علاقة التنصير بالاستشراق
أنتقل الآن إلى قضية أخرى من القضايا التي تدلّنا على كيفية التعاون بين أجنحة الغرب التي ترفرف والتي تعمل في منطقتنا العربية وفي العالم الإسلامي، وذلك من طرح سؤال لا بد من الإجابة عليه: هل هناك علاقة بين التبشير وأهدافه ومناهجه، وبين الاستشراق كظاهرة؟ لمحاولة التعرف على الشرق التي تحدّثْنا عنها فيما مضى. لا بد من الإجابة على هذا السؤال؛ لأنه من الملاحظ: أننا وجدْنا أنّ كثيرًا من المستشرقين كانوا رجال لاهوت مسيحي، وكانوا -بالإضافة إلى طلبهم علْم الشرق، واهتمامهم بقضايا الشرق ثقافة وديانة وحضارة- كانوا هم أنفسهم يباشرون عملية التبشير في الوطن العربي وفي البلاد الإسلامية. وهنا يمكن أن يقال: إن أهداف سياسة التنصير قد تلتقي مع أهداف حركة الاستشراق في كثير من الأمور، خاصة ما يتّصل منها بالأهداف الدينية والثقافية، وما وجدناه من إجماع الطرفيْن -المستشرقين من جانب، والمنصِّرين من جانب آخَر- على القول بمركزية الحضارة الإنسانية، وارتباطها بأوربا وشعوب أوربا.
هذا كان أحد المحاور الرئيسة التي يدندن حولها المستشرقون والمبشِّرون: فكرة أوْرَبة الحضارة الإنسانية، وليس خارج أوربا شيء يمكن أن يسمّى حضارة، هكذا يقول المبشِّرون. وهكذا قال قبلهم المستشرقون. وهذا ما نجده واضحًا في كتابات المستشرقين والمبشِّرين ومَن دار في فَلَكهم على سواء، خاصة من الكتّاب العرب الذين يقومون بدوْر الطابور الخامس في تحقيق أهداف المستشرقين والمبشِّرين على سواء، وأنّهم يعلنون في بلادهم القول بأوْرَبة الفكر الإنساني قاطبة، والقولَ بضرورة الأخذ بالنموذج الأوربي، واقتفاء أثر أوربا، وأن نسلك مسالكهم حذو القذّة بالقذّة، إذا أراد المسلمون أن يعيشوا عصرهم وحضارتهم، وأن يتقدّموا كما تقدّم الأوربيون الآن.
وقد يكون مفيدًا لك -أيها القارئ الكريم- أن نُنبِّه هنا إلى أنّ هاتيْن الظاهرتيْن تُعتبران وجهيْن لعُملة واحدة: ظاهرة التبشير، وظاهرة الاستشراق: وجهان لعملة واحدة هي: موقف الغرب من الإسلام والمسلمين، وماذا يريده الغرب من الشرق الإسلامي. لذلك لا نجد غرابة أنّ بيْن هاتيْن الظاهرتيْن وحدة في الهدف أحيانًا، ووحدة في الوسائل أحيانًا أخرى. فقد يكون بعض المستشرقين مشتغلًا بعملية التنصير صراحة، وقد يكون المنصِّر مستشرقًا متواريًا تحت ظلّ معرفة الثقافة العربية والثقافة الإسلامية كما هو معروف في عصرنا الحاضر في كثير من البلاد الإسلامية والعربية.
وهنا ينبغي أن أضع تحت أعْيُن حضراتكم ما بيْن هاتيْن الظاهرتيْن من أوجُه الاتّفاق وأوجُه الاختلاف؛ لكي نكون على بيِّنة من أمْرنا:
أولًا: من ناحية الوسائل: نجد أنّ وسائل الاستشراق تتمَحْور في معظمها على الجانب العلمي، على البحث العلمي، ككتابة البحوث والكتب والمقالات، وعَقْد الندوات وعَقْد المؤتمرات الدولية أحيانًا، وأحيانًا يلجئون إلى المحاضرة. فنشاط الاستشراق عادة نشاط علمي وبحثي مجالُه: العلوم الإسلامية بفروعها المختلفة؛ ولذلك تجد بين المشتغلين بالاستشراق: المتخصّص في التفسير وعلومه، والمتخصِّص في الحديث وعلومه، والمتخصِّص في الفلسفة والتصوف، بل المتخصِّص في النحو، وعلم اللغة، والأدب، والشعر. وهذه التخصّصات كلّها قد وجدنا لكثير من المستشرقين مؤلّفات كبيرة جدًّا وكثيرة جدًّا تملأ هذه الفروع الثقافية المختلفة.
إذًا نشاط المستشرقين غالبًا يركِّز على الجوانب الثقافية بنواحيها المختلفة.
أمّا التبشير فغالبًا ما يركز على الجانب الاجتماعي، يبحث عن منطقة الفقراء، منطقة الجهَلة، منطقة العمالة، المناطق التي يسود فيها الفقر والجهل، لاستغلال هذه الظواهر الاجتماعية كوسيلة مؤثِّرة في تحقيق الأهداف. فيؤسسون المستشفيات، والمستوصفات، والملاجئ، والنوادي الاجتماعية، وبعض المدارس التعليمية تحت ستار: نشر العلم والتربية الحديثة في هذه المناطق، استغلالًا لحالتها الفقيرة وجهلها. وعن طريق هذه المؤسّسات الاجتماعية، يباشرون نشاطهم في نشر تعاليم الإنجيل. هذه واحدة.
إذًا الاستشراق يركِّز على الجانب الثقافي، أمّا التبشير فيركِّز على الجانب الاجتماعي.
ثانيًّا: نجد أنّ معظم المستشرقين في نشاطهم الثقافي يركِّزون على إقامة علاقات شخصية مع المثقّفين في البلاد التي يعملون فيها. فالمستشرق يحاول أن يتعرّف على المنطقة، ويتعرّف على أبرز الشخصيات المشتغلة بالثقافة في هذه المنطقة، ويكتشف ميوله النفسية، ميوله الثقافية، التعرف على مزاجه النفسي. وأيضًا لا بأس أن يتعرف المستشرق على أقطاب السياسة وأصحاب القرار السياسي في المنطقة التي يعمل فيها، والبحث عن أفضل الوسائل للتعامل مع هذه الشخصيات. وكان من وسيلتهم في ذلك: الكتاب، والمقال، والندوة، والصداقة الشخصية، خاصّة مع كبار المسئولين عن القرار السياسي، المسئولين عن القرار الثقافي، العائدين من البعثات التعليمية في دول أوربا، وخاصة من دولة فرنسا بالذات. وغالبًا ما تؤتي هذه الصداقات ثمارها في تنفيذ أهداف المستشرقين.
ولعل النظرة السريعة إلى خريطة توزيع الوظائف المؤثرة ثقافيًّا وسياسيًّا في وطننا العربي تؤكد لك صدق هذه القضية: أنّ المستشرقين يركِّزون على شخصيات معيّنة في المنطقة التي يعملون فيها: شخصية ثقافية، شخصية ذات تأثير في القرار السياسي. فمعظم العائدين من البعثات -خاصة من فرنسا- سرعان ما يتبوّءون مراكز القيادة الثقافية في بلادهم، ومن خلال موقعهم الوظيفي يملكون اتخاذ القرار وتنفيذ القرار.
أما المبشِّرون: فيركّزون في خطابهم على الطبقات الدنيا والفقيرة في المجتمع، الطبقات التي لا حظّ لها من الثقافة، ولا حظّ لها من التعليم، ولا حظّ لها من الثراء، وتحاول أن تسدَّ رمقها وتروي ظمأها. والطريق إلى مخاطبة هذه الطبقة من المجتمع هو: تقديم لقمة الخبز للفقير، وكسوة العريان، والدواء للمريض. فكأنّ المستشرق يتعامل مع طبقة معيّنة في المجتمع، والمبشِّر يتعامل مع طبقة أخرى مختلفة تمامًا في المجتمع؛ ولا مانع أن يحدث تداخل بين الطبقتيْن، لكن هذا في الأعمّ الأغلب.
ثالثًا: من مناهجهم في العمل أيضًا: أنّ المبشِّر لا يلجأ إلى الطعن في الإسلام بطريق مباشر، وإنما يبدأ حواره مع المسلم بالحديث عن الجوانب الاجتماعية -ماذا يهمّه؟ ماذا يشغل ذهنه؟- والتي تمثّل نقطة الضعف في حياته. ممّ يعاني؟ ما هي الأزمات المالية أو الاجتماعية التي يبحث عن حلول لها؟ عكس المستشرق؛ فإنه من خلال ثقافته وتخصّصه نجده يلجأ مباشرة إلى النّيْل من الإسلام في مؤلّفاته وكُتبه، وفي مقالاته وبحوثه؛ فينال من الإسلام، ينال من الرسول، وينال من القرآن بشكل مباشر تحت ستار البحث العلمي، وتحت ستار الموضوعية في البحث. ولا يلبث أن يعلن رأيه بشكل مباشر وصريح، فيطعن في نبوّة الرسول صلى الله عليه وسلم ويطعن في ألوهية القرآن، وأنه من عند محمد.
ويمكن أن نُعرِّف التنصير من خلال المنهج الذي يسلكه هؤلاء المبشِّرون بأنه: محاولة للوصول إلى قلب هذه الطبقات الدنيا في المجتمع؛ لأن هذا يميّز عمل المبشرين عن عمل المستشرقين في هذه المنطقة من العالم بالذات. ولا ينبغي أن ننسى أن مهمّة التنصير بين المسيحيِّين ضرورية، ولا بد أن يتعاونوا للنهوض بها كأفراد وجماعات؛ هذا حسب ما توصيهم به التعاليم التي وجدوها مبثوثة في الأناجيل التي بين أيديهم الآن. ولذلك نجد كثيرًا ما يتردّد على ألسنتهم قولهم: “فلتذْهب إليهم” على لسان عيسى عليه السلام يوصي أتباعه بهذه العبارة: “فلتذهب إليهم، وليكن لك أتباع بين جميع الأمم. ويجب أن يعمّ الإنجيل كلّ أمم الأرض”.
هذه بعض المعالم التي يمكن أن نفرِّق بها بين وسائل ومناهج الاستشراق، ووسائل ومناهج التبشير.
أمّا الأهداف والغايات والمقاصد لكلٍّ منهما، فلا شك أنّها أهداف واحدة، وهي: تناول الإسلام أصوله وفروعه، تناول التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية، بالتشكيك والتشويه في ذهن الأتباع، وتنفير الآخَرين منها.
هذه بعض النقاط التي أردت أن أضعها أمام حضراتكم فيما يتعلق بعلاقة التبشير بالاستشراق من جانب، ودَوْر العمالة المهاجرة في دول الخليج من جانب آخَر، ونشاط المبشرين في مصر، ومحاولة استغلال ظروف الاستعمار والعمل تحت حمايته لنشر أفكارهم في مصر.