علاقة الاستشراق بالاستعمار
أنتقل بعد ذلك إلى سؤال مهم جدًّا: هل للاستشراق علاقة بالاستعمار، الاستعمار العسكري؟ نحن نتناول الاستشراق الآن على أنه ظاهرة من ظواهر الغزو الفكري، لكن هل لهذا اللون من الغزو الفكري علاقة بالغزو العسكري في العالم العربي والعالم الإسلامي؟ هذا ما أريد أن أوضّحه لحضراتكم الآن -إن شاء الله تعالى. هذا سؤال مهم جدًّا: هل للاستشراق علاقة بالاستعمار العسكري؟
الإجابة على هذا السؤال تقتضي منّا أن نتعرّف على الآثار السيئة التي ظهرت في العالَم العربي والعالم الإسلامي خاصة على أقلام وفي كتابات وفي أعمال بعض المفكرين الذين وقعوا تحت سيطرة النفوذ الاستشراقي، إمّا انبهارًا بهذه الظاهرة، وترتب على هذا الانبهار: انتقال أو سفَر أو هجرة أو ابتعاث بعض الشخصيات إلى الدول الأوربية ليتتلمذوا على يد المستشرقين، أو استقدام بعض المستشرقين إلى بعض الجامعات العربية والإسلامية ليقوموا بالتعليم فيها، كما حدث مثلًا في الجامعات المصرية في أوّل عهدها حين تأسَّست في مطلع القرن العشرين، فكان القائمون على التدريس فيها معظمُهم من المستشرقين، وتربّى على أيديهم ثلة كبيرة أو نفر كبير من الذين حملوا الأقلام فيما بعد، وتحملوا عن المستشرقين عبء الدعوة إلى الأفكار التي حملها الاستشراق، وروّج لها هؤلاء في بلادهم. فالاستشراق نحن نعتبره من أهم الوسائل التي مهّدت للاستعمار العسكري، وغزو الشرق أولًا: غزوًا ثقافيًّا فكريًّا، وثانيًا: غزوًا عسكريًّا استعماريًّا؛ لأن غزو العقول أو غسيل العقول من الأفكار التي نعتقد صحتها، وإحلال أفكار جديدة وثقافة جديدة ورؤى جديدة يمهِّد لنشر الاستعمار العسكري، أو يجعل الأرض أو البيئة صالحة لتقبّل الاستعمار العسكري، ومعاونته في كثير من الأمور.
ومن المعلوم -وأصبح هذا حقيقة لا تحتاج إلى أدلّة ولا براهين: أنّ الاستعمار الحديث يعتمد على المستشرقين بصورة فعالة في دراسة نفسية الشعوب، ودراسة عادات الشعوب، وتقاليد الشعوب، وما هي أفضل الوسائل المتاحة للسيطرة على الشعوب بأقلّ قدْر ممكن من التكاليف. والذي يتابع أحداث القرن التاسع عشر والقرن العشرين -ولعل هذيْن القرنيْن هما أكثر القرون في النشاط الاستعماري الحديث- لعلّ من يتابع علاقة الشرق بالغرب في هذيْن القرنيْن يعلم تمامًا عُمق الصلة القويّة بين الاستعمار والاستشراق؛ ومن هنا: بماذا نفسِّر أننا نجد في كثير من سفارات الدول الاستعمارية مستشرقين عاملين بها؟ إمّا مستشارًا ثقافيًّا، أو مستشارًا إعلاميًّا، أو مستشارًا هندسيًّا، أو … أو … إلى آخره.
هؤلاء المستشرقون يقع على عاتقهم مهمّة الاتصال بالعقول المفكِّرة في البلاد التي يعيشون فيها، والتي يريدون السيطرة عليها ثقافيًّا أو عسكريًّا. وكذلك عن طريق هؤلاء المستشارين يتمّ الاتصال بكبار العاملين في المناصب القيادية في الدولة، وغالبًا ما يركزون على المناصب القيادية في مجالات الثقافة، في مجالات الإعلام، في مجالات التعليم العام، في مجالات التعليم العالي والجامعي، وأيضًا في مراكز البحوث. ولا تنقصهم الوسائل التي يفضِّلونها في محاولة احتواء هذه الشخصيات، إمّا عن طريق الصداقة الشخصية، أو الدعوات واستدعاء هؤلاء في أعمال ثقافية يقدِّمون لهم خلالها إتاوات مالية مجزية، أو تقديم الخبرة لهم، أو محاولة استضافتهم فترة زمنية معيّنة في بلاد أوربا، أو … أو … إلى آخره.
ولعلَّ آخِر ما وصلوا إليه هو: توظيف المرأة في الاستيلاء على بعض الشخصيات التي يريدونها.
نعم؛ هذه وقائع معروفة لكلّ مَن تتبّع هذه القضية. وعن طريق هذه الشخصيات يستطيعون تنفيذ الخطط التي يريدونها في غزو عقول البلاد التي يريدون السيطرة عليها فكريًّا، ثم عسكريًّا إذا اقتضى الأمر. ولقد استطاع الاستعمار الحديث أن يغزو معظم البلاد الإسلامية عبر هذا الطريق، كما استطاع أن ينفِّذ خططه في السيطرة على عقول كثير من المفكرين في بلادهم، ليكون هؤلاء المفكّرون هم الأداة الطَّيِّعة لتنفيذ برامج الاستعمار في هذه البلاد. وبلغ الأمر في ذلك حدًّا خطيرًا جدًّا، حتى إنّ كثيرًا من المشتغلين بالثقافة في معظم البلاد العربية والإسلامية جعلوا أنفسهم بمثابة وكلاء عن المستشرقين في الترويج لأفكارهم، والدعوة إلى تبنِّي آرائهم في الفكر الإسلامي وفي قضاياه.
فهذا مندوب عن “ماركس” والشيوعية يروِّج لها. وذاك مندوب عن الوضعية والوضعيِّين يروّج لأفكارهم. وثالثهم مندوب عن الوجودية والوجوديِّين يروِّج لها في بعض البلاد. وآخَر يدعو إلى القول بتأنيس الإله، أو تأليه الإنسان، أو أنسنة الألوهية، إلى آخر هذه الأمور التي ردّدها المستشرقون في القرن التاسع عشر، ووجدوا في البلاد العربية مَن يحمل عبئها نيابة عنهم في القرن العشرين. وللأسف الشديد، امتلأت المؤسسات الثقافية في كثير من البلاد العربية والإسلامية بوكلاء معتمدين لتوزيع الفكر الاستشراقي على المؤسسات العربية، وشحذ الوجدان العربي بهذه المفاهيم تحت مقولات مضللة كالتنوير والتقدمية والنهضوية، في مقابل وصم الاتجاه الإسلامي الأصيل بالتُّهم التي تَنفِّر أتباعه من الانتماء إليه كالرجعيِّين والمتخلِّفين والظلاميِّين … إلى آخره. من يتابع الحركة الثقافية في العالم العربي يدرك هذا الموقف جيدًا.
ولقد عمَد هؤلاء إلى إثارة الفتنة حول بعض القضايا الخلافية في الفكر الإسلامي، منهج الاصطياد في الماء العكر. أثاروا فتنًا كبيرة عن طريق إثارة قضايا هي أصلًا قضايا خلافية، كالْتفافهم حول قضايا المرأة في الإسلام: قضيّة الطلاق، قضية تعدّد الزوجات، قضية العصمة هل هي في يد الرجل أو المرأة؟ قضية القوامة. وأثاروا حول موضوعات المرأة وما يخصّها خلافات كثيرة جدًّا مزّقوا بها شمْل الأمّة، وفرّقوا بها الصف العربي، وكلمة العلماء. ومن وجهة نظري أنا شخصيًا، كانت هذه إحدى الوسائل التي شغلوا بها المفكِّرين عن عظائم الأمور؛ لأنها لا تمثّل فكرة جوهرية في الفكر الإسلامي ولا في الأصول العقائدية؛ لأنها كلها آراء موجودة في الفقه الإسلامي؛ لكن شغلوا بها المفكِّرين عن التفكير والعمل لعظائم الأمور التي تمسّ حياة الأمّة ونهضة الأمّة.
لقد نقلوا إلى العالَم الإسلامي مشكلات دخيلة على الفكر الإسلامي، لا وجود لها أصلًا في الإسلام، وإنما هي مشكلات موجودة في أوربا، نبتَت في أوربا وترعرعت في أوربا. وكانت أرضيتها هناك أرضية خصبة بحُكم ثقافة أوربا في العصور الوسطى، وبحكم الديانة التي كانت تدين بها في العصور الوسطى؛ ولكنهم نقلوها إلى العالم الإسلامي، وشغل المسلمون أنفسهم بهذه المشكلات الدخيلة، وبالبحث عن حلول لها، وفي واقع الأمر لم تكن هذه المشكلات أصلية في البيئة الإسلامية ولا في الفكر الإسلامي، لكن استوردوا المشكلة واستوردوا لها حلًّا أوربيًّا أيضًا. وفي الواقع: المشكلة ليست إسلامية، ولا الحل المستورد لها من أوربا يناسب الفكر الإسلامي. وكان هذا مجالًا واسعًا للفرقة والتعصب والتحزب للرأي ضد الرأي الآخَر، وما زال المسلمون يكتوون بنار هذه الفُرقة إلى الآن.
وكان من الآثار الخطيرة التي ترتّبت على إثارة هذه القضايا: أنّ فريقًا كبيرًا من المثقّفين العرب انقادوا وراء هذه الضجة، وأخذ البعض يتولّى نيابةً عن المستشرقين إثارة هذه الفتن بين صفوف المسلمين، ويتبنّى آراءهم ويدعو إلى الأخذ بأفكارهم. وبدلًا من أن يكون الخلاف دائرًا بين المسلمين كوحدة متماسكة والمستشرقين كجبهة مضادّة، انتقلت المعركة إلى أرض المسلمين أنفسهم، لتفرِّق صفوفهم وتمزِّق وحدتهم، فأصبحوا جبهات متعارضة بين مؤيِّد ومعارض، بين رافض للفكر الاستشراقي وداعٍ إليه. وهذه الفُرقة في الصف هي في ذاتها تمثِّل هدفًا وغاية سعى المستعمِر لتحقيقها خلال جهود المستشرقين. وكان شغل المسلمين بعضهم بعضًا حول هذه القضايا عاملًا مهمًّا جدًّا بالنسبة للمستشرقين، وهدفًا وغاية قصدوا من ورائها فقط بداية تمزيق الصف لتحقيق مقولتهم “فَرِّقْ تَسُدْ”. وشغلوا بذلك العلماء عن التفكير في مستقبل الأمّة الذي يعبث به الاستعمار، وكان كل ذلك تحقيقًا لأهداف سعى المستشرقون من ورائها إلى السيطرة على عقول نخبة كبيرة من المشتغلين بالثقافة العربية في بلادنا.
وفي مطلع هذا القرن، زرع المستشرقون الترويج -وهذا يا إخواننا نموذج فقط للآثار السيئة التي ترتّبت على جهود المستشرقين، وعلى الخلافات التي أثاروها بين صفوف المسلمين. كان مما أثاروه: تبنِّي ما يسمَّى بالفكر القومي، وأشاعوا وروّجوا لما يُسمّى بالقوميات. من المعلوم: أنّ الخلافة العثمانية كانت تمثِّل رمز وحدة المسلمين، وطالما كانت الخلافة الإسلامية قائمة كانت تمثل هاجسًا، وتمثِّل رعبًا في صدور مفكِّري أوربا وساستها، ولكيّ يتخلّصوا من هذا الهاجس عملوا على إضعاف هذه الخلافة، وعلى تقويض أركانها، وبدءوا ذلك بتوظيف أفكار المستشرقين في تفرقة الصف العربي، وكان ممّا أثاروه: الدعوة إلى القوميات، بدلًا من أن يكون الإسلام عامل وحدة للشعوب الإسلامية في شرق العالم وغرْبه، بذَروا بذور الفتنة، ونادَوْا بالقوميات بديلًا عن العقيدة الإسلامية. وتولّى إثم هذه القضية في عالمنا العربي: بعض العرب في بيروت -خاصة النصارى منهم- متأثِّرين في ذلك بدعوة مصطفى كمال أتاتورك الذي ينتمي إلى يهود الدونمة، والذي تربّى في نوادي أوربا، وجاء بفكرته الملعونة، فكرة القومية الطورانية، التي أراد أن يُحلّها مكان الديانة الإسلامية في الخلافة العثمانية في تركيا بالذات. واستطاع أن يجمع حولَه مجموعة من مفكِّري تركيا الذين انقادوا لفكرته، وتشبعوا بالفكر القومي، وكانوا يسمَّوْن بـ”جمعية الاتحاد والترقي”، واستطاع كمال أتاتورك بمعاونة “جمعية الاتحاد والترقي” أن يعمل على تقويض الخلافة العثمانية. وبمجرد أن انفرط عقد هذه الخلافة، بدأ الاستعمار يستولي على العالَم الإسلامي قطرًا قطرًا؛ تحقيقًا لهدفه: “فرِّق تَسُد”.