Top
Image Alt

علاقة التنصير بالاستعمار

  /  علاقة التنصير بالاستعمار

علاقة التنصير بالاستعمار

أنتقل الآن إلى طرح سؤال آخَر: هل هناك علاقة بين التبشير والاستعمار؟ أظن أننا طرحنا السؤال ونحن نتحدث عن الاستشراق. وقلنا: إنّ الاستشراق يُمثِّل الطليعة الطبيعية للاستعمار العسكري. لكن السؤال المطروح هنا الآن يتعلق بالتبشير، برجال الدين المسيحي. المفروض: أنّ عمَلهم دينيّ بحت، لكننا للأسف الشديد وجدنا أن المبشرين يقومون بدور استعماري إمّا بطريق مباشر، وإمّا بطريق رسم الخطط ومعاونة الاستعمار في تحقيق أهدافه؛ لأن طرح السؤال في هذه المرحلة من الدروس مهمٌّ جدًّا؛ لأن الذي يتابع الحالة السياسية في العالم المعاصر الآن، خاصة في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، بل لا نكون مبالغين أن هذه الظاهرة -ظاهرة ارتباط التبشير بالاستعمار، واستعانة الاستعمار بالمبشرين- ربما نجدها تمتد إلى بداية عصر الاستعمار الأوربي للشرق، وللهند أيضًا وباكستان؛ لأنه وجدنا أن استعمار أوربا لكثير من بلاد العالم الإسلامي في القرن التاسع عشر والقرن العشرين قد أدّى إلى نشاط ملحوظ جدًّا في نشر المؤسسات التبشيرية في كل من إفريقيا وآسيا، وتمكّن المبشِّرون في ظل هذا الاستعمار من العمل بحرية، ودون خوف. وقد قامت الدول المستعمِرة بتوفير الحماية لهؤلاء المبشِّرين، كما عملت في الوقت نفسه على التضييق، بل والمعاقبة لكلّ من يقف في وجه المبشرين من الدعاة الإسلاميين، أو من المؤسسات الإسلامية. وقد قامت دول الاستعمار بذلك نصرة للمسيحية التي هي أصل من أصول الحضارة الأوربية، حتى وإن تمرّدت عليها الحكومات، ثم تحقيقًا للمصالح التي تتحقّق لهذا الاستعمار إذا ما انتشرت المسيحية في هذه البلاد. وقد لا تكون هذه المصالح مصالح سياسية، بل إنها أيضًا تمتد لتشمل المصالح الاقتصادية والمصالح المادية أيضًا، وربما مصالح دينية تتشابك مع المصالح الاقتصادية لهذه الدولة أو تلك.

ولعل الدول المستعمِرة قد وجدت الفرصة سانحة لتردّ الجميل لعمل المستشرقين الذي بدأ بعد نهاية الحروب الصليبية مباشرة؛ لأننا قلنا في حديثنا الأول عن التبشير: إن أوّل من مارس هذه المهنة هو “ريمون لول” في القرن الثاني عشر الميلادي، وكان مبشرًا ومستشرقًا. وتكلّمنا فيما سبق عن علاقة الاستشراق بالاستعمار، فكأن الدول الاستعمارية أحسّت بشيء من الجميل تجاه الاستشراق وتجاه المبشرين من المستشرقين، فمن أجل ذلك بسطت عليهم الحماية في شتّى أنحاء المعمورة. لذلك وجدنا أنّ الاستعمار والتبشير، ورجال الاقتصاد ورجال المال، يتعاونون جميعًا على حساب مصالح البلاد الإسلامية وشعوبها. وقد تم الإفصاح عن هذا التعاون صراحة على ألْسنة الكثيرين منهم، حتى إننا نجد أنّ وعد “بلفور”، ولا يخفى على حضراتكم من هو “بلفور” صاحب الوعد المشئوم، الذي يتضمّن وعدًا بمعاونة اليهود على إنشاء وطن قومي لهم في فلسطين على حساب أهلها. ماذا كان يعمل “بلفور” هذا؟ كان رئيس شرف لمؤتمر تبشيري كبير عقد في أدنبرة باسكتلندا سنة 1910م. وقد صرّح هذا الرجل في ختام المؤتمر بقوله: “إن المبشرين هم ساعد لكلّ الحكومات الأوربية في أمور مهمة جدًّا، ولولاهم لتعذّر علينا أن نقاوم كثيرًا من العقبات؛ وعلى هذا فنحن في حاجة إلى لجنة دائمة يُناط بها التوسط والعمل لما فيه مصلحة المبشرين”.

هذا “بلفور” الذي أعلن عن الوعد المشئوم بإعطاء أرض فلسطين هدية لإسرائيل. ونجد وزير معارف هولندا افتتح مؤتمرًا للمبشِّرين والمسشرقين في ليدن سنة 1931م افتتح خطابه بقوله: “إن اتّساع الأمّة الهولندية في الشرق لم يكن القصد منه المكاسب المادية؛ بل أكثر ما قصدتْه هولندا بذلك هو نشر فضائل النصرانية بين أهالي هذه الشعوب”. ونجد من جهة أخرى: أن رئيس الغرفة التجارية في هامبورج يصرّح بقوله: “إن نموّ ثروة الاستعمار تتوقف تمامًا على أهمية الرجال الذين يذهبون إلى هذه المستعمرات. وأهم وسيلة للحصول على هذه الأمنية: إدخال الدين المسيحي في البلاد المستعمرة؛ لأن هذا هو الشرط الأساسي للحصول على الأمنية المنشودة حتى من الوجهة الاقتصادية”.

هذه الفترة التاريخية قد شهدت فيها الدولة العثمانية بعض مظاهر الضعف، أو بدت عليها بعض مظاهر الضعف؛ فوجدنا أنّ البلاد العربية التي وقعت تحت الاحتلال أخذت تتأثر بدعوة الاستعمار عن طريق نشر فكرة القوميات، وبدأت تتأثر بهذه الأفكار، وبنشاط المبشرين في هذه البلاد. ووجدنا أن أحد المبشرين الكبار يكتب بصراحة عن العلاقة المتبادلة بين وظيفة المبشِّر ووظيفة المستعمِر، حتى إنَّ مبشرًا أمريكيًّا يسمى “جاك مندلسون” يصرِّح في أكثر من موضع من كتابه الذي وضعه عن تاريخ التبشير، يقول: “لقد تمّت محاولات نشيطة لاستعمال المبشِّرين لا لمصلحة المسيحية، وإنما لخدمة الاستعمار”. ووجدنا “نابليون” المعروف -صاحب الحملة الفرنسية على الشرق- يصرِّح في منشوره الذي أعلنه في مجلس الدولة في فرنسا بتاريخ 22 مايو 1894م يقول: “إنَّ في نيّتي إنشاء مؤسّسة إرسالية تبشيرية؛ لأن هؤلاء الرجال المتديِّنون سيكونون عونًا لنا كبيرًا في آسيا وفي إفريقيا. سوف أرسلهم لجمع المعلومات عن هذه الأقطار. لماذا؟ لأن ملابسهم الدينية سوف تحميهم وتخفي أية نوايا اقتصادية أو سياسية أو استعمارية عن أعين الناظرين”. هذا ما صرّح به كثير من المبشرين ومن السياسيِّين أنفسهم عن علاقة التبشير بالاستعمار.

بل أكثر من هذا: نجد أنّ البابا أكّد في كثير من المواقف على دعم بعثات التبشير في إفريقيا وآسيا، وأن تمدّ يد المعاونة عن طريق جمع المعلومات لحكوماتهم؛ حتى تستطيع أن تعمل في ظل هذه الحكومات. ولا يخفى على حضراتكم ما وجد في العصر الحديث -خاصة في أواخر القرن العشرين- ودعوى المبشرين في إفريقيا: أنهم أتوا إليها لقصد التنوير، ونشر التعليم، ونشر الثقافة؛ حتى إننا وجدنا أكثر من أربعمائة منظمة كنسية أمريكية تعمل في هذه المنطقة تحت هذه العناوين المزيّفة. وبعد أن انكشف أمر هذه المؤسسات التبشيرية وجدنا أبناء إفريقيا أنفسهم يصبّون لعناتهم وجام غضبهم على هذه المؤسسات؛ لأنها خدعتْهم خدعة كبيرة، وقدّمتهم لقمة سائغة لاستعمار عسكري سياسي اقتصادي نهبَ خيرات هذه البلاد، ابتداءً من فرنسا، وإيطاليا، وهولندا، وبلجيكا. هذه البلاد كلها وضعت يدها على هذه المناطق في وسط وقلب وشرق أفريقيا بعون من عمل المبشرين، وعن طريق المعلومات التي كان يغذِّيهم بها المبشرون عن أهالي هذه المنطقة.

لا يكفي هذا حتى نبرهن على أنَّ التبشير كان يعمل في خدمة الاستعمار، ولكن سوف أضع أمام حضراتكم نصًّا في غاية الغرابة. يقول أحدُ رواد العمل السياسي في إفريقيا، وهو أحد قواد الحملة العسكرية التي أتت من البرتغال إلى هذه البلاد، ماذا يقول هذا الرجل؟ يقول: “لم نأتِ إلى هنا حبًّا للرب، ولكن حبًّا في البرتغال؛ لأنّ كل المبشرين الكاثوليك -وإن لم يسمّوا موظفين رسميِّين تحت إمرتنا- فإنهم يُعدُّون موظفين في الخدمة الخاصة للمصالح الوطنية والمدنية لصالح البرتغال. إن الأعمال الإرسالية في هذه المستعمرات تكفلها الحكومة، وتموّلها الدولة؛ فلا ينبغي أن يعملوا إلا لصالح الدولة”.

ليس هناك ما هو أكثر تصريحًا عن علاقة التبشير بالاستعمار من هذا النص. وبالإضافة إلى ذلك نجد “مندلسون” يعقد لنا مقارنة بين عمل المبشرين في إفريقيا بالذات، وما فعلوه مع طلاب إفريقيا، والمصالح التي قدّموها للمستعمرين في هذه البلاد، ويقول: “إن المبشِّر الوحيد كان يقوم بخدمات جليلة أكثر من حامل البندقية وحامل السلاح في الحملة العسكرية”.

لقد قدّم المبشرون خدمات جليلة لهذه الحملات العسكرية التي وطئت هذه البلاد، ولولا عمليات التبشير لما استغل وما استعمر هذه البلاد لا فرنسا ولا إيطاليا ولا بلجيكا بهذه السهولة واليسر التي وجدوها في هذه الحملات العسكرية.

هذه -إخوتي وأخواتي- بعض الملامح التي تبيِّن لنا علاقة الاستعمار بالتبشير. وتكلمنا -فيما سبق- عن علاقة الاستشراق بالاستعمار، وهنا يمكن أن نتصوّر مثلثًا له ثلاث زوايا، لو وضعنا على زاوية الرأس الاستعمار، ووضعنا تحت في زاويتي القاعدة: الاستشراق من جانب، والتبشير من جانب آخَر، يمكن أن نتخيّل أن هذه المحاور الثلاثة: الاستعمار العسكري، الاستشراق، التبشير: هي التي تمثِّل محاور الهدم، محاور التغريب، محاور استعمار البلاد الإسلامية والبلاد العربية استعمارًا سياسيًّا وفكريًّا أولًا، ثم استعمارًا عسكريًّا ثانيًا. فيكون الاستعمار الفكري، أو الغزو الفكري، أو الغزو الثقافي، سواء تمّ على يد المبشرين أو علي يد المستشرقين يمثِّل طليعة ومقدّمة طبيعية للاستعمار العسكري.

هنا سؤال أيضًا لا بد أن أكمل به الدائرة، وهو: هل هناك علاقة بين التبشير والحركة الصهيونية؟ ربما نتكلّم عنها فيما بعد عندما نتحدث عن الصهيونية، ولكن أجد هنا السؤال مهمًّا لتكتمل الدائرة أمام حضراتكم: الاستعمار العسكري، الاستشراق، التبشير، الصهيونية. نعم نجد هناك علاقة قوية بين حركة التبشير -أو ظاهرة التبشير- وبين الحركة الصهيونية العالمية. قد دلت على ذلك الوقائع التاريخية، والوثائق الرسمية التي دوّنها بعض المبشرين أحيانًا، وأعلنها أخيرًا بعض رجال السياسة الذين يعملون لحساب دولة إسرائيل في وقتنا الحاضر؛ لأن باكتمال هذه الدائرة تتّضح الرؤية أمامنا. لماذا هذا الإصرار على تجاهل الحقوق العربية والحقوق الإسلامية المتمثّلة في أرض فلسطين، والحرص كل الحرص على الانتصار والتزلف -بل والنفاق أحيانًا- لمصالح إسرائيل في هذه المنطقة؟ إن هذه الأسئلة لا بد مِن طرْحها علينا ونحن في هذه المرحلة من الدراسة؛ لأننا سوف نجد أنّ جميع المستشرقين إلا قليلًا منهم، وجميع المبشرين أيضًا إلا مَن أعلن إسلامه منهم، يمدّون يد العون للحركة الصهيونية العالمية. وقد استعانت بهم الحركة الصهيونية العالمية كثيرًا -خاصة بعد مؤتمر “بال” الذي عقده “هرتزل” وجدنا كلّ هذه الأيدي تتشابك وتتعاون فيما بينها، حتى ولّدوا دولة إسرائيل من التاريخ بولادة قيصرية غير شرعية.

error: النص محمي !!