عودة المسلمين من مؤتة إلى المدينة، وموقف أهل المدينة منهم
عاد خالد بالمسلمين إلى المدينة، ولكنه في طريقه ما نسي أن يؤدّب جماعة من العرب قتلوا رجلًا من المسلمين عند ذهابهم إلى الشام فغزاهم، وحاصرهم، وقتل فيهم مقتلة عظيمة؛ تأديبًا لهم على ما فعلوا بهذا الرجل وبالمسلمين، ثم عاد خالد إلى المدينة بهذا النصر العظيم الذي أيّده الله به.
وقد ذُكر أن المسلمين تلقّوا الذين عادوا من هذه الموقعة يحثون في وجوهم التراب، ويصفونهم بالفُرار، والحقيقة أن هذا الاستقبال في المدينة ليس لجند خالد، وإنما كان للجماعة التي فرت من أول الأمر، ولم يصمدوا مع خالد بن الوليد رضي الله عنه، وذلك حينما فتنوا بكثرة الروم وأتباعهم من متنصّرة العرب، ففرّوا ورجعوا إلى المدينة، وظنوا أن المسلمين سوف ينسحبون لأن العدد كثير عليهم، ولمّا عادوا تلقّاهم الناس حتى الصبيان يحثون في وجوههم التراب ويسمّونهم بأنهم الفُرّار، ويقولون: يا فُرّار، حتى إن بعضهم كان يتحرّج من شهود الجماعة مع النبي صلى الله عليه وسلم؛ خجلًا من فراره من هذا اللقاء.
النبي صلى الله عليه وسلم يعالج الموقف:
وعالج النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأمر بكلّ حكمة، مع أنه صلى الله عليه وسلم كان يكره أن يعود بعض الناس من السرية التي يبعثها، فقال صلى الله عليه وسلم: ((بعثتكم جميعًا وتعودون فرادى))، ومع ذلك لأن هذه كانت تجربة صعبة على المسلمين في هذا الميدان الذي باشروا القتال فيه لأول مرة، وهو ميدان النصارى، نصارى الشام؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما قيل لهؤلاء: يا فُرّار، فإنه صلى الله عليه وسلم كان يقول: ((بل إنهم العكارون)) أي: الفرارون، وكما قال صلى الله عليه وسلم: ((إنما أنا فئتكم)) أي: تلميحًا لقوله عز وجل: {أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ} [الأنفال: 16].
وبهذا عالج النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأمر مع أولئك الذين ضعفت نفوسهم أمام هذا الجمع الكبير. وكان من أهم النتائج التي ترتّبت على نصر الله عز وجل المسلمين في هذه السرية: أن المسلمين تعلموا دروسًا من القتال في هذا الميدان، وتعاملوا مع عدوّ جديد لم يتعاملوا معه من قبل، وكان ذلك من الأمور التي ترتّب عليها اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الميدان، وكان من مظاهر ذلك: غزوة تبوك التي كانت آخر غزواته صلى الله عليه وسلم، والتي كانت في رجب من السنة التاسعة.
وكذلك فإنه صلى الله عليه وسلم بعد أن حج حجة الوداع في السنة العاشرة كان شغله بعد أن عاد إلى المدينة من الحج، هو إعداد بعث أسامة الذي وجّهه إلى الشام، وكان اهتمامه صلى الله عليه وسلم بهذا البعث عظيمًا، حتى إنه صلى الله عليه وسلم كرّر الوصاة للمسلمين بأن يبعثوا هذا البعث، فما كان يفيق ممّا كان يغشاه من شدّة وجعه حتى يقول: ((أنفذوا بعث أسامة))، فكان آخر أعمال النبي صلى الله عليه وسلم هو إعداد هذا البعث، وكان أول عمل عمله أبو بكر رضي الله عنه لما تولّى أمر المسلمين بعد النبي صلى الله عليه وسلم هو أنه أنفذ هذا البعث كوصية النبي صلى الله عليه وسلم.