Top
Image Alt

عنصر المعاني

  /  عنصر المعاني

عنصر المعاني

أما العنصر الثاني فهو المعاني، والمعاني تنتمي إلى الفكر والعقل، والتجارب والثقافة هي المعين الذي يمد الأديب بأفكاره ومعانيه، وقد اهتم النقد العربي القديم بعنصر المعنى اهتمامًا كبيرًا، والبحوث النقدية التي دارت حول السرقات الأدبية محورها هو المعنى.

وحول القضية المعروفة في النقد القديم عن اللفظ والمعنى، وأيهما أهم؟ نجد اهتمامًا كبيرًا بشأن المعنى، فوضعوا مقاييس يحكم بها على المعنى.

وتتمثل هذه المقاييس فيما يلي:

أولًا: مقياس الصحة والخطأ: فهم يطلبون أول ما يطلبون في المعنى أن يكون صحيحًا لا خطأ فيه من ناحية الحقائق أو واقع الحياة أو المدلول اللغوي، وإذا وقع الأديب في خطأ من هذه الجوانب أُخذ عليه من قِبَلِ النقاد.

ومن هذه الأخطاء التي وقع فيها الشعراء كثير في كتاب (الموشح) للمرزباني، فموضوعه أخطاء وقع فيها الشعراء، وآخذهم عليها العلماء بالشعر.

ومن أمثلة الخطأ للجهل بالحقائق قول رؤبة بن العجاج:

كنتم كمن أدخل في جحر يدا

*فأخطأ الأفعى، ولاقى الأسْودا

فجعل الأفعى دون الأَسْود، أي: أقل منه وهي فوقه في المضرّة، والأفعى هي الحية، وفي (لسان العرب): الأسود: أخبث الحيات وأعظمها وأنكاها، فالشاعر هنا جعل الأسود أقل خطرًا من الأفعى، وهو مخطئ؛ لأن الأسود أخبث الحيات وأعظمها خطرًا.

ومن الخطأ المخالف للواقع والطبيعة قول الحكم الخضري:

كانت بنو غالب لأمتها

*كالغيث في كل ساعة يكف

قالوا: فليس المعهود أن يكون الغيث أو المطر واكفًا في كل ساعة، فقوله: “في كل ساعة يكف” هذا خطأ.

ومن الخطأ اللغوي قول البحتري:

تشق عليه الريح كل عشية

*  جيوب الغمام بين بكرٍ وأيم

فقد ظن البحتري أن الأيم هي من ليست بكرًا، فجعلها في البيت ضد البكر، مع أن الأيم من النساء هي التي لا زوج لها؛ بكرًا كانت أو ثيبًا، ومن الرجال من لا امرأة له.

ويمكن أن يكون من هذا المجال أيضًا، ما سبق أن ذكرناه من تخطئتهم للشاعر الذي قال:

وإني لأمضي الهم عند احتضاره

* بناج عليه الصيعرية مكدم

المقياس الثاني من مقاييس المعنى هو: مقياس الطرافة، والطرافة معناها الندرة وأن يقع الأديب على شيء معجب، وعدّوا من ذلك تحسين القبيح في قول أبي الأسود الدؤلي:

يلومونني في البخل جهلًا وضلة

*وللبخل خير من سؤال بخيل

فهذا يزين البخل.

وقول شاعر آخر يزين المشيب:

لا يرعك المشيب يا بنة عبد الله

*فالشيب زينة ووقار

إنما تحسن الرياض إذا ما

*بسمت في خلالها الأزهار

فمثل هذا الأدب لما فيه من الطرافة -طرافة المعنى- يستحسنه النقاد بهذا المقياس.

المقياس الثالث من مقاييس المعنى: مقياس الوفاء بالمعنى، وذلك بأن يأتي الأديب بالمعنى الذي يريده كاملًا غير منقوص، وجعلوا من وسائل الوفاء بالمعنى التتميم، وهو أن يذكر الشاعر المعنى فلا يدع شيئًا من الأحوال التي تتم به صحته، وتكمل معه جودته إلا أتى به.

ولبيان أثر هذا التتميم في تحسين المعنى وصحته وبلاغته، وازنوا بين بيت لطرفة بن العبد الشاعر الجاهلي، وبيت لذي الرمة الشاعر الأموي في معنًى واحد، فطرفة أراد أن يدعو لديار صاحبته بالسقيا فقال:

فسقى ديارك غير مفسدها
 
*صوب الربيع، وديمة تهمي

فقوله: غير مفسدها، فيه تتميم للمعنى بما يفيد أنه يدعو لديار صاحبته بأن يسقيها الغيث أو المطر بالقدر المطلوب، لا بالقدر الذي يزيد عن حاجتها فيصيبها بالتلف والإفساد، فالتتميم -تتميم المعنى وتوفيته- جاء من قوله: غير مفسدها.

أما ذو الرمة، فلما أراد أن يعبر عن هذا المعنى قال:

ألا يا اسلمي، يا دار مي على البلى

*ولا زال منهلًّا بجرعائك القطر

فدعا للديار بالسقيا لكنه قال: “ولا زال منهلًّا بجرعائك القطر”، أي: يدعو لها باستمرار المطر عليها، واستمرار المطر على الديار ربما أفسدها وجرّ على أهلها المتاعب، فالمعنى في بيت ذي الرمة ناقص ولم يوف، بينما المعنى في بيت طرفة أوفى منه وأتم.

ومما يوفي المعنى كذلك التكميل، ومثّلوا له بقول كثير عزة:

لو أن عزة حاكمت شمس الضحى
 
*في الحسن عند موفق، لقضى لها

فقوله: “عند موفق” تكميل بديع للمعنى، ولو أنه قال: “عند محكم” لتم المعنى؛ لكن في قوله: “عند موفق” زيادة تكميل بها حسُن معنى البيت.

ومنه أيضًا الإيغال، وهو: أن يستكمل الشاعر معنى بيته بتمامه قبل أن يأتي بالقافية، فإذا أراد الإتيان بها ليكون الكلام شعرًا أفادت القافية معنى زائدًا على معنى البيت. ومثاله قول الخنساء في رثاء أخيها صخر:

وإن صخرا لتأتمّ الهداة به

*كأنه علم في رأسه نار

والمعنى تم عند قولها: كأنه علم، فالخنساء لم ترض لأخيها أن يأتم به جهال الناس حتى جعلته يأتم به أئمة الناس، ولم ترض تشبيهه بالعلم وهو الجبل المرتفع المعروف بالهداية حتى جعلت في رأسه نارًا لمزيد الإرشاد والهداية، فهذا الإيغال البديع أكمل معنى المشبه به وهو الجبل وزوّد البيت بقافيته.

ومنه التقسيم، وهو: استقصاء الشاعر أقسام المعنى الذي هو آخذ فيه قسمة متساوية تحتوي على جميع أنواعه، ولا يخرج منها جنس من أجناسه. ومن تقسيم المعنى إلى ثلاثة أقسام لا رابع لها قول زهير:

وأعلم ما في اليوم والأمس قبله
 
*ولكنني عن علم ما في غد عم

فالبيت جامع لأقسام الزمان الثلاثة ولا رابع لها: الماضي والحاضر والمستقبل، اليوم والأمس والغد.

ومنه الإطناب بالاعتراض، والإطناب في الأصل: زيادة اللفظ على المعنى لفائدة، ويأتي في الكلام على أنواع شتى ليدل على فوائد، منها: التنزيه والدعاء والتحسر والتعظيم والتنبيه على أمر من الأمور. ومثلوا له بقول كثير عزة:

لو أن الباخلين وأنتِ منهم

*رأوك، تعلموا منك المطالا

فالإطناب بالاعتراض هنا في قوله: “وأنتِ منهم”، وقد بادر به الشاعر للتنبيه على بخل المخاطبة وهي عزة، وأن الباخلين -وهي واحدة منهم- جديرون بأن يتعلموا منها التسويف والمطال، وهي بخيلة في وصاله كما هو معروف، هذا معنى واضح بين شعراء الغزل العذري ومحبوباتهم.

المقياس الرابع من مقاييس نقد المعنى والحكم عليه: مقياس الوضوح والغموض، وهذا مقياس من أهم المقاييس التي يحكم بها على الأدب؛ لأن الأدب شعرًا كان أو نثرًا يحمل معنى ومضمونًا، ولا بد أن يصل هذا المضمون إلى القارئ أو السامع، فإذا كان المعنى غامضًا حكم على الأدب بعدم الجودة.

وغموض المعنى يأتي من عدة جهات؛ إما أن يكون المعنى غامضًا في ذاته بوصفه فكرة فلسفية بعيدة الغور، وإما أن يكون المعنى غامضًا في عقل الشاعر وليس غامضًا في ذاته، وإما أن يكون الغموض ناتجًا عن الأسلوب الذي استخدمه الشاعر في التعبير عن معناه.

وأيًّا كان السبب في غموض المعنى الذي يحمله النص الأدبي، فإن الغموض شيء غير محمود في الأدب، وقد عِيب على أبي تمام أنه أتى في شعره بكثير من المعاني التي لا يهتدى إليها ولا تفهم إلا مع الكَدّ والفكر وطول التأمل، ومنها ما لا يعرف إلا بالظن والحدس، وما عيب التعقيد اللفظي الناتج عن التقديم والتأخير إلا لأنه يخفي المعنى ويجعله غامضًا.

وقد يكون الكلام سليم النظم، لكن المعنى فيه غامض ومراد الشاعر فيه غير معلوم، ومثلوا له بقول القائل:

فجنبت العوار أبا خبيب
 
*وجاد على محلتك السحاب

يقول القاضي الجرجاني: “من يسمع هذا البيت يظنه دعاء لأبي خبيب واستسقاء لأرضه، وإنما مراد الشاعر الدعاء عليه أن يهلك الله إبله، فلا يملك منها ما يعار عليه، وأن تجود السحاب على أرضه وهو مملق، فيشتد أسفه على ما ذهب من ماله إذا رأى الأرض مخصبة وسائمة الحي راعية”. فالكلام معناه غامض؛ لأن الذي يفهم من ظاهره خلاف ما أراد الشاعر التعبير عنه.

المقياس الخامس من المقاييس التي يحكم بها على المعنى: مقياس الابتداع والاتباع، فالشاعر إذا وقع على معنى غير مسبوق حكم له بالجودة والتفوق، وإذا اتبع غيره في المعاني كان متبعًا وليس مبتدعًا، والمدار عندئذٍ على قدرته على إلباس هذا المعنى التقليدي ثوبًا بديعًا من التعبير والتصوير.

error: النص محمي !!