Top
Image Alt

عناية التابعين بالحديث، ومناهجهم بالكوفة والبصرة

  /  عناية التابعين بالحديث، ومناهجهم بالكوفة والبصرة

عناية التابعين بالحديث، ومناهجهم بالكوفة والبصرة

أما بالنسبة إلى العراق؛ فقد ظهر كبار التابعين ومنهم: عبيدة السلماني؛ فعن ابن سيرين عن عبيدة أنه قال: كنت أسأل الناس عن حديث عدي بن حاتم، وهو إلى جنبي بالكوفة، فأتيته فقلت: حديث حدثته عنك فحدِّثني به -وهذا هو طلب الإسناد العالي المميز عند المحدثين؛ فإذا وُجد الأعلى فالسماع منه أولى من الاقتصار على السماع من الأدنى- قال عدي بن حاتم: لما بعث محمد -صلى الله عليه وسلم- فذكر الحديث في إسلامه، وما تحقق من قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- له فيما يتصل بالحيرة؛ حيث قال: ((فليوشكن أن الظعينة ترحل من الحيرة بغير جوار حتى تطوف بالبيت)) قال عدي: فرأيت الظعينة ترحله.

وقد أسلم عبيدة بن عمرو عام فتح مكة باليمن، ولم يرَ الرسول -صلى الله عليه وسلم-, وعدّ عمرو بن علي الفلاس من أصح الأسانيد: ابن سيرين عن عبيدة عن علي، وقال عبيدة: ذكر علي -رضي الله عنه- أهل النهروان فقال: لولا أن تبطروا لأنبأتكم بما وعد الله الذين يقتلونهم على لسان محمد -صلى الله عليه وسلم-, فقال له محمد بن سيرين: أنت سمعته منه؟ قال: إي ورب الكعبة.

ومن كبار التابعين بالكوفة: الأسود، وعبيدة -الذي ذكرناه- والحارث؛ فأما الأسود وعبيدة فأحاديثهما في الصحيحين وغيرهما، ويسهل حصر حديثهما -على وجه التحديد- لمن يريد، وروى إبراهيم أن علقمة والأسود كانا يسافران مع أبي بكر وعمر، وقال إبراهيم النخعي: كان أصحاب عبد الله الذين يُقرئون الناس القرآن, ويعلّمونهم السنة, ويصدر الناس عن رأيهم -ستة: علقمة، والأسود، ومسروق، وعبيدة، وأبو ميسرة عمرو بن شرحبيل، والحارث بن قيس.

وقال قابوس بن أبي ظبيان: قلت لأبي: لأي شيء كنت تأتي علقمة, وتدع أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-؟ قال: أدركت ناسًا من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- يسألون علقمة ويستفتونه. وكان علقمة يقول: أطيلوا كر الحديث -أي: مراجعته وتكراره- لا يدرس -أي لا ينمحي ويزول من الذهن- وكان طلبته يسألونه ويتفقهون به والصحابة متوافرون؛ لأنه جمع علمًا ليس عند الصحابة الذين كانوا في بلده؛ لأنه كان ممن لقي أبا بكر وعمر وكبار الصحابة, وعني بالعلم وتفرغ له.

وقال علقمة: ما حفظت وأنا شاب فكأني أنظر إليه في قرطاس أو رقعة، قال الذهبي: قال بعض الحفاظ وأحسن: أصح الأسانيد -أي من أصحها-: منصور عن إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود, قال: فعلى هذا أصح ذلك شعبة وسفيان عن منصور، وعنهما يحيى القطان وعبد الرحمن بن مهدي، وعنهما علي بن المديني، وعنه البخاري -رحمه الله- وذلك في أسانيد أهل الكوفة والبصرة.

وقال علي بن المديني: ما أقدّم على مسروق أحدًا من أصحاب عبد الله؛ صلى خلف أبي بكر ولقي عمر وعليًّا، وسأل عثمان بن سعيد يحيى بن معين عن مسروق وعروة عن عائشة؛ فلم يخير أحدهما على الآخر، وجعل مسروقًا وهو بالكوفة مماثلًا لعروة مع أن عائشة خالته وصلته بها متكررة ودائمة، وقال ابن عيينة: بقي مسروق بعد علقمة, لا يفضل عليه أحد.

وهو مسروق بن الأجدع الهمداني, من كبار التابعين ومن المخضرمين الذين أسلموا في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم-, وسماه عمر مسروق بن عبد الرحمن؛ تحسينًا لاسمه.

قال مسروق: كنت مع أبي موسى أيام الحكمين، فسطاطي إلى جانبه؛ فأصبح الناس ذات يوم قد لحقوا بمعاوية؛ فرفع أبو موسى رفرف فسطاطه، وقال: يا مسروق، قلت: لبيك، قال: إن الإمارة ما ائتمر فيها وإن الملك ما غلب عليه بالسيف. وقال الشعبي: كان مسروق إذا قيل له: أبطأت عن علي وعن مشاهده –أي: في الفتنة- يقول: أرأيتم لو أنه حين صف بعضكم لبعض, فنزل بينكم ملك فقال: { وَلاَ تَقْتُلُوَاْ أَنْفُسَكُمْ إِنّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} [النساء: 29]؛ أكان ذلك حاجزًا لكم؟ قالوا: نعم، فقال: فوالله لقد نزل بها ملك كريم على لسان نبيكم؛ وإنها لمحكمة ما نسخها شيء.

وقال عبد الملك بن أبجر عن الشعبي: كان مسروق أعلم بالفتوى من شريح، وكان شريح أعلم بالقضاء من مسروق، وكان شريح يستشير مسروقًا، وكان مسروق لا يستشير شريحًا، وذلك فيما أرى بالفرق بين الفتوى والقضاء في الإلزام بالقضاء وعدم الإلزام بالفتوى، وقال مسروق: لأن أفتي يومًا بعدل وحق أحبُّ إلي من أن أغزو سنة؛ لحرصه على تعليم العلم ونشره.

وكان شريح بن الحارث بن قيس الكندي قاضي الكوفة, أسلم في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- وانتقل من اليمن زمن الصديق، وولاه عمر قضاء الكوفة فأقام على قضائها قريبًا من الستين سنة، وقضى بالبصرة سنة، وكان يقال له: قاضي المصرين –أي: الكوفة والبصرة- وكتب إليه عمر: إذا كان أمر في كتاب الله فاقضِ به؛ فإن لم يكن في كتاب الله وكان في سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاقضِ به، فإن لم يكن فيهما فاقضِ بما قضى به أئمة الهدى؛ فإن لم يكن فأنت بالخيار: إن شئت تجتهد رأيك وإن شئت تؤامرني, ولا أرى مؤامرتك لي –أي: مشورتك- إلا أسلم لك.

قال الشعبي: كان شريح أعلمهم بالقضاء، وكان عبيدة يوازيه في علم القضاء، وقال له علي بعد أن سأله واختبره: اذهب فأنت أقضى العرب، وقال مكحول: اختلفت إلى شريح أشهرًا لم أسأله عن شيء؛ أكتفي بما أسمعه يقضي به. وبلغ من علمه أن قال أبو وائل: كان شريح يقل غشيان عبد الله بن مسعود؛ للاستغناء عنه –أي: بما حصله من علمه.

وإنما ركزنا على النشاط العلمي في الكوفة والبصرة, في مجال الحديث والاستنباط منه -بالإضافة إلى المدينة وأهلها- لنبيِّن مواكبة الجهد الحديثي جمعًا وانتقاءً واستنباطًا من الحديث بين صغار الصحابة, وكبار التابعين الذين واكبوهم وأخذوا عنهم وعمن فوقهم العلم، وتكونت مدرسة ثرية موازية لمدرسة الحديث بالمدينة، وكان هناك مدرسة بمكة، ومدرسة بالشام ومصر، وغير ذلك من بلاد الإسلام.

وممن جمع علم التابعين في العراق وفقه فيه: الشعبي عامر بن شراحيل الذي يقول: أدركت خمسمائة من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-, وقد عاصر كبار التابعين في العراق وخبرهم، وقال لعبد الله بن إدريس ولعمه: أحدثك عن القوم كأنك شهدتهم؛ كان شريح أعلمهم بالقضاء، وكان عبيدة يوازي شريحًا في علم القضاء؛ وأما علقمة فانتهى إلى علم عبد الله لم يجاوزه، وأما مسروق فأخذ عن كلٍّ، وكان الربيع بن خثيم أعلمهم علمًا وأورعهم ورعًا.

وقد روى عن الأسود وعلقمة وعبيدة ومسروق؛ فضلًا عن الصحابة الذين روى عنهم وجمع علمهم، قال أحمد العجلي: سمع الشعبي من ثمانية وأربعين من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-, ولا يكاد يرسل إلا صحيحًا، ووصل به جمع الحديث إلى أن قال لابن شبرمة: ما سمعت منذ عشرين سنة رجلًا يحدث بحديث إلا أنا أعلم به منه، ولقد نسيت من العلم ما لو حفظه رجل لكان به عالمًا.

وقيل له: من أين لك كل هذا العلم؟ قال: بنفي الاغتمام –أي: الغم والتشاغل بأموره عن الحديث- قال: وبالسير في البلاد -أي: الرحلة، وقد روى حديثًا لرجل ثم قال: خذه بغير شيء؛ فقد كنا نرحل فيما دونه إلى المدينة- قال: وبصبر كصبر الحمار، وبكور كبكور الغراب، أي: إنه لم يحصل هذا العلم الكثير بالراحة والكسل وبمتابعة هوى النفس؛ وإنما حصّله بالتفرغ بتحصيله وبالرحلة إلى العلماء, وبالصبر وبالبكور.

وقال الشعبي: ما كتبت سوداء في بيضاء إلى يومي هذا، ولا حدثني رجل بحديث قط إلا حفظته، ولا أحببت أن يعيده علي. ومما يدل على هذا الحفظ والعناية بالحديث ما روي عن ابن سيرين أنه قال: قدمت الكوفة وللشعبي حلقة عظيمة، والصحابة يومئذ كثير. وكان الصحابة قد شُغلوا بالجهاد وبالإدارة وبأمور كثيرة صرفتهم عن الإحاطة بالعلم؛ فتفوق عليهم هؤلاء بالإحاطة أكثر منهم فيما يتصل بالحديث.

وعن عبد الملك بن عمير أنه قال: مر ابن عمر بالشعبي وهو يقرأ المغازي، فقال: كأن هذا كان شاهدًا معنا, ولهو أحفظ لها مني وأعلم، وابن عمر حضر المغازي وشاهدها وحصَّل ما حصَّل منها؛ لكنه وجد الشعبي قد حصّل ما حصله وما حصله غيره، وقد استوعب ما حصله وعرضه عرضًا يعجز عنه من حضر الغزوة مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

وقال عاصم بن سليمان: ما رأيت أحدًا أعلم بحديث أهل الكوفة والبصرة والحجاز والآفاق من الشعبي، وقال أبو بكر الهذلي: قال لي ابن سيرين: الزم الشعبي؛ فلقد رأيته يُستفتى وأصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- متوافرون، وقال أبو مجلز: ما رأيت أحدًا أفقه من الشعبي, لا سعيد بن المسيب ولا طاوسًا ولا عطاء, ولا الحسن ولا ابن سيرين؛ فقد رأيتهم كلهم.

وسأله رجل عن ((ولد الزنا شر الثلاثة))، فقال: لو كان كذلك لرجمت أمه وهو في بطنها, ولم تؤخر حتى تلد. قال ابن عبد البر في (الاستذكار): قد أنكر ابن عباس على من روى في ولد الزنا أنه شر الثلاثة، وقال: “لو كان شر الثلاثة ما استُؤني بأمه أن تُرجم حتى تضعه”، وهذا يدل على أن الشعبي كان يستند في إجاباته إلى ما حصّله من العلم عن العلماء من الصحابة وغيرهم، وقد يكون اجتهاده وافق اجتهاد ابن عباس، وكلاهما يدل على مكانته ومنزلته العلمية.

وقال محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى: الشعبي صاحب آثار، ونقول: كانت الآثار طوع يديه لحفظه وجمعه، وقال الشعبي: إنا لسنا بالفقهاء؛ ولكنا سمعنا الحديث فرويناه, ولكن الفقهاء من إذا علم عمل، وقال ابن شبرمة عن الشعبي: ما جلست مع قوم مذ كذا وكذا, فخاضوا في حديث إلا كنت أعلمهم به، وقال: والله لو أصبت تسعًا وتسعين مرة وأخطأت مرة؛ لعدُّوا عليَّ تلك الواحدة. فكان حريصًا ألَّا يخطئ، ويظهر أنه لم يكن يخطئ.

ومن أدبه النابع من معرفته بالسنة وتطبيقه لها: أنه قدم عليه جرير بن يزيد بن جرير البجلي, فدعا له بوسادة؛ فقيل له: حولك أشياخ وجاء هذا الغلام فدعوت له بوسادة! قال: نعم؛ إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ألقى لجده وسادة، وقال: ((إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه)) ومعنى ذلك: أنه كان حريصًا على تطبيق السنة عمليًّا والتذكير بها علميًّا إذا سُئل عن ذلك، أو نقول: إنه تلبس بالسنة، وتقيدت حركته بها في كل ما يقوم به من أمور.

وعن الحسن بن عبد الرحمن أنه قال: رأيت الشعبي سلّم على نصراني، فقال: السلام عليك ورحمة الله، فقيل له في ذلك، فقال: أوليس في رحمة الله؛ لولا ذلك لهلك؟ قال المعلق على (سير أعلام النبلاء): لا ندري كيف خفي على الشعبي حديث مسلم في الصحيح, من طريق أبي هريرة مرفوعًا: ((لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام)).

ومثل هذا التعليق على إمام مثل الشعبي لا يمر هكذا بسهولة؛ فقد دُرس هذا الحديث دراسة متمعنة؛ فوُجد أن سهيل بن أبي صالح تفرَّد به عن أبيه، ورواه عن سهيل شعبة وسفيان مع أنهما ممن يروي عن أبيه؛ فرأى مسلم في روايتهما عنه ما ينهض بهذا الحديث ويزيل ضعف سهيل بن أبي صالح ويجبر تفرده، ورُئي أنهما رويا هذا الحديث عن سهيل تعجبًا من انفراده به عن أبيه، ولو كان عند أبيه لأخذاه عنه؛ فكأن روايتهما عنه تنبيه على أن هذا الحديث مما يضعف فيه سهيل ولا يتقوى، ولم يروِه غير ابنه، ولو كان عنده لرواه أحدٌ ممن روى عنه من الرواة، وهذا ما يعلل به الحديث ويمنع اعتباره.

وقد حقق الأعظمي في دراسته للحديث النبوي تفرد سهيل بهذا الحديث عن أبيه؛ فكان الأولى بالمعلق أن يترفق, وألا يدخل مع الأئمة الكبار في استدراكٍ إلا مع جهد كبير يبذله في المتابعة، ولا يكفي مجرد الإشارة إلى وجود حديث أنه خفي على هذا الإمام, الذي كان جامعًا للسنة جمعًا متميزًا, لا يشابهه فيه إلَّا الإمام الزهري.

وكان الشعبي يكره الرأي –أي: إذا خالف الحديث- قال يومًا لجلسائه: أرأيتم لو قتل الأحنف وقتل معه صغير؛ أكان ديتهما سواء، أم يفضل الأحنف لعقله وحلمه؟ فقال أبو بكر الهذلي: بل سواء، قال: فليس القياس بشيء؛ لأن الشرع له نظامه والعقل له نظامه؛ فالعقل يقيس الناس بأحوالهم ويفاوت بينهم، والشرع يقيس الناس بمنزلتهم عند الله I, ولا ينظر في أحكام كثيرة إلى الفروق التي بينهم في العلم أو في الغنى أو في الصحة, أو غير ذلك من الأمور.

وممن جمع الحديث بالبصرة من صغار التابعين: قتادة بن دعامة السدوسي البصري:

سمع أنس بن مالك، قال شعبة: نصصت على قتادة سبعين حديثًا؛ كلها يقول: سمعت أنس بن مالك، وروى عن كثيرين من كبار التابعين، رحل إلى سعيد بن المسيب وأقام عنده ثمانية أيام، فقال له: ارتحل يا أعمى فقد أنزفتني -أي أخذت مني كل ما عندي من العلم- وقال قتادة: جالست الحسن –أي: البصري- اثنتي عشرة سنة أصلي معه الصبح ثلاث سنين، قال: ومثلي يأخذ عن مثله، وقال: ما سمعت أذناي شيئًا إلا وعاه قلبي.

واستظرف بعض المعتزلة؛ قام فقال: “يا غلام، أين نعلي؟” أي: إنه كان لا يعرف مكان نعله، والحقيقة أن الاشتغال بالعلم قد يشغل عن الأمور الخاصة بالإنسان، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى عندما يقول للغلام: “أين نعلي؟” فهو يطلب منه إحضاره بأسلوب لطيف يليق بمثله، وأن مثل هذا الاستظراف والإيذاء بالنسبة لكبار العلماء, إنما يكون من عدم معرفة قيمة العلم أو منزلة العلماء. وقال له سعيد بن المسيب: لم أرَ أحدًا أسأل عما يختلف فيه منك، قال الذهبي: إنما يسأل عن ذلك من يعقل، أي: من يعرف أن المسألة ليس مما ورد فيها نص شرعي صريح، وأن فيها مجالًا لبحث العلماء وفهمهم، وأن معرفة أقوال العلماء والتبحر في فهمها يعطي الطالب أو الباحث آفاقًا كثيرة في استعمال النصوص وفقهها وفهمها.

وقال أحمد: كان قتادة أحفظ أهل البصرة، لا يسمع شيئًا إلا حفظه، قرئ عليه صحيفة جابر مرة واحدة فحفظها، وقال مطر: كان قتادة إذا سمع الحديث يختطفه اختطافًا, ويأخذه العويل والزويل -أي: الحركة والقلق والانزعاج والاهتمام- حتى يحفظه.

وكان مشتغلًا بتفسير القرآن، قال: ما في القرآن آية إلا وقد سمعت فيها شيئًا، وما سمعت شيئًا إلا حفظته. من هنا قال ابن سيرين: قتادة أحفظ الناس أو من أحفظ الناس، وقال بكر المزني: من سرّه أن ينظر إلى أحفظ من أدركنا؛ فلينظر إلى قتادة، وقال سعيد بن المسيب: ما أتاني عراقي أحفظ من قتادة، وكان يجمع العلم من كل من يبذله ويتمكن من تمييز ما سمعه من الراوي عما سمعه من غيره عنه؛ فإذا روى ما لم يسمعه من الشيخ عن الشيخ عنعن، أو استعمل صيغة أداء ليست صريحة في السماع، ومن هنا قال الشعبي: قتادة حاطب ليل، أي: عنده أحاديث كثيرة عن الشيوخ المعتمدين, وعنده عن نفس الشيوخ أحاديث سمعها من غيرهم عنهم، وهؤلاء ليسوا في قوة الشيخ وقد يكون فيهم الراوي الضعيف.

وقال أبو عمرو بن العلاء: كان قتادة من أنسب الناس –أي: كان حافظًا للأنساب- وقيل: إن الرجلين كانا يختلفان في البيت من الشعر, فيبردانِ بريدًا –أي: يبعثان رجلًا- إلى العراق من الشام يسأل قتادة عنه، وقال أبو عوانة: سمعت قتادة يقول: ما أفتيتُ برأيي منذ ثلاثين سنة، وقال أبو هلال: سألت قتادة عن مسألة فقال: لا أدري، فقلت: قل فيها برأيك، قال: ما قلت برأيي منذ أربعين سنة، وكان سنه نحوًا من خمسين سنة؛ ودل ذلك على أنه كان من أهل العلم في سن صغيرة, وكان يستفتى.

وقال قتادة: الحفظ في الصغر كالنقش في الحجر؛ لأنه كان يحفظ في ذهنه ما سمعه في صغره حفظًا جيدًا.

وقال شعبة: كنا نعرف الذي لم يسمع قتادة –أي: من الشيخ- مما سمع؛ إذا قال: قال فلان، وقال فلان؛ عرفنا أنه لم يسمع، وإذا ذكر صيغة تدل على الاتصال يعرف أنه مما سمعه من الشيخ، وقال: كنت أنظر إلى فم قتادة كيف يقول؛ فإذا قال: حدثنا؛ كتبت، وقال شعبة أيضًا -وهذا من فطنته-: كنت أتفطن إلى فم قتادة؛ فإذا قال: حدثنا سعيد، وحدثنا أنس، وحدثنا مطرف، أي: يعتبر ذلك متصلًا؛ فإذا حدث بما لم يسمع، أي: من الشيخ وسمعه من تلاميذه أو ممن رواه عنه، قال: حدث سليمان بن يسار وحدث أبو قلابة، وهذا من أمانته في رواية الحديث.

وكان لا يلحن؛ قال همام: كل شيء أقول لكم: قال قتادة؛ فأنا سمعته منه، فإذا كان فيه لحن فأعربوه؛ فإن قتادة كان لا يلحن، وهذا أيضًا من أمانة همام بالنسبة لقتادة وبالنسبة للحديث.

وقال قتادة: تكرير الحديث في المجلس يذهب نوره، وما قلت لأحد قط: أعد علي؛ وذلك لأن الاشتغال بتكرير الحديث يشغل ذهن الشيخ عن غيره من الأحاديث ويجعل الرواية شاقة عليه، أما إذا سار في طريقه حصل الطالب ما يحصله من غير أن يعوقه عن الرواية، وما فاته يستدركه في مجلس آخر أو يأخذه عن غيره أو يرضى بما قسم الله له من ذلك.

error: النص محمي !!