Top
Image Alt

عوامل رقي النقد الأدبي في ظل الإسلام

  /  عوامل رقي النقد الأدبي في ظل الإسلام

عوامل رقي النقد الأدبي في ظل الإسلام

أهم المؤثرات التي أثرت في الأدب، وأثرت في النقد الأدبي كذلك: القرآن الكريم، هذا الدستور الخالد، وهذه المعجزة الباقية التي جعلها الله سبحانه وتعالى معجزة عقلية دائمة ومستمرة، تدل على صدق الرسول صلى الله عليه وسلموأنه جاء بالحق من ربه.

لقد تحدى القرآن الكريم العرب -وهم الفصحاء البلغاء- بفصاحته وبيانه، ولم يستطيعوا أن يصمدوا طويلًا في وجه القرآن؛ إذ أقروا بأنه معجز وبأنه ليس من كلام البشر، وأدركوا أنهم يَعجزون عن معارضته ويعجزون عن الإتيان بمثله أو الإتيان بصورة من مثله، وأيقنوا أن القرآن على حق حينما قال: {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88].

وأثّر القرآن الكريم في أدب العرب بلغته وطرائق تعبيره ووسائل بيانه، فأثر فيه من جهة المعاني والأفكار والمواقف والعقائد، ومن جهة الأساليب والألفاظ والجمل والتعبيرات، وأصبح القرآن الكريم بأسلوبه ومعانيه، وأصبحت كل هذه القيم الجديدة -القيم المعنوية والقيم التعبيرية- واضحة الأثر في أدب العرب، واتخذ منها المسلمون في ظل الإسلام قيمًا جديدة في نقدهم لأدبهم يتحاكمون إليها، مهتدين في ذلك بهدي القرآن الكريم.

والأثر المؤثر الثاني الذي أثر تأثيرًا واضحًا في أدب العرب وفي نقدهم: الرسول صلى الله عليه وسلمفقد كانت له صلى الله عليه وسلم منزلة خاصة في قومه، اكتسبها قبل بعثته رسولًا بخُلُقه الكريم، وسلوكه القويم، وعقله الرشيد، ورأيه السديد، فلما اصطفاه الله سبحانه وتعالى رسولًا إلى الناس كافة، وشرفه بما لم يشرف به أحدًا من العالمين؛ زادت منزلته صلى الله عليه وسلم.

وكان صلى الله عليه وسلمكما أخبر عن نفسه أفصح العرب، وعلاوة على ذلك آتاه الله جوامع الكلم، فكان صلى الله عليه وسلميعبر عن المعاني العظيمة والكثيرة بألفاظ قليلة.

وأثره صلى الله عليه وسلم في الأدب جاء من أكثر من جهة؛ الجهة الأولى: من أثر شخصيته صلى الله عليه وسلمومنزلته التي كانت له في قلوب أصحابه، حتى كان أحب إليهم من آبائهم وأمهاتهم والناس أجمعين، وهذا الحب العظيم الذي كان لرسول اللهصلى الله عليه وسلم في نفوس أصحابه دفعهم إلى الثناء عليه صادقين، وإلى تطييب أدبهم بمديحه والإشادة بمآثره، ووصف شمائله صلى الله عليه وسلم.

كما دفعهم ذلك أيضًا إلى الرد على المشركين خصوم الدعوة الإسلامية، ودحض مزاعمهم وافتراءاتهم التي كانوا يحاولون بها أن يؤذوا رسول الله صلى الله عليه وسلموأن يعطّلوا دعوته.

وكانت الأحداث التي حفلت به حياته جهادًا وغزوة ودعوة وسفرًا وإقامة مادة وموضوعات جديدة للأدب الإسلامي، وأمدّت الشعراء والخطباء بزاد متجدد من العواطف والأفكار والمواقف والصور، وتحلّقت طائفة من الشعراء حول الرسول صلى الله عليه وسلموكان هؤلاء الشعراء وأولئك الأدباء يستجيبون لتوجيهات الرسولصلى الله عليه وسلمالتي كانت بمثابة فتح جديد في مجال النقد الأدبي؛ لأنه صلى الله عليه وسلمكان ذا ذائقة متميزة لطعوم الكلام، ومعرفة واعية بمراميه وأسراره، وكان صلى الله عليه وسلميستجيد بعض الأشعار، ويطلب من أصحابه رضي الله عنهم أن ينشدوه إياها.

كما كان لبلاغته صلى الله عليه وسلمفي أحاديثه الكريمة أثر طيب في إثراء الأدب العربي بزاد جديد من البلاغة العالية، كل هذا كان -ولا يزال- أثرًا من آثار الرسول صلى الله عليه وسلمالكريمة على الأدب العربي، وعلى النقد العربي كذلك.

ولا بد هنا أن نقف وقفة مع الذين ذهبوا إلى أن الإسلام ربما يكون أثّر على مسيرة الأدب، وعلى مسيرة الشعر، وأن الأدب العربي تأثر تأثرًا سلبيًّا بظهور الإسلام، وأنه لم يكن بالقوة التي كان عليها في العصر الجاهلي، وقد توهم بعضهم أن القرآن الكريم غضّ من شأن الشعر بما ورد في قول الله عز وجل: {وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُون * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُون * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُون} [الشعراء: 224-226]، وظنوا أن القرآن يغض من شأن الشعر أيضًا ومن شأن الأدب؛ بسبب قول الله عز وجل في حديثه عن الرسول صلى الله عليه وسلم: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ} [يس: 69].

والحقيقة أن هذا التوهم باطل؛ لأن الإسلام لم يغض من شأن الشعر، ولم يهوّن من شأنه، ولم يكن الإسلام سببًا في ضعف الشعر أو الأدب، بل العكس هو الصحيح، فعرف الإسلام للأدب قيمته وخطورته، وعرف للكلمة تأثيرها، وما يذهب إليه هؤلاء من فهمهم لآية الشعراء استنتاج خاطئ؛ فنزول سورة باسم الشعراء دليل على أن الإسلام يعرف للشعر أثره وخطره، وعندما ذمّ القرآن صنفًا من الشعراء لم يذم الشعراء جميعًا، قال تعالى: {وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُون * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُون * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُون * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُون} [الشعراء: 224-227]؛ فالذم متبوع باستثناء.

إذًا الذم ينصبّ على الشعر الكاذب الذي لا يتحرى أصحابه الغاية النبيلة فيه، ولا يتحرون الصدق، وإنما يقولون من غير أن يبالوا بكلامهم أو بأثره أو بقيمته، أولئك الذين في كل واد يهيمون، ويقولون ما لا يفعلون.

أما الشاعر الواعي البصير بمهمته، والمحافظ على غايته، والذي يتحرى الصدق في كلامه، ويسخّر شعره وأدبه من أجل الدفاع عن الحق، فالقرآن استثنى هذا وأمثاله من الشعراء من الذم: {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا}.

وقول القرآن الكريم عن الرسول صلى الله عليه وسلم: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ} إنما هو ردّ على الكفار الذين أخذوا ببلاغة القرآن، فقالوا: الرسول شاعر، والقرآن شعر، وعندما رجعوا إلى أنفسهم أيقنوا أن القرآن ليس بشعر، فهم أعلم الناس بالشعر وطرائقه، والقرآن الكريم ينفي صفة الشعر عنه، وينفي صفة الشاعر عن الرسول، ليكون الرسول صلى الله عليه وسلمرسولًا يوحى إليه من ربه لا يقول شعرًا، والذي يأتي به ليس من كلام البشر، وإنما هو كلام الله عز وجل، هذا هو المراد من قول الله عز وجل: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِين} والله أعلم.

إذًا هذا التوهم باطل من جهة الاستدلال بالقرآن الكريم، كما يتوهم البعض من أن القرآن يغض من شأن الأدب أو يحرّم الشعر أو شيئًا من هذا القبيل، ولو كان كلامهم صحيحًا لخمل ذكر الأدب والشعر في أيام الدعوة الإسلامية، ولكننا على العكس من ذلك نجد أن الشعر والخطابة يعلو شأنهما وتروج سوقهما، ويستخدم الإسلام الشعر سلاحًا في الدعوة الإسلامية؛ إذ كان للرسولصلى الله عليه وسلم كوكبة من الشعراء يحيطون به ويدافعون عنه، ويردون على المشركين وعلى شعراء المشركين، الذين يحاولون أن يغضوا من شأن الرسول ومن شأن دعوته، ويعيبوا دينه.

إذًا كانت الكلمة البليغة المؤثرة، وكان الشعر والخطابة كذلك من أسلحة الدعوة الإسلامية، فكيف يأتي بعد ذلك من يقول: إن الأدب لم يجد في ظل الإسلام ما يقويه، أو ما يرفعه؟

الذي حدث في ظل الإسلام أن الإسلام وجّه الأدب؛ لم يضعفه، لم يضيق عليه، لم يحرّمه، وإنما وجهه ليكون الأديب صاحب رسالة، وليكون للأديب غاية، ولتكون الكلمة مستخدمة لنصرة الحق ولبيان الهدى، فالإسلام لا يحب شعر الهجاء الفاحش، ولا يحب الكذب في المديح، ولا يحب أن يستخدم الأدب للتحريض على الرذيلة أو تسويغها.

إذًا الذي تغير في ظل الإسلام هو وجهة الأدب، من غير أن يكون هناك تحريم للأدب أو غض من شأنه، أو أن يكون هناك تحريم للشعر أو غض من شأنه.

ولقد كتب الإمام عبد القاهر الجرجاني في مقدمة كتابه (دلائل الإعجاز) كلامًا طيبًا، في بيان خَطَل من ذهب إلى أن الإسلام يغض من قيمة الشعر، وكتب تحت عنوان: “فصل في الكلام على من زهد في رواية الشعر وحفظه، وذم الاشتغال بعلمه وتتبعه” أسباب ذم مثل هؤلاء للشعر، وأخذ يفنّد هذه الأسباب سببًا سببًا، وذكر حجج هؤلاء الذين يزهدون في الشعر، ومن هذا كلامهم أن القرآن قال: {وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُون}، وقول القرآن: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ}، وقولهم أيضًا: إن الرسول صلى الله عليه وسلمقال: ((لأن يمتلئ جوفُ أحدكم قيحًا حتى يُرِيَهُ، خيرٌ له من أن يمتلئ شعرًا)).

وفي معرض رده -رحمه الله- يذكر أن الرسول صلى الله عليه وسلمقال أيضًا: ((إن من الشعر لحكمة، وإن من البيان لسحرًا))، ويقول مخاطبًا من يزهد في الشعر ويعيبه: وكيف نسيت أمره صلى الله عليه وسلم بقول الشعر، ووعده عليه الجنة، وقوله لحسان: ((قل، وروح القدس معك)) وسماعه له واستنشاده إياه، وعلمه صلى الله عليه وسلمبه، واستحسانه له، وارتياحه عند سماعه؟

ويقول: أما أمر الرسول صلى الله عليه وسلمبقول الشعر فمن المعلوم ضرورة، وكذلك سماعه إياه، فقد كان حسان وعبد الله بن رواحة وكعب بن زهير يمدحونه، ويسمع منهم ويصغي إليهم، ويأمرهم بالرد على المشركين، فيقولون في ذلك ويعرضون عليه، وكان عليه السلام يذكر لهم بعض ذلك، كالذي روي من أنه صلى الله عليه وسلمقال لكعب: ((ما نسي ربك، وما كان ربك نسيًّا شعرًا قلته)). قال: وما هو يا رسول الله؟ قال: ((أنشده يا أبا بكر)). فأنشد أبو بكر رضي الله عنه:

زعمت سخينة أن ستغلب ربها
 
* وليُغْلَبَنَّ مُغالِبُ الغلاب

فالرسول صلى الله عليه وسلميثني هنا على كعب، ويبشره بأن الله عز وجل سيجازيه خيرًا على قوله هذا؛ لأنه يذكر فيه أن الله عز وجل هو الغالب، وهو المنتصر، وهو العزيز الحكيم، وأن قريشًا عندما زعمت أنها ستغلب ربها؛ أي: ستقضي على الإسلام ودعوة الرسول صلى الله عليه وسلمكان زعمها ذلك كذبًا، وأن الله سبحانه وتعالى لا يغلب.

وأما استنشاده صلى الله عليه وسلمللشعر فكثير، من ذلك:

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه

*  ثمال اليتامى عصمة للأرامل
 
يطيف به الهلاك من آل هاشم
 
*  فهم عنده في نعمة وفواضل

والثمال أي: الملجأ. والأرامل: جمع أرملة، وهي المرأة التي لا زوج لها. ويطيف: يحيط أو يقصد أو يلوذ. والهلاك: جمع هالك، وهو طالب العطاء.

وعن الشعبي رضي الله عنه عن مسروق، عن عبد الله قال: لما نظر رسول الله صلى الله عليه وسلمإلى القتلى يوم بدر مصرعين، قال صلى الله عليه وسلملأبي بكر رضي الله عنه: ((لو أن أبا طالب حيّ، لعلم أن أسيافنا قد أخذت بالأنامل))، قال: وذلك لقول أبي طالب:

كذبتم وبيت الله إن جد ما أرى
 
*  لتلتبسن أسيافنا بالأنامل

وينهض قوم في الدروع إليهم

*  نهوض الروايا في حلاحل

ومن المحفوظ في ذلك حديث محمد بن مسلمة الأنصاري، جمعه وابن أبي حدرد الإسلامي الطريق، قال: فتذاكرنا الشكر والمعروف، قال: فقال محمد: كنا يومًا عند النبي صلى الله عليه وسلمفقال لحسان بن ثابت: “أنشدني قصيدة من شعر الجاهلية؛ فإن الله قد وضع عنها آثامها في شعرها ورواياتها. فأنشده قصيدة للأعشى هجا بها علقمة بن علاثة:

علقم ما أنت إلى عامر

*  الناقض الأوتار والواتر

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((يا حسان، لا تعد تنشدني هذه القصيدة بعد مجلسك هذا)) فقال: يا رسول الله، تنهاني عن رجل مشرك مقيم عند قيصر؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((يا حسان، أشكر الناس للناس أشكرهم لله تعالى، وإن قيصر سأل سفيان بن حرب عني فتناول مني -وفي خبر آخر: ((فشعث مني))- وسأل هذا -أي: علقمة- فأحسن القول))، فشكره رسول الله صلى الله عليه وسلمعلى ذلك. وروي من وجه آخر أن حسان قال: يا رسول الله من نالتك يده، وجب علينا شكره.

ومن المعروف في ذلك أيضًا خبر عائشة رضي الله عنهما أنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلمكثيرًا ما يقول أبياتك، فأقول:

ارفع ضعيفك لا يحر بك ضعفه

*  يومًا فتدركه العواقب قد نما

يجزيك أو يثني عليك وإن من

*  أثنى عليك بما فعلت فقد جزى

قالت: فيقول عليه السلام: ((يقول الله -تبارك وتعالى- لعبد من عبيده: صنع إليك عبدي معروفًا، فهل شكرته عليه؟ فيقول: يا رب، علمت أنه منك فشكرتك عليه. قال: فيقول الله عز وجل: لم تشكرني؛ إذ لم تشكر من أجريته على يده)).

من هذا نعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلملم يرفض سماع الشعر، ولم يحرم قول الشعر، ولم ينه أصحابه عن الشعر، وإنما كان يدعوهم إلى قوله، فيدعو حسان إلى قوله، ويشجع كعبًا عليه ويبشّره بثناء الله سبحانه وتعالى ورضاه عنه؛ بسبب شعر قاله، ويستشهد، ويطلب من أبي بكر رضي الله عنه أن يسمعه أبياتًا في مناسبات معينة، ويطلب من أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها أن تسمعه أبياتًا كانت تحفظها.

لكن الذي نلاحظه أن الشعر هنا -الشعر الذي يشجعه الرسول، الشعر الذي يسمعه الرسول، الشعر الذي يثني عليه الرسول صلى الله عليه وسلم يسير في النور الجديد، يسير تحت راية الإسلام، لا يناقض القيم، يستخدم للإشادة بالحق، لبيان الهدى، للرد على الباطل، للإشادة بمكارم الأخلاق، فقيمة شكر من يحسن إلى الناس، هذه قيمة يدعو إليها الإسلام ويعظّمها، والرسول صلى الله عليه وسلميستحسن الشعر الذي يدعو إلى هذه القيمة، ويطلب من السيدة عائشة أن تنشده إياه.

فهل يمكن بعد هذا كله أن يكون عند بعض الناس ظن، ويذهبوا إلى أن الإسلام أضعف الشعر، وهم في استدلالهم من آية سورة “الشعراء”، ومن أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلمغير محقين؟

لا يمكن بعد هذا البيان من الرسول صلى الله عليه وسلمواستجادته لبعض الشعر وتشجيع أصحابه عليه، أن يكون عند أولئك حقّ فيما ذهبوا إليه، ونستطيع أن نؤكد ونحن مطمئنون أن الرسول صلى الله عليه وسلموجّه الأدب والشعر، وأن الإسلام اختطّ للأدب وللشعر طريقًا جديدًا ليكون في حدود ما يريده الإسلام من الكلمة، بحيث تصبح الكلمة أداة إصلاح وأداة هداية، ويصبح الأدب سلاحًا يتقوى به الحق ضد الباطل، ويبتغي الأديب من أدبه غاية شريفة هي نصرة الحق وطلب مرضاة الله عز وجل.

إذًا هنا سموّ بالأدب، وسمو برسالته، ووجدنا الشعراء الذين أحاطوا بالرسول صلى الله عليه وسلم يلتزمون بهذه الغاية، ويوجدون في شعرهم، ووجدنا الخطابة تنمو وتزدهر في ظل الإسلام، ووجدنا الأدب يسمو هذا السمو النبيل في ظل الدين الجديد.

وهذا الأثر في الأدب انتقل إلى النقد، وإذا كانت عملية النقد في صميمها انتقاء، فإن الرسول صلى الله عليه وسلمباختياره وانتقائه لبعض الأشعار واستجادته إياها، وطلبه من أصحابه أن يردّدوها على مسامعه، نقول: عملية الانتقاء هذه من الرسول صلى الله عليه وسلمهي في حقيقتها عملية نقد، إذًا الرسول صلى الله عليه وسلم يوجه النقد، ويؤثر فيه عن طريق هذا الانتقاء.

وكما كان الرسول صلى الله عليه وسلمله دور في هذا، كان لأصحابه الكرام رضي الله عنهم دور كذلك في توجيه النقد الأدبي في العصر الإسلامي، وبهذا التوجيه تميز النقد في ظل الإسلام عن النقد الأدبي في الجاهلية؛ لأن القيم -قيم الحياة فيما يتعلق بالعقائد والأخلاق والسلوك- تغيرت في ظل الإسلام، وأصبح الأدب له غايات جديدة غير الغايات التي كانت له في الجاهلية، وأصبح الجمهور الذي يتلقى هذا الأدب له ذوق في استقبال هذا الأدب غير الذوق الذي كان عليه الجاهليون، فالمسلمون بالدين الجديد، وبالفكر الجديد، وبالعقائد الجديدة، أصبحوا يستحسنون من الكلام ما يوافق عقائدهم ودينهم، ويستهجنون من الكلام ما لا يوافق هذه العقائد.

ومن هنا وجدنا الغاية الخلقية تظهر بوضوح في الأدب الإسلامي، ووجدنا القيمة الخلقية تظهر بأهمية كبيرة في مجال النقد الأدبي، وأصبحت هذه القيمة ذات أثر فعّال في تقويم الأدب، من غير أن يكون هناك إغفال للنواحي الفنية من جهة التعبير، ومن جهة التصوير، وبيان هذه الحالة التي كان لأصحابه الكرام دور كذلك في توجيه مسيرة النقد على النحو الذي سنفصله في الدرس القادم إن شاء الله.

error: النص محمي !!