غزوة بني النضير، وسببها، حصار بني النضير، وإباؤهم الخروج
أ. سبب غزوة بني النضير:
كانت غزوة بني النضير في شهر ربيع الأول من السنة الرابعة للهجرة، ذلك أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم خرج إليهم يبغي إشراكهم في دية القتيلين اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري، وهما من بني عامر، وبنو عامر حلفاء لبني النضير، وكان الحلف يلزمهم المشاركة في الدية.
ولما وصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى بني النضير في جمعٍ من صحابتهy، وعرض عليهم الأمر، فرحبوا في بداية الأمر، وأجلسوا النبي صلى الله عليه وسلم وأشعروه أنهم سوف يودونهم، ولكنهم تآمروا ودبروا لمقتله صلى الله عليه وسلم، فصعد واحدٌ منهم وهو عمرو بن جحاش إلى سطح الدار التي يجلس النبي صلى الله عليه وسلم إلى جدارها؛ ليلقي عليه حجرًا.
وبينما هم يدبرون ذلك الأمر؛ إذ بالنبي صلى الله عليه وسلم يأتيه الوحي من السماء يخبره بما عزمت عليه يهود بني النضير، فقام النبي صلى الله عليه وسلم عائدا إلى المدينة لم يعرج على شيء، وقد ظن الصحابة رضوان الله عليهم أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج لبعض حاجاته، وأنه سوف يعود.
ولكنه لما طال مقامهم، جاء من يخبرهم بأن النبي صلى الله عليه وسلم دخل المدينة، فرجع المسلمون إلى المدينة، حتى يعلموا أمر النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم إنه صلى الله عليه وسلم دعا محمد بن مسلمة الأوسي، وأمره أن يذهب إلى بني النضير بأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا من بلده؛ لهذا الجرم الذي عزموا عليه، وهنا قال حيي بن أخطب لمحمد بن مسلمة: ما كنا نتوقع أن يأتينا بهذا الأمر رجل من الأوس؛ لأنهم كانوا حلفاءً للأوس، ولكن محمد بن مسلمة قال لهم: لقد تغيرت القلوب بعد الإسلام، أي: لم يعد بيننا ود لكم كما كان أيام الجاهلية؛ بسبب عدائكم للنبي صلى الله عليه وسلم وللإسلام.
وهنا عرف بنو النضير بجرمهم ، وتشاوروا فيما بينهم ورأوا أنه لا مجال أمامهم إلا أن يستجيبوا لأمر النبي صلى الله عليه وسلم فمكثوا أيامًا يتجهزون، ولكن عبد الله بن أبي ابن سلول وجماعة من المنافقين أرسلوا إليهم من يَحضهم على ألا يستجيبوا لأمر النبي صلى الله عليه وسلم، وقالوا: اثبتوا وتمنعوا فإنَّا لن نسلمكم، إن قوتلتم قاتلنا معكم، وإن أخرجتم خرجنا معكم.
وكان من كلام عبد الله بن أبي سلول: إن معي ألفين من قومي، ومن غير العرب يدخلون معكم حصونكم، فيموتون عن آخرهم قبل أن يوصل إليكم، وأطمعهم في نصر إخوانهم من بني قريظة ومن غطفان، وأرسل إلى كعب بن أسد القرظي يسأله أن يقف مع إخوانه من بني النضير فأبى، ولم يرضَ نقض العهد مع النبي صلى الله عليه وسلم.
فيئس عبد الله بن أُبي بن أبي سلول من قريظة، وهنا أمام هذه الوعود الكاذبة، والتي لم يحدث منها شيء، تشدد بن أخطب ورفض الاستجابة بعد أن كانوا استعدوا للخروج، ولطمعه فيما وعد به ابن سلول، استعد بإعداد الحصون، وتهيأ لحصار المسلمين لهم.
هنا نلاحظ أمرًا غريبًا، وهو أن عبد الله بن أبي بن سلول من الخزرج، وبنو النضير لم يكونوا حلفاءه، وإنما كانوا أعداءه بالأمس، فوقوف عبد الله بن أبي ابن سلول معهم أمر يعتبر غريبًا، ولكن لا يستغرب الأمر ما دام الكفر يجمع بين هؤلاء وأولئك؛ ولذلك نزلت قوله تعالى: {أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُون لَئِنْ أُخْرِجُوا لاَ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُوا لاَ يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُون} [الحشر: 11، 12].
أمَّا حيي بن أخطب، فقد أخذ في الاستعداد طمعًا في إنجاز ابن سلول وعده، فعدل عن الخروج، ولما عرض عليهم سلام بن مشكم أن يقبلوا ما عرضه عليهم النبي صلى الله عليه وسلم من الخروج في أمان منه، وحذرهم المخالفة، حتى لا تصاب أموالهم وأنفسهم؛ لأنه لو سار إليهم محمدٌ صلى الله عليه وسلم فلن يكون لهم إلا ما يكون كرههم له أشد من الشروط.
لكن ابن أخطب أبى معتمدًا على وعود ابن سلول، فأرسل إلى النبي صلى الله عليه وسلم بخطاب له مع أخيه جدي، فقال له: “إنا لن نبرح دارنا وأموالنا، فاصنع ما بدا لك”؛ ثم أمره أن يخبر ابن سلول بذلك حتى يستحثه لإنجاز وعده لهم.
ب. حصار بني النضير، وإباؤهم الخروج:
ولكن النبي صلى الله عليه وسلم لما علم بأمرهم كَبَّرَ، وكَبَّرَ المسلمون لتكبيره، وقال صلى الله عليه وسلم: حاربت يهود.
ولما ذهب جدي إلى ابن سلول حتى يخبره بما تم مع النبي صلى الله عليه وسلم من إخباره، رأى عبد الله بن أبي ابن سلول أن يُسرع للخروج، فخرج جدي مسرعًا، وقد يئس من ابن سلول يخبر أخاه بما تم أمر المسلمين عليه، وأنهم مستعدون للخروج لبني النضير، وهنا علم حيي بن أخطب خطأ ما كان عليه.
ولكن قام بنو النضير على حصونهم معهم النبل، والحجارة، وكانوا وحدهم هكذا، وجعلوا يرمون المسلمين بالنبل والحجارة، حتى أظلموا، وبات المسلمون يحاصرونهم ويُكَبِّرون حتى أصبحوا، ولقد اشتد حصاره صلى الله عليه وسلم لهم، كما اشتدوا هم في المقاومة، والتجلد.
ومن ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأمرٍ لعله أن يصيب من ثباتهم وتجلدهم، فأمر بالنخل فقطعت وحرقت كيدًا لهم، واستعمل على قطع النخل رجلين من أصحابه: أبا ليلى المازني، وعبد الله بن سلام.
وكانت العجوة أحرق لقلوب اليهود، وقد صاحت النساء وشققن جيوبهن لهذا الخراب، والدمار، الذي حل بهم، وأرسل ابن أخطب إلى النبي صلى الله عليه وسلم: إنك كنت تنهى عن الفساد، فَلٍمَ تقطع النخل؟ وهنا كان المسلمون الذين يقومون بتنفيذ أمر النبي صلى الله عليه وسلم قد وقع في قلوبهم شيء من هذا، ولكن نزلت آية سورة الحشر التي هي سورة بني النضير يقول الله عز وجل فيها: {مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِين} [الحشر: 5].
أي: إن هذا الأمر الذي تقومون به إنما هو أمر من عند الله عز وجل، تقومون به كيدًا لهؤلاء الكافرين الذين هَمُّوا بما لم ينالوا.
وأخيرًا: رضي بنو النضير أن يخرجوا على أن يعطوا النبي صلى الله عليه وسلم ما سألهم إياه، وقالوا: نعطيك الذي سألت، ونخرج من بلادك، فقال صلى الله عليه وسلم: لا أقبله اليوم، ولكن اخرجوا منها، ولكم ما حملت الإبل إلا الحلقة، أي: إلا السلاح. فقال سلام بن مشكم لحيي: اقبل قبل أن تقبل شرًّا من هذا. فقال حييٌ: وما هو شرٌّ من هذا؟ قال: سبي الذرية، وقتل المقاتلة، مع الأموال؛ ولذلك مكث حييٌّ يومًا أو يومين يفكر في الأمر، وأخيرًا: استقر الرأي عند بني النضير، وخضع ابن أخطب لأمر النبي صلى الله عليه وسلم فاستعدوا للخروج من المدينة على ما شرط عليهم النبي صلى الله عليه وسلم.
ولقد كان بنو النضير حينما استعدوا للخروج يخربون بيوتهم، فقال تعالى: {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَار أَن كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاَء لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابُ النَّار} [الحشر: 2،3].