علامات الوضع في المتن
أما علامات الوضع في المتن فلها قرائن كثيرة منها: الركاكة في اللفظ أو في المعنى، وإن كان حصل نقاش يسير في هذا. فالحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى- يقول فيما نقله السيوطي في (تدريب الراوي)، ونقله أيضًا الشيخ أحمد شاكر في (الباعث الحثيث) نقلًا عن ابن حجر: المدار في الرِّكة على ركة المعنى، فحيثما وجدت دلت على الوضع وإن لم ينضم إليها ركة اللفظ؛ لأن الدين كله محاسن والركة ترجع إلى الرداءة، قال: أما ركاكة اللفظ فقط فلا تدل على ذلك لاحتمال أن يكون رواه بالمعنى فغير ألفاظه بغير فصيح.
نعم إن صرح بأنه من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم فكاذب، يعني ابن حجر في هذا النص يقول: إن ركاكة اللفظ فقط ليست دليلًا على وضع الحديث لاحتمال أن يكون الراوي رواه بالمعنى فلم يوفق إلى الإتيان بألفاظ تساوي أو تقترب من بلاغة النبي صلى الله عليه وسلم وفصاحته، فغير الألفاظ بغير فصيح، إذن المدار على ركاكة المعنى، لكن إذا صرح بأن الذي قاله من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم فهذا دليل على كذبه؛ لأنه لم يفتح الباب حتى لاحتمال أن يكون قد روى بالمعنى، إنما أصر على أن هذا هو لفظ النبي صلى الله عليه وسلم كما ورد عنه صلى الله عليه وسلم فهذا دليل على وضعه للحديث.
أيضًا من فساد المعنى: الأحاديث التي يكذبها الحس مثل حديث: “الباذنجان لما أُكل له” و”الباذنجان شفاء من كل داء”..
أيضًا: منها سماجه الحديث وكونه مما يُسخر منه مثل حديث: “لو كان الأرز رجلًا لكان حليمًا، ما أكله جائع إلا أشبعه”. يقول ابن القيم: فهذا من السمج البارد الذي يُصان عنه كلام العقلاء فضلًا عن كلام سيد الأنبياء وحديث: “الجوز دواء، والجبن داء، فإذ صار في الجوف صار شفاءً”. قال ابن القيّم أيضًا: فلعن الله واضعه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديث: “لو يعلم الناس ما في الحِلبة اشتروها بوزنها ذهبًا”. وحديث: “أحضروا موائدكم البقل فإنه مطردة للشيطان”. وحديث: “بئست البقلة الجرجير، من أكل منها ليلًا بات ونفسه تنازعه… إلى آخره”. يعني: ركاكة لا تقرأ، منها أحاديث تبيح المفاسد وتثير الشهوات أو تجري لها الشهوات، من قولهم: “ثلاثة تزيد في البصر: النظر إلى الخضرة، والماء الجاري، والوجه الحسن”، قال ابن القيم: وكل حديث فيه ذكر حسان الوجوه، أو الثناء عليهم، أو الأمر بالنظر إليهم، أو التماس الحوائج منهم، أو أن النار لا تمسهم فكذب مختلق وإفك مفترًى.
ومنها: أن يكون الحديث مما تقوم الشواهد الصحيحة على بطلانه، كحديث عِوج بن عنق الطويل الذي قصد واضعه الطعن في أخبار الأنبياء، فإنهم يجترئون على هذه الأخبار، فإن في هذا الحديث أن طوله كان ثلاثة آلاف ذراع وثلاث مائة وثلاثين… إلى آخره، وأن نوحًا لما خوفه الغرق قال له: احملني في قصعتك هذه، وأن الطوفان لم يصل إلى كعبه، وأنه إذا خاض البحر فوصل إلى حجزته، وأنه كان يأخذ الحوت من قرار البحر فيشويه في عين الشمس… إلى آخر هذه الترهات، هذا حديث فعلًا يقصد به الزنادقة أن يشوهوا وجه الدين؛ ولذلك يقول الإمام مالك في مثل هذا تهكمًا يسأل عن حديث يقول: اذهب إلى عبد الرحمن بن زيد بن أسلم يحدثك عن أبيه عن نوح عليه السلام، ويقصد أن سفينة نوح صلَّت بالمقام ركعتين وطافت بالبيت سبعًا، كل هذه ترهات ما أنزل الله بها من سلطان، والشواهد الصحيحة تقوم وتدل على بطلان هذا.
أيضًا: ما يناقض نص الكتاب والسنة المتواترة أو الإجماع القطعي، أو يناقض السنة مناقضة بيّنة، نرجو أن ننتبه إلى كلمة “مناقضة بينة” نحن عندنا أحاديث يبدو من ظاهرها التعارض، لا نسارع حينما يبدو التعارض بين حديثين نقول: إنهما متعارضان، ونقوم بردِّ أحدهما أو بردهما معًا، هذا لا يجوز، عندنا فن الجمع بين الأحاديث التي يبدو من ظاهرها التعارض وكتب مؤلفة في هذا الفن مثل: كتاب ابن فورك، وكتاب ابن قتيبة (مشكل الآثار) و(تأويل مختلف الحديث) لابن قتيبة، و(مشكل الآثار) للطحاوي وغيرها كثير، فن عظيم ينبغي على أهل العلم أن يحيطوا به قبل أن يتعرض للنظر في الأحاديث ويقول: هذا معارض لذاك، نحن ذكرنا هذا الأمر قبل ولا بأس من إعادته.
نقول: إذا صح الحديث أصبح أصلًا من أصول الشرع مثل القرآن ومثل بقية الأحاديث، أرجو أن ننتبه إلى هذه القواعد: إذا صح الحديث أصبح أصلًا من أصول الشرع هذا أمر، ويجب العمل به -هذه قاعدة ثانية وجوبًا- بصرف النظر عن النقاش الذي يثار في خبر الآحاد هل هو يفيد القطع أو يفيد الظن؟ الكلام عن خبر الآحاد في إفادته للظن أو القطع إنما هو كلام عن مدى نسبته للنبي صلى الله عليه وسلم هل نقطع بأن النبي صلى الله عليه وسلم قاله أو يغلب على ظننا؟ هذا نقاش له محله، لكن الفريقين معًا -كما نوهت في الدرس السابق- اتفقوا على أنه يجب على الأمة أن تعمل بما غلب على ظنها، فقضية وجوب العمل بالحديث متى صح لا علاقة لها بالقضية التي يثيرونها أحيانًا، وهي: حديث الآحاد يفيد القطع أو يفيد الظن، فالذين قالوا كما قلت: بإفادته الظن أو بإفادته القطع أجمعوا على وجوب العمل بالحديث متى صح. إذن إذا صح الحديث أصبح أصلًا من أصول الشرع ويجب العمل به.
القاعدة الثالثة: إنه لا يُصرف عن وجوب العمل به إلا بصارف شرعي ليس بالهوى وليس بالتذوق العقلي إنما بصارف شرعي، كأن يكون منسوخًا مثلًا، فالذي صرف طرف وجوب العمل به في هذه الحالة هو أنه قد نُسخ، والنسخ هذا من الشرع، الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم هما اللذان يشرّعان للأمة، فيقولان: هذا الحكم قد انتهى العمل به وباطل، إما يعوض عنه بحكم آخر. هذا كلام يبحثه أهل العلم والفقه والأصول في النسخ وبما يثبت… إلى آخره، لكن لا يصرف الحديث عن العمل أو عن وجوب العمل به من الأحرى إلا بصارف شرعي كأن يكون منسوخًا كما قلنا، أو أن يكون عامًّا ثم خصص بحديث آخر وهكذا.
ذكرنا أن الإمام الشافعي -رحمه الله- سئل عن صحة حديث، فقال: نعم -يعني: يقول بصحته- فقال: أتعمل به؟ -يعني: السائل الذي سأله عن صحة الحديث عاد وسأله: هل تعمل به؟- قال للسائل: يا فلان هل رأيتني خارجًا من كنيسة؟ قلت: هذه قصة أوردها السيوطي في (مفتاح الجنة) وردت في غيره من المصادر، يعني: كأنه يستنكر السؤال، هو لم يجب عن السؤال مباشرة، لم يقل: نعم أعمل به، إنما استنكر السؤال يعني: كيف يجول بخاطر مسلم أن أقول عن حديث: إنه صحيح ثم أتردد في العمل به من غير أن يكون عندي صارف شرعي يمنعني من العمل بهذا الحديث.
إذن لننتبه إلى هذه القواعد وهي لها صلة بما أتكلم فيه الآن، متى صح الحديث وجب العمل به، ولا يصرف عن هذا الوجوب إلا بصارف شرعي، وذكرت قبل أصبح أصلًا من أصول الشرع، ولا يوجد أصل شرعي يتعارض مع أصل شرعي آخر.
هذه قاعدة رابعة، أرجو من طلاب العلم أن يحفظوها جيدًا ويحسنوا فهمها ليتمكنوا من فهم دينهم والدفاع عن سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم نحن نرى كثيرًا النظر لأول وهلة هذا الحديث مخالف للعقل لا يوجد أصل شرعي يخالف أصلًا شرعيًا آخر لا يمكن لسبب واضح بدهي، وهو أن الشرع كله نبع وجاءنا من مشكاة واحدة وهي: الوحي من عند الله -تبارك وتعالى- فكيف يتعارض ما جاء من عند الله؟ القرآن من عند الله والسنة وحي من عند الله -تبارك وتعالى- وإن كان لفظها من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3، 4]. فلا يتعارض نص شرعي مع نص شرعي آخر.
القاعدة الخامسة: وما يبدو من ظاهره التعارض فإنه يندفع بوسيلة من الوسائل التي وضعها العلماء للجمع بين الأحاديث التي يبدو من ظاهرها التعارض؛ ولذلك قلنا: إن العلماء لا يستعملون حتى كلمة الحديث المتعارض، إنما يقولون: ما يبدو من ظاهره التعارض. لماذا قلت كل ذلك؟ لأننا نتكلم الآن عن القرائن التي يعرف بها الوضع في الحديث، فنقول: ما يناقض -انظر إلى دقة التعبيرات هنا- ما يناقض نص الكتاب والسنة لا ما يعارض، النقيضان -كما يقول أهل المنطق- لا يرتفعان ولا يجتمعان، لا يجوز خلو الأمر من أحدهما لا بد بالضرورة.
إذن لا يقال عن الحديث بأنه موضوع إلا إذا كان مناقضًا، ننظر إلى كلامهم يناقض نص الكتاب القرآن الكريم والسنة المتواترة أو الإجماع القطعي، الإجماع الذي قطع بأنه إجماع فعلًا مبني على القرآن والسنة؛ لأن دعاوى الإجماع تحتاج إلى متابعة كثيرًا ما يقول بعض العلماء: إنها مسائل مجمع عليها، ثم نجد خلافًا معتبرًا بين العلماء نحو هذا، فإذا وجدت الحديث يناقض الإجماع القطعي -أي: المقطوع به- في هذه الحالة، ونقول: مناقضة لا معارضة؛ لأن التعارض -كما قلت- يندفع بوجه من الوجوه المعتبرة عند العلماء.
من أمثلة مخالفة الحديث لصريح القرآن الكريم أن حديث: “مقدار الدنيا سبعة آلاف سنة”. هذا من أبين الكذب، إذن يقول ابن القيم وهو المتوفى سنة 751 يقول: لو كان صحيحًا لكان كل أحد عالمًا أنه قد بقي للقيامة من وقتنا هذا -أي من وقت ابن القيم الذي مات في سنة 750أو 751- مائتان وواحد وخمسين سنة، والله تعالى يقول: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ} [الأعراف: 187] وقال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} [ لقمان: 34 ] أشياء خمسة انفرد الله -تبارك وتعالى- بعلمها: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}. وآية الأعراف التي قرأناها: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا}. لا يظهرها لوقتها إلا هو سبحانه وتعالى فالله -تبارك وتعالى- انفرد بعلمها.
والخلاصة أن علم الساعة قد انفرد به علم الله عز وجل هذا أمر واضح وبين ومن بديهيات الشرع ومن الأمور المعلومة بالضرورة، لكن أردنا أن نثبت أن الحديث الذي يحدد عمر الدنيا بأنه مناقض للقرآن الكريم ولسنة النبي صلى الله عليه وسلم.
أيضًا من الأدلة على الوضع التي تكون في طيات المتن: أن يُدَّعى على النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعل أمرًا ظاهرًا بمحضر من الصحابة كلهم، وأنهم اتفقوا على كتمانه ولم ينقلوه -أعوذ بالله- وهذا زعمته الشيعة وهم أكذب الطوائف الذين أفرطوا في الوضع وفي الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، زعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بيد علي بن أبي طالب بمحضر من الصحابة كلهم -حين عودتهم من حجة الوداع- فأقامه بينهم حتى عرفه الجميع، ثم قال: “هذا وصيي وأخي والخليفة من بعدي فاسمعوا له وأطيعوا”. ثم اتفق الكل على كتمان ذلك وتغييره ومخالفته، ألا لعنة الله على الكاذبين.
أيضًا من الأدلة على الوضع: أن يخالف الحقائق التاريخية التي جرت في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم مثل: حديث “وضع الجزية عن أهل خيبر” هو كذب من عدة وجوه: اليهود جاءوا بكتاب مزوَّر زعموا فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قد وضع الجزية عن يهود خيبر، وفيه أن سعد بن معاذ -رحمه الله تعالى- قد شهد على ذلك، وأن الذي كتب هو معاوية بن أبي سفيان… إلى آخره، وهذه قصة مشهورة وتدل على دقة علمائنا، وقد جاءوا بكتاب في عصر الخطيب البغدادي ودفعوه إلى الخليفة فأعطاه الخليفة للخطيب ليقرأه فقال: هو مزور من عدة وجوه وأقام الأدلة.
إذن هذا الأمر يخالف الحقائق التاريخية من بعض هذه الوجوه التي يخالفها: أن فيه شهادة سعد بن معاذ، سعد كما يعلم الجميع رضي الله عنه قد توفي في غزوة الخندق في سنة خمسة، بل إن الإمام البخاري يرى أن غزوة الخندق كانت في سنة أربعة، وهو قد أصيب بجرح في تلك الغزوة هو الذي حكم على يهود بني قريظة بالقتل والنبي صلى الله عليه وسلم قال: “لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سنوات يا سعد” توفي بعدها بقليل في سنة خمسة، وفتح خيبر كان في صفر سنة سبعة، فهل شهد سعد بعد وفاته بعامين تقريبًا؟
أيضًا أن فيه “وكتب معاوية بن أبي سفيان هكذا” ومعاوية بالتأكيد أسلم سنة ثمانية، لكن هناك خلاف بين العلماء هل هو من الطلقاء من مسلمة الفتح أو هو قد هاجر للنبي صلى الله عليه وسلم؟ وهاجر رضي الله عنه إلى المدينة، والتقى بالنبي صلى الله عليه وسلم وكان من كتّاب الوحي أيضًا لكن ذلك بعد سنة ثمانية، أما في سنة ثمانية إما قبل فتح مكة أو بعده، لكن في كل الأحوال لم يكن حاضرًا فتح خيبر.
أيضًا الشاهد مزور والكاتب أيضًا مزور أن الجزية لم تكن قد نزلت بعد ولا يعرفها الصحابة، الجزية نزلت بعد عودتهم من غزوة تبوك في سنة تسعة في آية التوبة: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29]. فوضعها النبي صلى الله عليه وسلم على نصارى نجران وعلى يهود اليمن، ولم تأخذ من يهود المدينة؛ لأنهم وادعوه قبل نزولها ثم خانوا، فكل الطوائف التي كانت في المدينة قد أجلوا عنها قبل فتح خيبر، يهود بني قينقاع أجلوا عن المدينة في السنة الثانية من الهجرة في قصة المعروفة، يهود بني النضير أجلوا عن المدينة في سنة أربعة في غزوة بني النضير أيضًا بخيانة معروفة، ونزلت فيهم سورة الحشر كاملةً.
ويهود بني قريظة قتلوا بعد غزوة الخندق لخيانتهم وتعاونهم مع المشركين ضد المسلمين في غزوة الخندق التي كان المشركون يحيطون فيها بالمدينة يريدون القضاء على الإسلام وأهله، ورغم أن المعاهدة مع اليهود كانت تلزمهم بالدفاع عن المدينة مع المسلمين؛ لأنها وطنهم التي يسكنوها إلا أن دم الخيانة يجرى دائمًا في عروق اليهود؛ لذلك انقلبوا إلى خونة وانقلبوا إلى أعداء وهذه قصة معروفة في السيرة، والمهم أنهم نزلوا على حكم سعد بن معاذ الذي كان حليفًا لهم في الجاهلية وظنوا أنه يكون رحيمًا بهم، لكن ولاءه لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم تقدم على كل الولاءات الأخرى، وحكم فيهم بأن يقتل رجالهم وأن تُسبى نساؤهم وزراريهم وأن تكون أموالهم غنيمة للمسلمين، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات يا سعد.
هذه قصة الطوائف الثلاثة من اليهود الذين كانوا يسكنون المدينة مع المسلمين وانتهت قصتهم فيها بخروج بعضهم وقتل بعضهم، بخروج بني قينقاع وبني النضير كما ذكرنا، وبقتل بني قريظة، والمهم أن الطوائف الثلاث قد انتهت علاقتهم بالمدينة قبل فتح خيبر الذي كان في شهر صفر من سنة سبعة للهجرة، وصالحه أهل خيبر قبل فرض الجزية، فلما نزلت آية الجزية استقر الأمر على ما كان عليه، وابتدأ فرضها على من لم يتقدم له صلح مع المسلمين.
أيضًا من الدلائل على وضع هذا العهد الذي قالوه في وضع الجزية عن أهل خيبر: أنه لم يجعل لهم عهدًا لازمًا، بل قال لهم: نقركم ما شئنا، فكيف يضع عنهم الجزية التي يصير لأهل الذمة بها عهد لازم مؤبد، ثم لا يثبت لهم أمانًا لازمًا مؤبدًا؟ هذا يتنافي مع قواعد الإسلام المستمدة من القرآن الكريم ومن السنة المطهرة.
أيضًا أن مثل هذا الأمر من الأمور الهامة جدًّا في الإسلام: وضع الجزية عن بعض الطوائف، ولأهميته كانت الهمم والدواعي تتوافر وتتوفر على نقله، فكيف يكون قد وقع ولا يكون علمه عند حملة السنة من الصحابة والتابعين وأئمة الحديث، وينفرد بعلمه ونقله اليهود فقط؟ إن كل مصادرنا الصحيحة مثل: صحيحي البخاري ومسلم لم تُشر إلى وضع الجزية عن يهود خيبر فيثبت بذلك أن هذا الكتاب موضوع.
أيضًا من الأدلة على ذلك: إن أهل خيبر لم يتقدم لهم من الإحسان ما يوجب وضع الجزية عنهم، فإنهم حاربوا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وقاتلوه وقاتلوا أصحابه، وسلُّوا السيوف في وجوههم، وسمُّوا النبي صلى الله عليه وسلم وآووا أعداءه المحاربين له المحرضين على قتاله، فمن أين يقع هذا الاعتناء بهم؟ وكيف يسقط هذا الفرض عنهم الذي جعله الله تعالى عقوبة لمن لم يؤمن منهم بدين الإسلام؟
أيضًا من الأدلة على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسقطها عن الأبعدين عن المدينة مع عدم معاداتهم له كأهل اليمن وأهل نجران، فكيف يضعها عن الجيران الأقربين مع شدة المعاداة للإسلام ولأهله، ومع كفرهم وعنادهم، ومع تربصهم الدوائر بالمسلمين في كل مكان؟ ومن المعلوم أنه كلما اشتد كفر الطائفة وغلظت عداوتهم كانوا أحق بالعقوبة لا بإسقاط الجزية التي تعني الرحمة والرأفة.
أيضًا من الأدلة على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم لو أسقط عنهم الجزية كما ذكروا لكانوا من أحسن الكفار حالًا، ولم يحسن بعد ذلك أن يشترط لهم إخراجهم من أرضهم وبلادهم متى شاء، فإن أهل الذمة الذين يقرون بالجزية لا يجوز إخراجهم من أرضهم وديارهم ما داموا ملتزمين بأحكام الذمة، فكيف إذا روعي جانبهم بإسقاط الجزية وأعفوا من الصَّغار الذي يلحقهم بأدائها؟ فأي صغار بعد ذلك أعظم من نفيهم من بلادهم وتشتيتهم في أرض الغربة هل يجتمع هذا وذاك؟ هل يجتمع إسقاط الجزية عنهم الذي يعني الرحمة والعفو مع نفيهم من بلادهم وتشتيتهم في أرض الغربة؟
أيضًا لو صدق هذا أي: إن وضع الجزية عن أهل خيبر قد حدث حقًّا لما اجتمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعون والفقهاء كلهم على خلافه، وليس في الصحابة رجل واحد قال: لا تجب الجزية على أهل خيبر، لا يوجد ذلك من الصحابة، ولا في جيل التابعين، ولا في الفقهاء بعدهم، وأجمع أهل الإسلام على غير ذلك تمامًا، بل قالوا: أهل خيبر وغيرهم في الجزية سواء، وعرَّضوا بهذا الكتاب المكذوب بل صرحوا بأنه كذب كما ذكر ذلك جملة من أجل علمائنا مثل: الشيخ أبي حامد، والقاضي أبي الطيب، والقاضي أبي يعلى وغيرهم، وقد أشار إلى ذلك ابن القيم -رحمه الله- في (المنار المنيف في الحديث الضعيف).
هذا أمر خطير تتوافر بالدواعي على نقله كما ذكرنا، ومع ذلك نجد أهل العلم قاطبة من المسلمين في كل الأجيال وعلى امتداد كل العصور يقولون بعكس ذلك تمامًا، مما يدل على كذب هذا الكتاب، إذن قد توفرت أدلة كثيرة على وضعه وأنه مفترى مكذوب على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أيضًا من دلائل الوضع: أن يكون خبرًا على أمر جسيم كحصر العدو للحُجَّاج عن البيت، ثم لا ينقله منهم إلا واحد؛ لأن العادة جارية بتظاهر الأخبار وتعاونها وتأكيدها لبعضها في مثل هذه الأمور، فإن الحجيج مثلًا يعدُّون بالآلاف وإذا منعوا فقد منعوا جميعًا، ومع ذلك لا نجد أحدًا يذكر ذلك إلا القليل منهم، يمثِّل الأصوليون لهذا الأمر بمثال قد يقع أو قد لا يقع، يقولون: مثل قتل الخطيب على المنبر، يعني: الخطيب على المنبر والناس يصلون الجمعة وعددهم كثير، ومع ذلك لا ينقل أحد منهم أن الخطيب قد قتل إلا واحدًا منهم فقط.
أيضًا من الأدلة على وضع الحديث: أن يكون الحديث موافقًا لمذهب الراوي وهو متعصب مغالٍ جدًّا في تعصبه، كأن يروي شيعي مثلًا حديثًا في فضائل أهل البيت أو في ذمِّ مخالفيه، أو أن يضع مرجئي حديثًا في الإرجاء. إذن ومع ذلك فإن العلماء قالوا في مثل هذا أمر طيب، قالوا: ذلك لا يدل على الوضع تمامًا، كل ما يفيده أننا نتوقف حتى نتأكد هل هذا الحديث صحيح أو غير صحيح؟ بمعنى أن بدعة الراوي أورثتنا الشك، لا تورثنا ولا ينبغي أن تورثنا الرد الطلق، فقد يكون الحديث صحيحًا خصوصًا إذا كان الراوي ثقة أو صدوقًا، وليس كل مبتدعٍ كذوبًا وضاعًا، فكتب السنة الصحيحة تمتلئ بالرواة من الشيعة وغيرهم ممن هم من أهل البدع لكن صدقهم وأمانتهم وعدالتهم جعلت أهل الحديث يقبلون روايتهم.
غاية ما في الأمر أنهم يتوقفون فيما يمكن أن يتعلق ببدعتهم، وكما قلت: هذا التوقف لا يعني: الرد، فقد يرد الحديث من طرق أخرى صحيحة، ويكون اهتمامه بهذه الحالة لأنه يؤكد فكرته أو يؤكد ما يدعوا إليه، لكن أن يُرَد الحديث مطلقًا فهذا على غير مناهج العلماء، ومع ذلك قال البعض: إنه إذا كان الحديث موافقًا لمذهب الراوي -ولكنهم قالوا بهذا القيد- وهو متعصِّب مغالٍ في تعصبه، يعني: مما يجعلنا نشك ونرتاب في أمر هذا الحديث، فلا بد أن نبحث عنه هل هو قد ورد من طرق صحيحة أخرى، أو لا يوجد له إلا هذا الطريق الذي فيه هذا المتعصب المغالي فنرده في هذه الحالة بسبب غلوه في بدعته.
أيضًا من الأدلة على وضع الحديث اشتماله على مجازفات كثيرة، مثلًا “من قال لا إله إلا الله خلق الله من تلك الكلمة طائرًا له سبعون ألف لسان، لكل لسان سبعون ألف لؤلؤة يستغفرون الله له” و”من فعل كذا وكذا أعطي في الجنة كذا وكذا… إلى آخره”. هذه المجازفات المبالغة التي لا يخلو حال واضعها من أحد أمرين: إما أن يكون في غاية الجهل والحمق لا يدري ما يقول، ويضطرب كلامه ويتصادم مع بعضه، وليس له صلة وثيقة بالقرآن وبالسنة وبمنهج الإسلام في العقوبة وفي الجزاء الحسن. وإما أن يكون زنديقًا قصد التنقص بالإسلام، فهذا الأسلوب كان أحد أساليب الزنادقة لكي يشوِّهوا صورة الإسلام ويضيعوا مكانته في قلوب أتباعه، بتلك الترَّهات التي يحالون أن يضيفوها إلى السنة بنسبة أقوالٍ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها هذه المبالغات الشنيعة التي لا يمكن أن يتقبلها عقل راجح أبدًا. هذه أهم القواعد التي وضعها جهابذة علم الحديث لتمييز الموضوع من غيره، ونلاحظ أن هذه القواعد قد اشتملت على أمور كثيرة تتصل بالمتن مما يجعلنا نؤكد مرة ثانية عناية المحدثين بمتن الحديث، لا لندافع عن مدرسة الحديث كما ذكرنا قبل فقط ولكن لنؤكد هذه العناية الفائقة بسنة النبي صلى الله عليه وسلم.