Top
Image Alt

عناية التابعين بالحديث ومناهجهم بالمدينة المنورة

  /  عناية التابعين بالحديث ومناهجهم بالمدينة المنورة

عناية التابعين بالحديث ومناهجهم بالمدينة المنورة

وقد عاصر كبار التابعين بالعراق صغار الصحابة بالمدينة، ورووا الحديث عن كبار الصحابة وصغارهم معهم، وظهر تفوق الأتباع بالمدينة في مرحلة متأخرة عن العراق متمثلًا في الفقهاء السبعة، قال الخليلي: “والفقهاء الذين صار إليهم الفتيا بعد الصحابة, من أهل الحديث بالمدينة -على ما اتفق عليه الزهري وأقرانه-: سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وأبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وأبو بكر بن الحارث بن هشام، وعلقمة بن وقاص، ومنهم من يضيف إليهم: عبد الملك بن مروان، وعمر بن عبد العزيز، وقبيصة بن ذؤيب، وكان بها من العلماء مثل سالم بن عبد الله وأقرانه، ثم إن الزهري حفظ علم هؤلاء كلهم”.

فالتابعون بالمدينة قسمان: محدثون فقهاء، ومحدثون لم يُعرفوا بالفقه، والكل ثقات.

فمن المحدِّثين بالمدينة الذين لم يشتهروا بالفقه: عطاء بن يسار الهلالي، وكان كثير الحديث، وحديثه في الكتب الستة، ومنهم: عبد الله بن أبي قتادة الأنصاري، روى عن جابر وغيره من الصحابة، وروي عنه في الكتب الستة.

ومن الفقهاء أئمة الحديث بالمدينة: سعيد بن المسيب، وكان من أعلم الناس بما قضى به عمر وعثمان، وثروته من الحديث كبيرة.

ومنهم: أبو سلمة بن عبد الرحمن، ولي قضاء المدينة ست سنين وأرضعته أم كلثوم بنت أبي بكر؛ فخالته عائشة من الرضاعة، ومن شيوخه من الصحابة: المغيرة بن شعبة، وأبو أيوب الأنصاري، وعائشة، وأم سلمة، وغيرهم، قال عمر بن عبد العزيز: كان طَلّابة للعلم فقيهًا مجتهدًا, كبير القدر حجة، وقال ابن سعد: كان ثقة, كثير الحديث.

وقال الزهري: أربعة من قريش وجدتهم بحورًا: عروة، وابن المسيب، وأبو سلمة، وعبيد الله بن عبد الله، وقيل للزهري: ما نسمعك تحدث إلا عن سعيد بن المسيب، وكان ذلك عند زيارته لمصر! فقال الزهري: أجل، فقال له ابن قارظ: لقد تركت رجلين من قومك لا أعلم أكثر حديثًا منهما: عروة، وأبو سلمة. وكان معتزًّا بنفسه وعلمه، قال الشعبي: قدم أبو سلمة الكوفة فكان يمشي بيني وبين رجل؛ فسئل عن أعلم من بقي فتمنع ساعة، ثم قال: رجل بينكما، أي: كان يرى نفسه فوق الشعبي وفوق من معه، ولم يكن مبالغًا؛ فقد روى شعبة عن أبي إسحاق قال: أبو سلمة في زمانه خيرٌ من ابن عمر في زمانه، أي: كان بعد وفاة ابن عمر في زمانه خيرًا من ابن عمر في زمان ابن عمر.

وممن جمع علم التابعين بالمدينة وفقه فيه: الزهري؛ فقد جمع علم أهل المدينة من الفقهاء والمحدِّثين، وروى عن صغار الصحابة؛ كسهل بن سعد وأنس بن مالك ومحمود بن لبيد وغيرهم، وجالس ابن المسيب ثماني سنوات، وأخذ عنه وعن بقية الفقهاء السبعة وغيرهم من المحدثين بالمدينة. كان صائمًا يوم عرفة, فأرسل الحجاج إلى ابن عمر: إن أردت أن تروح فآذنَّا، أي: أعلمنا بالنفرة أو الحركة من عرفات، قال الزهري: فجاء هو وسالم وأنا معهما حين زاغت الشمس، فقال: ما يحبسه -أي: ما يمنعه من النهوض-؟ فلم ينشب –أي: يلبث- أن خرج الحجاج، فقال: إن أمير المؤمنين –أي: عبد الملك- أمرني أن أقتدي بك وآخذ عنك، فقال ابن عمر: إن أردت السنة فأوجز الخطبة والصلاة، قال الزهري: فلقيت من الحر شدة، وهذا يدل على أنه كان مصاحبًا للكبار وهو صغير، وأنه حضر مثل هذا الموقف المهم.

ومن كلامه عن شيوخه: قال: مست ركبتي ركبة سعيد بن المسيب ثماني سنين، وقال: كنا نجلس إلى ابن المسيب؛ فما يستطيع أحد منا أن يسأله عن شيء إلا أن يبتدئ الحديث, أو يأتي رجل يسأله عن شيء قد نزل به. وهذا يدل على قوة شخصيته، وعلى تأديبه للطلاب قبل أن يتعلموا الحديث، وقال الزهري: كنت أحسب أني قد أصبت من العلم حتى جالست عبيد الله بن عبد الله بن عتبة؛ فكأنما كنت في شعب من الشعاب، وقال: جالست ابن المسيب حتى ما كنت أسمع منه إلا الرجوع -أي: المكرر والمعاد- وجالست عبيد الله فما رأيت أغرب منه، ووجدت عروة بحرًا لا تكدره الدلاء، وقال: قال لي القاسم: أراك تحرص على الطلب, ألا أدلك على وعائه؟! قلت: بلى, قال: عليك بعمرة بنت عبد الرحمن؛ فإنها كانت في حِجْر عائشة, قال: فأتيتها فوجدتها بحرًا لا يُنزَف.

وقال: نشأت وأنا غلام لا مال لي، ولا أنا في ديوان -أي: ليس لي راتب من الدولة- وكنت أتعلم نسب قومي من عبد الله بن ثعلبة بن صعير، وكان عالمًا بذلك، وهو ابن أخت قومي وحليفهم، فأتاه رجل فسأله عن مسألة في الطلاق, فعَيّ بها –أي: عجز- وأشار له إلى سعيد بن المسيب، فقلت في نفسي: ألا أراني مع هذا الرجل المسنّ يذكر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مسح رأسه, ولا يدري ما هذا –أي: حكم الطلاق-؟! فانطلقت مع السائل إلى سعيد بن المسيب وتركت ابن ثعلبة، وجالست عروة وعبيد الله وأبا بكر بن عبد الرحمن حتى فقهت.

ثم حكى حكاية طويلة عن سؤال عبد الملك بن مروان عن مسألة في أمهات الأولاد بمقر خلافته، قال: فأخبرته عن سعيد، فقال: كيف سعيد؟ وكيف حاله؟ قال: فأخبرته ثم قلت: وأخبرني أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام, فسأل عنه، ثم حدثته الحديث في أمهات الأولاد عن عمر، فقال: هذا يكتب به إلى الآفاق.

ثم يحكي أنه جلس إليه مرة ثانية؛ فجعل يسأله عن أنساب قريش، قال الزهري: “فلهو أعلم بها مني” وهذا من إنصاف الزهري، ومن تقديره لنفسه تقديرًا متوازنًا؛ بحيث لا يرفعها عن قدرها ولا ينزل بها عن قدرها، قال: وجلست إليه مرة أخرى فسأل: من لقيتَ؟ فذكر له من لقي من قريش، فقال له عبد الملك: أين أنت عن الأنصار؟ عن ابن سيدهم خارجة بن زيد -وسمى رجالًا منهم؟ قال: فقدمت المدينة, فسألتهم وسمعت منهم.

ومما ساعده على التحصيل جِدّه وأدبه مع مشايخه، قال: كنت أخدم عبيد الله بن عبد الله؛ حتى إن كنت أستقي له الماء المالح، وقال: ما استفهمت عالمًا قط، ولا رددت شيئًا على عالم قط؛ وإنما كان محصلًا لما يلقى أمامه، وقال: ما قلت لأحد: أعد علي قط، وقال: ما استعدت حديثًا قط، وما شككت في حديث إلا حديثًا واحدًا, فسألت صاحبي فإذا هو كما حفظتُ.

ومما ساعده على التحصيل ما ذكره أقرانه؛ روى إبراهيم بن سعد عن أبيه أنه قال: ما سبقنا ابن شهاب من العلم بشيء, إلا أنه كان يشدّ ثوبه عند صدره ويسأل عما يريد، وكنا تمنعنا الحداثة –أي: الصغر-. وقال ابن أبي الزناد عن أبيه: كنا نكتب الحلال والحرام، وكان ابن شهاب يكتب كل ما سمع؛ فلما احتِيج إليه علمت أنه أعلم الناس، وبصر عيني به ومعه ألواح أو صحف يكتب فيها الحديث، وهو يتعلم يومئذ –أي: من صغره- وقال: كنت أطوف أنا والزهري ومعه الألواح والصحف؛ فكنا نضحك به.

ويبدو أنه كان يكتب غير الحديث أيضًا؛ فقد كان يحفظ الحديث بمجرد سماعه، أو تطور به الأمر فبدأ بالكتابة والحفظ ثم نشطت ذاكرته، فصار يحفظ بمجرد السماع، ولم يكن له إلا كتاب فيه نسب قومه؛ وذلك لأنه -فيما نرى- ربط الفهوم والفقه بما عنده من الحديث، ولم يشغل نفسه بالأنساب إلى الدرجة التي شغل بها نفسه عبد الملك بن مروان، وقد سأله عبد الملك بن مروان: ما تقول في امرأة تركت زوجها وأبويها؟ فقال: لزوجها النصف، ولأمها السدس، ولأبيها ما بقي, فقال عبد الملك: أصبت الفرض وأخطأت اللفظ؛ إنما لأمها ثلث ما بقي ولأبيها ما بقي. وهذا يدل على القوة العلمية للخليفة عبد الملك والقوة العلمية للزهري، وإن اختلف مجال التطبيق مع اتحاد المضمون.

وقد أثنى عليه مشايخه وهذا من الثناء الغالي، قال ابن المسيب: ما مات من ترك مثلك، وقال موسى بن إسماعيل: شهدت وهيبًا وبشر بن المفضل وغيرهما ذكروا الزهري, فلم يجدوا أحدًا يقيسونه به إلا الشعبي. وأثنى عليه أهل الجرح والتعديل؛ لأنه تفوق, ولأنه قال: اختلفت من الحجاز إلى الشام خمسًا وأربعين سنة، فما استطرفت حديثًا واحدًا، ولا وجدت من يطرفني حديثًا -أي: يأتي بحديث ليس عنده لعموم جمعه للحديث.

قال الليث بن سعد: ما رأيت عالمًا قط أجمع من ابن شهاب يحدث في الترغيب؛ فتقول: لا يحسن إلا هذا، وإن حدث عن العرب والأنساب قلت: لا يحسن إلا هذا، وإن حدث عن القرآن والسنة كان حديثه –أي: حديثًا مستوعبًا, لا يوجد مثله عند العلماء.

وقال ابن عيينة: كان الزهري أعلم أهل المدينة، وقال إبراهيم بن سعد عن أبيه: ما رُئي أحدٌ جمع بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما جمع ابن شهاب، وقال يحيى بن سعيد: ما بقي عند أحد من العلم ما بقي عند ابن شهاب، وقال عمر بن عبد العزيز وقتادة: ما بقي أحد -أو لا تلقون أحدًا- أعلم بالسنة الماضية منه، وكذلك قال مكحول، وقال ابن عيينة: كانوا يرون يوم مات الزهري أنه ليس أحد أعلم بالسنة منه، وقال ابن المديني: أفتى أربعة: الحَكَم، وحماد، وقتادة، والزهري، والزهري عندي أفقههم. وجعل يزيد بن عبد الملك الزهري قاضيًا مع سليمان بن حبيب، وقال عراك بن مالك: أما أعلمهم بقضايا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقضايا أبي بكر وعمر وعثمان, وأفقههم فقهًا, وأعلمهم بما مضى من أمر الناس فسعيد بن المسيب؛ وأما أغزرهم حديثًا فعروة، ولا تشاء أن تفجر من عبيد الله بن عبد الله بحرًا إلا فجرته، وأعلمهم عندي جميعًا ابن شهاب؛ فإنه جمع علمهم جميعًا إلى علمه. وله في مناهج الحديث مجال كبير؛ فظهر في حديثه منهج التحمل ومنهج الأداء، وكيفية جمع السنة وكيفية الفقه والفهم؛ فضلًا عن عوامل الإمامة ومقومات التصدر وآداب الطلاب وآداب الشيوخ.

error: النص محمي !!