عملُ “ما” عملَ “ليس”
“ما” تعملُ عملَ “ليس” تشبيهًًا بها في النّفْي؛ وهذا عند الحجازيِّين، وبلُغتهم جاء التنزيل. قال الله تعالى: {مَا هَـَذَا بَشَراً} [يوسف: 31] وقال تعالى: {مّا هُنّ أُمّهَاتِهِمْ} [المجادلة: 2].
ثم اختلف النَّحويّون: فقال البصريّون: عملت في الجزءَيْن: المبتدأ والخبر.
وقال الكوفيون: عملت في الأوّل -المبتدأ- فقط، وأمّا نصب الثاني، فعلى إسقاط الخافض.
وأهملها التميميُّون؛ قال سيبويه: وهو القياس، كما أهملوا “ليس” حمْلًًا عليها، فقالوا: “ليس الطِّيبُ إلاّ المسكُ” بالرفع على المبتدأ والخبر.
شروطُ عملِها عند الحجازيِّين: أربعة:
أحدها: ألاّ يقترن اسمها بـ”إنْ” الزائدة. فإن اقترن بها، بَطَل عملُها وجوبًًا عند البصريِّين، كقول الشاعر:
بَنِي غُدانةَ ما إنْ أنتمُ ذهبٌ | * | ولا صريفٌ ولكنْ أنتُمُ الخَزَفُ |
فـ “إنْ”: زائدة. و “ما”: مهملة. و”أنتم”: مبتدأ. و”ذهبٌ” بالرفع: خبر. وإنما لم تعمل حينئذٍ؛ لأنها محمولة على “ليس” في العمل، و “ليس” لا يقترن اسمها بـ”إنْ” الزائدة.
وأمّا رواية يعقوب بن السِّكِّيت: “ذهبًًا” بالنصب، فتُخرّج على :أنّ “إنْ” نافية مؤكِّدة لـ”ما”، لا مُؤسِّسة؛ لأنّ نفْي النفْي إيجاب، و “لا” زائدة كافةٌ.
الثاني: ألاّ ينتقض نفْي خبرها بـ”إلا”. فإن انتقض، بَطَلَ عملُها لبطلان معنى “ليس”؛ فلذلك وجب الرفع في كلمة: {وَاحِدَةٌ} من قوله تعالى: {وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاّ وَاحِدَةٌ} [القمر: 50]، وفي {رَسُولٌ} من قوله تعالى: {وَمَا مُحَمّدٌ إِلاّ رَسُولٌ} [آل عمران: 144].
وأمّا قول الشاعر:
وما الدّهرُ إلا مَنجَنُونًا بأهلِهِ | * | وما صاحبُ الحاجاتِ إلاّ مُعَذّبَا |
فمِن باب المفعول المطلَق الواقع عاملُه المحذوفُ خبرًًا عن اسم عَيْنٍ مبتدأ، على حَدِّ: “ما زيدٌ إلاّ سيْرًًا”، أي: ما زيدٌ إلا يسير سَيرًًا. والتقدير: “وما الدهر إلاّ يدورُ دوران منجنونٍ”.
فـ”الدهر”: مبتدأ. و”يدور”: فعل مضارع، والفاعل مستتر تقديره: “هو”. والجملة: خبر المبتدأ. و”دوران”: مفعول مطلق، وعامله: “يدور”؛ فحُذِفا -أي: الفعل، وهو: “يدور”، والمضاف وهو: “دوران”-، وأقيم المضاف إليه مَقامَ المضاف. وكذا القول في: “وما صاحبُ الحاجاتِ إلاّ مُعَذّبَا”، فإنه في تقدير: إلاّ يُعَذّبُ مُعَذّبًا، أي: تعذيبًًا.
ولأجل هذا الشرط أيضًًا، وجب الرفع بعد “بل” و”لكن” في نحو: “ما زيد قائمًًا، بل قاعدٌ”، “ولكن قاعدٌ”، على أنه خبرٌ لمبتدأ محذوف، أي: بل هو قاعدٌ، ولكن هو قاعدٌ. ولم يَجُز في “قاعدٌ” نصبُه بالعطف على “قائمًًا”؛ لأنه واقع بعد “بل” أو “لكن”؛ والواقعُ بعدهما مُوجَب، أي: مثبَت.
الثالثُ: ألاّ يتقدّم الخبر على الاسم، خلافًًا للفرّاء، وإن كان مجرورًًا على الأصحّ، خلافًًا لابن عصفور. فإن تقدّم، بطَل العمل، كقولهم: “ما مسيءٌ مَنْ أعتبَ”. فـ”مُسيءٌ”: خبر مقدّم. و”مَنْ”: مبتدأ مؤخّر. وجملة “أعتب”: صلة الموصول.
وحَكى الجرميّ: “ما مسيئًًا مَنْ أعتب”، على الإعمال، وقال: إنه لغة.
وقول الشاعر:
وما خُذَّلٌ قومي فأخضعَ للعِدى | * | ولكنْ إذا أدعوهُمُ فهُمُ هُمُ |
فـ”خُذّلٌ”: خبر مقدّم. و”قَوْمي”: مبتدأ مؤخّر. و”ما”: مهمَلة لا عمل لها.
فأمّا قول الفرزدق:
فأصبحوا قد أعاد الله نِعمتَهم | * | إذ هم قريشٌ وإذْ ما مثلَهُم بَشَرُ |
بنصب “مثلَهم” مع تقدُّمه، فقال سيبويه: شاذ ولا يكاد يُعرف. وقيل: غَلَطٌ، وأنّ الفرزدق تميميّ، ولم يعرف شرطها عند الحجازيِّين.
وقيل: “بشرُ”: خبر. و”مثلَهُم”: مبتدأ، ولكن بُني على الفتح لإبهامه مع إضافته للمبني، وهو: الضمير. ونظيره في البناء على الفتح: قوله تعالى: {إِنّهُ لَحَقّ مّثْلَ مَآ أَنّكُمْ تَنطِقُونَ} [الذاريات: 23]، وقوله تعالى: {لَقَد تّقَطّعَ بَيْنَكُمْ} [الأنعام: 94]، في قراءة من فتحَهما، مع أنهما يستحقّان الرفع على التبعيّة لـ”حَقٌّ” في الأوّل، والفاعلية في الثاني.
وقيل: “مثلَهم”: حال، والخبر محذوف مقدّم على المبتدأ؛ لئلا يَلزَم تقديم الحال على عاملها الظرف، وهو ممتنع أو نادر، أي: ما في الوجود بشرٌ مثلَهم، أي: مماثلًًا لهم.
الرابعُ: ألاّ يتقدّم معمولُ خبرِها على اسمِها، فإن تقدّم بَطَلَ عملُها.
كقول الشاعر:
وقالوا: تَعَرَّفْها المنازلَ مِن مِنىً | * | وما كُلَّ مَنْ وافَى مِنَىً أنا عارِفُ |
والأصل: “ما أنا عارفٌ كلَّ منْ وافَى مِنىً”. فـ”كلَّ”: منصوبة على المفعولِيّة بـ”عارف”.
إلاّ إن كان المعمول ظرفًًا، أو جارًًّا ومجرورًًا، فيجوز العمل للتوسّع فيهما، كقول الشاعر:
بِأُهْبةِ حَزْمٍ لُذْ وإنْ كنتَ آمِنًا | * | فما كُلَّ حينٍ مَنْ تُوالِي مُوَالِيَا |
والأصل: فما مَنْ تُوالي موالِيًًا كلَّ حينٍ. فـ”كُلَّ حين”: ظرف زمان منصوب بـ”مواليًا”.