاء جنوده، فإذا طاب الملك طاب جنوده”.
إنه إذا كان عمل القلب من الأمور الباطنة وعمل الجسد من الأمور الظاهرة فإن الظاهر تابعٌ للباطن لازم له، متى صلح الباطن صلح الظاهر، وإذا فسد فسد، ولهذا قال من قال من الصحابة عن المصلي الذي كان يعبث بيديه وجوارحه: لو خشع قلب هذا خشعت جوارحه، وهكذا، فإنه لما كانت الطاعات كلها داخلة في الإيمان لم يفرق الله -عز وجل- بينها وبينه في قوله سبحانه: {وَلَـَكِنّ اللّهَ حَبّبَ إِلَيْكُمُ الأِيمَانَ وَزَيّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} [الحجرات: 7] فأدخل في الإيمان جميع الطاعات؛ لأنه سبحانه حبب إليهم ذلك حب تدين، وكره إليهم الكفر والفسوق وسائر المعاصي كراهة تدين، ومن ذلك قوله -صلى الله عليه وسلم: ((من سرّته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن)) لأن الله سبحانه وتعالى حبب إلى المؤمنين الحسنات وكره إليهم السيئات.
إن الأخلاق الفاضلة من نحو صدق الحديث وأداء الأمانة وبرّ الوالدين وصلة الأرحام والوفاء بالعهود، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد للكفار والمنافقين، والإحسان إلى الجار واليتيم والمسكين وابن السبيل والمملوك من الآدميين والبهائم، والدعاء والذكر، وتلاوة القرآن وكذلك حبّ الله ورسوله وخشية الله والإنابة إليه وإخلاص الدين له، والصبر لحكمه، والشكر لنعمه، والرضا بقضائه والتوكل عليه، والرجاء لرحمته، والخوف من عذابه، وأمثال ذلك كلها داخلة في مفهوم العبادة؛ وذلك أن العبادة هي الغاية المحبوبة لله والمرضية له كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنّ وَالإِنسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، وبها أرسل الله جميع الرسل كما قال سبحانه لنبيه محمد -صلى الله عليه وسلم: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رّسُولٍ إِلاّ نُوحِيَ إِلَيْهِ أَنّهُ لآ إِلَـَهَ إِلاّ أَنَاْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25] ولذلك اتفقت كلمة الأنبياء أجمعين على {يَقَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُمْ مّنْ إِلَـَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59]، والدين كله داخل في العبادة التي تتضمن غاية الذُّلّ لله بغاية المحبة له، ومن هنا تكون فضائل الأخلاق ومكارمها داخلة في إطار الدين وركنًا أساسيًّا من أركانه.
إن هذه الأخلاق الإيمانية هي وجه من الوجوه التي يتفاضل فيها الناس فيما يتعلق بزيادة الإيمان ونقصانه؛ فمِن المعلوم بالذوق الذي يجده كل مؤمن أن الناس يتفاضلون في حب الله ورسوله وخشية الله والإنابة إليه والتوكل عليه والإخلاص له، كما يتفاضلون في سلامة القلوب من الرياء والكبر والعجب والرحمة للخلق والنصح لهم ونحو ذلك من الأخلاق الإيمانية، ومصداق هذا قوله -صلى الله عليه وسلم: ((أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا)).
ولما كانت الأخلاق من الإيمان بهذه المثابة كان الإيمان هو مصدر الإلزام الخلقي، بمعنى: أن الإيمان له قوته الإيجابية التي تعمل على تنمية المشاعر وتنقيتها، وأن القوة الإيمانية تترك بصماتها على اتجاهات السلوك الإنساني، ولا سيما في مجال العلاقات الإنسانية، يقول الله -تبارك وتعالى- في بيان حقيقة الإيمان: {إِنّمَا الْمُؤْمِنُونَ الّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَىَ رَبّهِمْ يَتَوَكّلُونَ}(2) {الّذِينَ يُقِيمُونَ الصّلاَةَ وَمِمّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ}(3) {أُوْلَـَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال: 2- 4] فلقد نصَّت هذه الآيات على خمس صفات للمؤمن الحق، وهذه الخمس -كما يقول ابن تيمية- تتضمن ما عداها، فإنه سبحانه ذَكر وجل القلوب إذا ذكر الله، وزيادة الإيمان إذا تليت الآيات، مع التوكل على الله وإقام الصلاة والإنفاق في سبيل الله، فكان هذا مستلزمًا للباقي؛ لأن وجل القلب عند ذكر الله يقتضي خشيته والخوف منه، وإذا كان وجل القلب من ذكر الله يتضمن خشيته ومخافته، فذلك يدعو صاحبه إلى فعل المأمور وترك المحظور.
وقد استخلص من ذلك بعض الباحثين أن الالتزام الخلقي الناتج عن الإيمان تكون له دومًا مصادره أو روافده التي تزكيه وتزيد من عمقه وثباته، سواء في مجال الإقدام على الخير أو في مجال الابتعاد عن الشر، وكلاهما لازمٌ للآخر حسب ما تقضي بذلك طبيعة الإيمان.