علم اللغة الجغرافي، وأسباب نشأته، ومناهجه، والعلو م المتصلة به
إن علم اللغة الجغرافي أحدث من علم اللغة الوصفي، وقد أقبل العلماء عليه، وهو من التطور الذي حققه علم اللغة في القرن العشرين المنصرم في ميدان المنهج، فقد أثمر المنهج الجغرافي هذه الدراسة الجغرافية اللغوية، أو ما يسمى بعلم اللغة الجغرافي، وإذا كان القرن التاسع عشر، قد اشتهر بعلمي اللغة المقارن والتاريخ، فإن القرن العشرين قد اشتهر بعلمي اللغة الوصفي والجغرافي، وعلم اللغة الجغرافي -كما قلت- أحدث من علم اللغة الوصفي.
وهناك أسباب مباشرة نابعة من طبيعة البحث اللغوي قد أدَّت إلى ظهور المنهج الجغرافي، الذي أثمر كما علم اللغة الجغرافي، ومن أهم هذه الأسباب محاولة البحث في الواقع اللغوي عن التفسير اللغوي السليم لنظرية النحاة الشبان، التي ظهرت رد فعل لنظرية النحاة المحافظين؛ حيث أسفرت نظرية هؤلاء النحاة الشبان، عما يُسمى بجبرية الظواهر اللغوية.
بمعنى: أن اللغة تسير تبعًا لقوانين تشبه قوانين الطبيعة، هذه القوانين تُحدث في اللغة تغيرات متنوعة، صوتيًّا وصرفيًّا ونحويًّا ودلاليًّا، وبعد أن تنتشر هذه التغيرات اللغوية، تستقر وتُصبح جزءًا من النظام اللغوي، وتمثل في هذه الأثناء ظاهرة لغوية جديدة.
وكان لا بد لهذا الاتجاه الجديد الذي يُبعد باللغة عن الوقوع تحت تأثير الأفراد والجماعات، ويقضي بتعطيل العوامل النفسية والاجتماعية وغيرها، عن التأثير في اللغة كان لا بد لهذا الاتجاه الجديد من وجود ما يؤيده من خلال التطبيق اللغوي، فاندفع العلماء وخاصة النحاة الشبان إلى اللغات المستعملة، وكذلك اللهجات يدرسونها، ويبحثون فيها عن التفسير لنظريتهم، هذه الجهود أثمرت علم اللغة الجغرافي.
ومن العوامل المهمة أيضًا في ظهور هذا العلم اللغوي الجغرافي أن البحث اللغوي الحديث، أعني: في القرن العشرين المنصرم قد اتجه إلى اللهجات في الوقت الذي تجاهل دراستها آخرون، وخصوصًا في القرن التاسع عشر؛ حيث استمر اللغويون في تجاهل اللهجات المحلية، وأنكروا أن تكون اللغات الأدبية الرسمية، التي يُعنون بها ويدرسونها ويقارنون بينها هي نتيجة هذه اللهجات الشعبية التلقائية، واعتبروا اللهجة لغة منحولة، أفسدها العامة من الناس، الذين لا يعلمون بسبب جهلهم لغة أفضل من تلك التي يتحدثون بها.
من هنا حدث ردُّ فعل، فزاد الإقبال على دراسة اللهجات؛ حيث رأى هذا الاتجاه المضاد بأن جمع اللهجات ودراستها، سوف يفيد فائدة كبرى في إثبات نظرية التطور التاريخي، التي دان بها علماء دراسات اللغوية المقارنة والتاريخية؛ حيث تبين أن اللهجات تضم في داخلها صورًا عديدة، مما يُسمى بالصور الشاذة، شأنها في ذلك شأن اللغة الأدبية.
وهكذا فإن من الأسباب التي دعَّمت المنهج الجغرافي، وساعدت على نموه وانتشاره دراسة اللهجات، من أجل الوقوف على ما يؤيد نظرية النحاة الشبان.
وقد درس العلماء اللهجات، على أساس من المنهج الوصفي، وقد أخذت هذه الدراسة اتجاهين اثنين:
الاتجاه الأول: محاولة وصف اللهجة، وتناولها بوصف كونها نظامًا لغويًّا كاملًا، وقد أخذ هذا الاتجاه الوصفي طابعًا تاريخيًّا؛ حيث يبدأ الباحث في أثناء دراسته للهجة، بمرحلة لغوية مبكرة، ويقوم بمعالجة تطور الظاهرة الصوتي.
أما الاتجاه الآخر: فهو ما يُسمى باسم الجغرافيا اللغوية، وقد أخذ طابعًا ميدانيًّا؛ حيث أُعدت أطالس لغوية لهجية لمختلف اللهجات الأوربية.
وقد أثمرت هذه الدراسة اللهجية باتجاهيها ثمارًا طيبة، منها أنها حققت تقدمًا ملحوظًا في مجال الجغرافي اللغوية؛ لأن الأطالس اللغوية العديدة أعطت صورة شاملة لتوزيع اللهجات المختلفة، ونُفِّذت على أسس ميدانية دقيقة، ومن هنا أسهمت الدراسة اللهجية في نشأة الجغرافيا اللغوية، أو ما يُسمى بالأطالس اللغوية، هذه أثمرت بدورها إلى ما يسمى بعلم اللغة الجغرافي.
لهذه الأسباب وغيرها مجتمعة نشأ المنهج الجغرافي بوصف كونه مسارًا جديدًا من مسارات التفكير اللغوي في القرن العشرين، وأظهر في الدراسات اللغوية، علمًا يعرف بعلم اللغة الجغرافية.
وهذه الفكرة -أعني: فكرة الجغرافيا اللغوية هي فكرة قديمة، والمتتبع لتراثنا الإسلامي بصفة عامة، لا يعدم نظرات مهمة تربط بين اللغة وتطورها، وبين العوامل الجغرافية المختلفة؛ حيث تناول إخوان الصفاء هذه المسألة، لافتين الأنظار إلى أثر الظواهر الجغرافية المختلفة من الحرارة والبرودة، ومن البحار والجبال، ومن البداوة والحضارة في تطور اللغة وتغيرها، إلا أن هذه الإشارات لم تظهر في صورة علم مستقل، والعلم اللغوي لم يعرف هذه الفكرة، في صورة علم جديد تحت اسم علم اللغة الجغرافي إلا في القرن العشرين الميلادي المنصرم.
فاللغة لا تعيش في فراغ، ومن ثم لا تُدرس في فراغ، وكما ترتبط اللغة بالمجتمع فإنها ترتبط من الناحية الجغرافية أيضًا ببيئة معينة ومكان محدد، وبذلك يستطيع علم اللغة اليوم رسم خريطة العالم اللغوية من خلال استخدام المنهج الجغرافي، الذي يعنى بربط اللغة بالبيئة الجغرافية ربطًا يكشف عن العلاقة القوية بينهم.
ومعنى هذا أن علم اللغة الجغرافي يقوم على المنهج الذي كان سببًا في ظهور هذا العلم نفسه، ألا وهو المنهج الجغرافي، ولا يستغني في الوقت نفسه عن المناهج اللغوية الأخرى، من المنهج الوصفي والتاريخي والمقارن والتجريبي والتطبيقي والعملي، فكل هذه المناهج تتعاون مع المنهج الأساس، وهو المنهج الجغرافي في خدمة هذا العلم اللغوي الجغرافي.
ولقد ذكر العالم الإيطالي ماريو باي، أن علم اللغة الجغرافي، هو التطبيق هو التطبيق العملي الحديث لعلم اللغة، كما تعتبر الهندسة تطبيقًا عمليًّا، لقوانين علم الطبيعة، وكما يعتبر الطب والجراحة، تطبيقًا عمليًّا لعلم وظائف الأعضاء، وعلم التشريح.