عوامل ازدهار الكتابة، وأنماطها، وسماتها
ازدهرت الكتابة -كما ازدهرت ألوان النثر الأخرى- في العصر العباسي؛ بسبب هذا الميراث الذي ورثته الكتابة من الرسائل والخطب التي أبدعها الأدباء في العصر الأموي، وورثت أيضًا الكتابة في العصر العباسي ما كان قبل الأمويين من بلاغة الخلفاء الراشدين والصحابة، ومن بلاغة الرسول صلى الله عليه وسلم وتتلمذت كذلك على البيان القرآني.
فاجتمع لها ما لم يجتمع لغيرها؛ اجتمع لها أدبُ القرآن وبيان الرسول صلى الله عليه وسلم والمأثور عن الصحابة وغيرهم من التابعين من الخُطباء والكتاب، وكذلك ميراث العصر الأموي، وما كان فيه من كتابة وخَطَابة؛ بالإضافة إلى هذا اللون الوافد أو الألوان الوافدة إن شئتَ من ثقافات الأمم الأخرى التي دخلت الإسلام، واتخذت من اللغة العربية لغةً لها، ثم تم نقل كثير من علومها وفكرها وأدبها إلى اللغة العربية.
بالإضافة إلى ذلك نظام الدولة العباسية الذي قام على أكتاف الفرس ومِن بعدهم الأتراك، وما دخل على هذا النظام من أساليب في الحكم جديدة؛ كالتوسع في إنشاء الدواوين وغير ذلك مما اقتضى أن يكون هناك كتابات مختلفة وليس كتابة واحدة، تنظم هذه الشئون ويكون لكل مجال أسلوبه في الكتابة، ثم هناك أيضًا الكتابة التأليفية في العلوم المختلفة، وهذه أيضًا كان لها أسلوبها الذي يميزها؛ فكتابة الدواوين أو الرسائل الديوانية، ثم الرسائل الإخوانية القائمة على التعبير عن العواطف المحضة التي يريد الأدباء التعبير عنها، ثم الكتابة التأليفية، ثم الكتابة الفلسفية والكتابة القَصصية، والكتب الدائرة على المناظرات والمحاورات، كل هذه ألوان من الكتابة لا بد أنها أَثْرَتْ العصر العباسي في هذا الجانب، ووسعت من دائرة الكتابة، ونوّعت من فنونها.
وكما حدثتك عن الخطابة في العصر العباسي، وأنها قويت جدًّا في العصر العباسي الأول، ثم نالها ضعف في العصر العباسي الثاني، فإن أمر الكتابة لا يختلف كثيرًا؛ لأننا سنجد أن الكتابة في القرون الأخيرة من الدولة العباسية أصيبت بالضعف، ولجأ الكتاب إلى التكلف واصطناع المحسنات البديعية، واستعراض الثقافات المختلفة، وفي كل هذا التكلف مجاوزة للحد المقبول، وخروج إلى ما ينافي الطبع الذي يوحي بالأدب الجميل المؤثر الذي تقبله النفس وتتأثر به بعيدًا عن هذه الألوان من التكلف المقيت.
ولذلك قالوا: بُدئت الكتابة بعبد الحميد وختمت بابن العميد. وعبد الحميد هذا كان في أواخر الدولة الأموية، وابن العميد هذا كان في أسلوبه امتدادًا للجاحظ، ولم يكن ابن العميد وحده هو الذي يمثل هذا الامتداد لأسلوب الجاحظ، وإنما كان معه أدباء آخرون كأبي حيان التوحيدي مثلًا. وعلى أي حال، فإن الكتابةَ الأدبية لم تسِر في العباسي على حال واحدة، ولم تكن سماتها واحدة على طول هذا العصر؛ فقد دَبَّ إليها الضعف والتكلف في آخر العصر العباسي، وكان حالها في أوله خيرًا من حالها في آخره.