عناية التّابعِين فمَن بَعْدهم بكتابة السُّنة وتدوينها: “دراسة إسناد، ونقْد الرِّجال” ضبط المتون
لم يكُن التابعون فمَن بَعْدهم مِن العلماء أقلّ اهتمامًا مِن الصحابة بالسُّنّة النبويّة، بل ساروا على النهج الذي سار عليه أسلافهم في العناية بالسّنّة حِفظًا وضبطًا لها، وتحرِّيًا، وتدقيقًا في متونها وأسانيدها.
ولو ذهبنا نذْكر الأدلّة والشواهد على ذلك، لطال الأمْر جدًّا… ولكنّنا نجتزئ في هذا الدرس على ضرْب الأمثلة، وسوْق النّماذج التي تُوضِّح هذا الأمْر وتُجلِّيه.
وقد أخذتْ عناية التابعين فمَن بعدَهم بالسّنّة النبوية أشكالًا كثيرة، منها:
1. كتابة السُّنّة وتدوينها في الصّحف، والأجزاء، والكتب:
وهذا باب واسع سوف يأتي بيانه فيما بعدُ بالتفصيل.
2. العناية بدارسة الإسناد، ونقْد الرِّجال:
لم يكن المسلمون في صدْر الإسلام -منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى فتنة عثمان- يُكذِّب بعضُهم بعضًا، بل كانت الثقة تملأ صدورَهم، والإيمان يَعمُر قلوبهم، حتى إذا ما وقعت الفتنة، وتكونَّت الفِرَق والأحزاب، وبدأ الكذِب على رسول الله صلى الله عليه وسلم يُتّخَذ مطيّةً لأهل الأهواء، وقَف الصّحابة والتابعون مِن هذه الظاهرة وقْفةً قويّة للحِفاظ على الحديث الشريف، وأصبحوا يُشدِّدون في طلَب الإسناد مِن الرُّواة، والتزموه في الحديث؛ لأنّ السّند للخبَر كالنَّسب للمرْء. ويُخبرنا الإمام محمد بن سيرين عن ذلك، فيقول: “لم يكونوا يَسألون عن الإسناد، فلمّا وقعت الفتنة، قالوا: سَمُّوا لنا رِجالَكم؛ فيُنظَر إلى أهل السُّنّة فيُؤخَذ حديثُهم، ويُنظَر إلى أهل البِدَع فلا يُؤخَذ منهم”.
وهذا لا يدلّ على أنّ الصحابة والتابعين لم يكونوا يُسندون الأحاديث قبْل الفتنة، بل كان بعضُهم يُسند ما يروي تارة ولا يُسنده أخْرى؛ لأنهم كانوا على جانبٍ كبيرٍ مِن الصِّدقِ والأمانةِ والإخلاصِ.
وهناك أمثلةٌ واضحةٌ تُبيِّن إسنادَ الصحابةِ للرواياتِ قبْل الفتنة، من هذا: ما حدَّث به عليّ رضي الله عنه عن البراء بن عازب: أنّ فاطمة أخبرَتْه: ((أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمَرَها أنْ تحلّ، فحلّتْ، ونضَحت البيت بنضوح)). وكان أبو أيوب الأنصاري يحدِّث عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لمْ يسمعْه مِن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد حدَّث الصحابة بعضهم عن بعض.
فهذا الأثَر يُبيِّن أنّ المسلمين قبْل الفتنه لم يلتزموا الإسناد دائمًا، لِمَا كانوا عليه مِن الصِّدْق والأمانة، علْمًا بأنّ الإسناد لمْ يكُنْ طارئًا وجديدًا على العرَب بعد الإسلام، بل عرَفوه قبل الإسلام، وكانوا أحيانًا يُسندون القصص والأشعار في الجاهلية؛ وإنّما التُزم هذا التّثبّت في الإسناد بعْد الفِتنة في عهد صغار الصحابة وكبار التابعين.
وفي هذا، يروي الإمام مسلم، بسنده المتّصل عن مجاهد، قال: “جاء بشير العدوي إلى ابن عباس فجعل يُحدِّث ويقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم… قال رسول الله صلى الله عليه وسلم… فجعل ابن عباس لا يأذن لحدِيثه، ولا ينظر إليه. فقال: يا ابن عباس، ما لي لا أراك تسمع لحديثي، أحدِّثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تسمع؟ فقال ابن عباس: إنا كنّا مرّة إذا سمعنا رجلًا يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتدرَتْه أبصارُنا، وأصْغَيْنا إليه بآذاننا، فلمّا ركِب الناس الصّعب والذّلول، لم نأخذ مِن الناس إلاّ ما نعرف”.
وفي رواية عن طاوس: “فجعل -بشير- يُحدِّثه، فقال له ابن عباس: عُدْ لحديث كذا وكذا، فعاد له. ثم حدَّثه، فقال له: عُد لحديث كذا وكذا، فعاد له. فقال له: ما أدري، أعرفتَ حديثي كلّه وأنكرت هذا، أم أنكرت حديثي كلّه وعرفتَ هذا؟ فقال له ابن عباس: إنا كنّا نُحدِّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ لم يكُن يُكذَب عليه، فلمّا ركِب الناس الصّعب والذّلول، تركنا الحديث عنه”.
وكان بعْدَهم التابعون يسألون عن الإسناد ويلتزمونه؛ ومن هذا: ما يرويه ابن عبد البر، عن الشعبي، عن الربيع بن خيثم، قال: ((مَن قال: “لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يُحيِي ويُميت وهو على كلّ شيء قدير” عشْر مرّات، كُنَّ له كَعِتْق رقاب -أوْ رقَبَة-)). قال الشعبي: فقلت للربيع بن خيثم: مَن حدَّثك بهذا الحديث؟ فقال: عمرو بن ميمون الأودي. فلقيت عمرو بن ميمون، فقلت: مَن حدَّثك بهذا الحديث؟ فقال: عبد الرحمن بن أبي ليلى. فلقيتُ ابن أبي ليلى، فقلت: مَن حدّثك؟ قال: أبو أيّوب الأنصاري، صاحبُ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يحيى بن سعيد: هذا أوّل ما فُتِّش عن الإسناد.
وقال أبو العالية: “كنا نسمع الرواية بالبصرة عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فما رضينا حتى رحلْنا إليهم فسمعناها مِن أفواههم”.
وكان التابعون وأتباعهم يتواصَوْن بطلب الإسناد، قال هشام بن عروة: “إذا حدّثك رجلٌ بحديثٍ، فقُل: عمَّن هذا؟”، وكان الزهري إذا حدّث أَتَى بالإسناد، ويقول: “لا يصلح أن يرقى السطح إلا بدرجِه”.
وقال الأوزاعي: “ما ذهاب العلْم إلا ذهاب الإسناد”. وقال سفيان الثوري: “الإسناد سلاح المؤمن، فإذا لم يكن معه سلاح فبأي شيء يقاتل؟”. ويقول عبد الله بن المبارك: “الإسناد مِن الدِّين، ولولا الإسناد لقال مَن شاء ما شاء”، وعنه أنه قال: “بيننا وبين القوم: القوائم -يعني: الإسناد-“.
وقد أتقن التابعون الإسناد، وبرزوا فيه، كما برزوا في غيره مِن علوم الحديث؛ وفي هذا يقول أبو داود الطيالسي: “وجدْنا الحديث عن أربعة: الزهري، وقتادة، وأبي إسحاق، والأعمش. فكان قتادة أعلمَهم بالاختلاف، والزهري أعلمَهم بالإسناد، وأبو إسحاق أعلمَهم بحديث علي وابن مسعود. وكان عند الأعمش من كل هذا…”.
وأصبح الإسناد أمرًا بدهيًّا مُسلَّمًا به عند العامّة والخاصّة؛ ويظهر هذا فيما يرويه الأصمعي فيقول: “حضرت ابن عيينة وأتاه أعرابي، فقال: كيف أصبح الشيخ -رحمه الله-؟ فقال سفيان: بخير، نحمد الله. قال: ما تقول في امرأة حاضت قبل أن تطوف بالبيت في الحج؟ فقال: تفعل ما يفعل الحاجّ غير أنها لا تطوف بالبيت. فقال: هل مِن قدوة؟ قال: نعم، عائشة حاضت قبل أن تطوف بالبيت، فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أنْ تفعل ما يفعل الحاجّ غيْر الطّواف. قال: هل مِن بلاغ عنها؟ قال: نعم، حدثني عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة بذلك. قال الأعرابي: لقد استسمنت القدوة، وأحسنت البلاغ، والله لك بالرشاد”.
وقال المدائني: “سمع أعرابي رجلًا يحدث بأحاديث غير مُسنَدة، فقال: لِمَ تُرسلها بلا أزمّة، ولا خطْم؟”.
وهكذا نرى أنّ الإسناد كان قد أخذ نصيبه مِن العناية والاهتمام في عهد التابعين، حتى أصبح مِن واجب المحدِّث أنْ يُبيِّن نَسب ما يروى؛ وقد شبّه بعضهم الحديث مِن غير إسناد بالبيْت بلا سقف، ولا دعائم، ونظموه في قولهم:
والعلْم إنْ فاته إسنادُ مُسنِدِه | * | كالبيت ليس له سقْف ولا طنب |
وكان المحدِّث بإسناده الحديثَ يرفع العهدة عن نفْسه، ويطمئنّ إلى صحّة ما ينقل عند ما ينتهي سنده المتصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
3. العناية بضبط المتون، ونقل ألفاظها كما هي:
كان الصحابة والتابعون وأتباعهم يتثبَّتون في قبول الأخبار: فكان أحدهم لا يروى الحديث إلاّ بعد الاستيثاق مِن ضبْط حروفه وفهْم معناه. وكان الواحد منهم إذا سُئل يودّ لو أنّ أخاه كفاه مؤنة السؤال، حتى إنّ بعضهم كان يأبى أن يروي شيئًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مخافة الزيادة والنقصان.
وإذا ما استعرضنا الأخبار الواردة في هذا الباب، رأينا كثيرًا مِن الصحابة حرصوا على نقْل الحديث بألفاظه، وبعضهم ترخَّص عند الضرورة في روايته بالمعنى. وكما روى بعض الصحابة الحديث باللّفظ وبعضهم بالمعنى، نرى التابعين أيضًا قد نهجوا نهج الصحابة رضي الله عنهم ولكن ممّا لا شك فيه: أن جميع الصحابة حرصوا على أداء الحديث كما سمعوه من الرسول صلى الله عليه وسلم حتى إن بعضهم ما كان يرضى أنْ يبدِّل حرفًا بحرف، أو كلمة مكان كلمة، أو يُقدِّم كلمةً على أخرى وردت في الحديث قبْلها.
وقد ُروي عن عمر رضي الله عنه أنه كان يقول: “مَن سمِع حديثًا فحدّث به كما سمع، فقد سلِم”. ورُوي نحوه عن عبد الله بن عمر، وزيد بن أرقم.
وقد تشدّد بعض الرواة في المحافظة على نصّ الحديث بألفاظه، فمَنع زيادة حرف واحد، أو حذْفه، وإن كان لا يغيِّر المعنى؛ ومن هذا: ما رواه سفيان، قال: حدّثنا الزهري: أنه سمع أنس بن مالك يقول: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدّبّاء والمُزفَّت أنْ يُنتبذ فيه))، فقيل لسفيان: أنْ يُنبذ فيه؟ فقال: لا! هكذا قاله لنا الزّهري: ((يُنتبَذ فيه)).
وكان بعض الرواة شديدي الحِرص على اللفظ الذي سمعوه، فلا يخفِّفون حرفًا ثقيلًا، ولا يثقلون حرفًا خفيفًا، ولا يبدلون حركات الحروف التي يسمعونها، بل يروونها كما سمعوها، وإن كان ذلك التّغيير لا يبدِّل معناها، نحو: “نمى – نمّى” في حديثه صلى الله عليه وسلم: ((ليس الكاذب مَن أصلح بيْن الناس، فقال خيرًا أو نمّى خيرًا)). قال حماد: سمعت هذا الحديث مِن رجُليْن، فقال أحدهم: ((نمَى خيرًا)) خفيفة. وقال الآخر: ((نمَّى خيْرًا)) مثقّلة.
وبلَغ مِن حرْص بعض المحدِّثين على لفظ الحديث: أنهم لم يكونوا يحدِّثون طُلاّبهم إلا إذا كتبوا عنهم، إذ كانوا يكرهون أنْ يحفظوا عنهم؛ خوفًا مِن الوهْم عليهم. ومن هذا: ما يرويه الخطيب البغدادي بسنده، عن ابن عيينة، قال: قال محمد بن عمرو: “لا والله! لا أحدِّثكم حتى تكتبوه! إني أخاف أن تكذِبوا عليّ!” وفي رواية: “أخاف أن تغلطوا عليّ!”.
ومنه: ما رواه الرامهرمزي بسنده، عن طلحة بن عبد الملك، قال: “أتيتُ القاسم وسألته عن أشياء، فقلت: أكتبها؟ قال نعم. فقال لابنه: انظر في كتابِه، لا يزيد عليَّ شيئًا. قلت: يا أبا محمد إني لو أردت أنْ أكذب لمْ آتِك، قال: إني لم أُرِدْ، إنّما أردتُ إنْ أسقطتَ شيئًا يُعدِّله لك”.
وكان الأعمش يقول: “كان هذا العلْم عند أقوام، كان أحدهم لأَنْ يَخِرّ مِن السماء أحبّ إليه مِن أنْ يزيد فيه واوًا، أو ألِفًا، أو دالًا …”.
وقد أدرك ابن عون ثلاثة ممّن يُشدِّدون في رواية الحديث على حروفه، وهم: القاسم بن محمد بالحجاز، ومحمد بن سيرين بالبصرة، ورجاء بن حيوة بالشام. وكان إبراهيم بن ميسرة وطاوس يحدِّثان الحديث على حروفه. وكان طاوس يعُدّ الحديث حرفًا حرفًا. ويُروى عن ابن عيينة قوله: “محدثو الحجاز: ابن شهاب، ويحيى بن سعيد، وابن جريج، يجيئون بالحديث على وجهه”. وكان مالك بن أنس يحرص على أداء حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم على حروفه.
شروط الرواية بالمعنى:
وإلى جانب هذه الأخبار، نرى أخبارًا أخرى تدلّ على أنّ بعض الصحابة والتابعين روَوْا بعض الأحاديث بمعانيها، أو أنهم أجازوا إبدال كلمة بأخرى عند الضرورة.
وكان أحدهم إذا اضطرّ إلى هذا، أشار إلى أنّ ما يرويه ليس لفْظه صلى الله عليه وسلم لذلك نرى بعض الصحابة يتورعون كثيرًا عند ذكر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم خشية الخطأ.
وهؤلاء الذين أجازوا رواية الحديث على المعنى عند الضرورة، كانوا يُبيِّنون للسّامعين أنهم رووا بعض الحديث على المعنى، بقولهم بعد التحديث: “أو كما قال”، ونحو هذا… ومنهم مَن كان لا يُبيح لِمن يسمع أنْ يكتب عنه الحديث، حتى لا يظنّ أنّ ما رواه لفظ الرسول صلى الله عليه وسلم فكان عمرو بن دينار يحدِّث على المعنى ويقول: “أحرِّج على مَن يكتب عنِّي”.
ولا بدّ مِن أن نقرِّر أنّ مَن أباح روايةَ الحديث على المعنى، أباحها بشروط، ولم يُطلق هذا لأيِ إنسان. وأجازوا ذلك للضرورة، كأن يندّ اللفظ عن الذاكرة، أو يغيب لفظ الحديث عن المحدِّث عند الحاجة إلى روايته فيرويه بالمعنى؛ والضرورة تُقدَّر بقدرها… قال الإمام الشافعي في صفات الراوي: “أنْ يكون مَن حدّث به ثقة في دِينه، معروفًا بالصِّدق في حديثه، عاقلًا لما يُحدِّث به، عالِمًا بما يُحيل معاني الحديث مِن اللفظ، وأن يكون ممّن يؤدِّي الحديث بحروفه كما سمع، لا يحدِّث به على المعنى؛ لأنه إذا حدّث به على المعنى -وهو غير عالِم بما يُحيل معناه- لمْ يدْر لعلّه يُحيل الحلالَ إلى الحرام، وإذا أدّاه بحروفه فلمْ يَبْق وجْه يُخاف فيه إحالته الحديث…”.
قال الرامهرمزي: “وقد دلّ قول الشافعيّ في صِفة المُحدِّث مع رعايته اتّباع اللفظ، على أنه يسوغ للمُحدِّث أنْ يأتي بالمعنى دون اللفظ، إذا كان عالمًا بلُغات العرب ووجوه خطابها، بصيرًا بالمعاني والفقه، عالِمًا بما يُحيل المعنى وما لا يُحيله؛ فإنه إذا كان بهذه الصّفة، جاز له نقل اللفظ، فإنه يحترز بالفهم عن تغيير المعاني وإزالة أحكامها.
ومَن لم يكن بهذه الصّفة كان أداء اللفظ له لازمًا، والعدول عن هيئة ما يسمعه عليه محظورًا؛ وإلى هذا رأيت الفقهاء مِن أهل العلْم يذهبون. ومِن حُجَّتهم في جواز ذلك: أن الله عز وجل قد قصّ مِن أنباء ما قد سبق قصصًا كرّر ذكْر بعضها في مواضع بألفاظه مختلفة، والمعنى واحد، ونقَلها مِن ألسنتهم إلى اللسان العربيّ، وهو مُخالِف لها في التقديم والتأخير، والحذف والإلغاء، والزيادة والنقصان، وغير ذلك…”.