غزوة تبوك، تاريخها، وترتيبها
بعد أن استقر النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة بعث المصدقين -الذين يجمعون الصدقات والزكاة- فبعث بريدة بن الحصيب إلى أسلم وغفار، كما بعث عباد بن بشر إلى سليم ومزينة، ورافع بن مكيث إلى جهينة، وعمرو بن العاص إلى فزارة، وغيرهم إلى بقية القبائل؛ حتى يكون ذلك مثبتًا للإيمان والإسلام في قلوبهم، فليست الصلاة وحدها هي التي يكون بها الإسلام، وإنما لا بد كذلك من الزكاة، وأن يعود العرب على ذلك العطاء وبخاصة الأعراب.
على أن ما تبع رجوعه صلى الله عليه وسلم إلى المدينة كان مواصلة للجهاد في بث السرايا إلى القبائل التي كان منها بعض المخالفات أو بعض التجمع ضد الإسلام، وحتى يكون ذلك حافزًا لهم، ودفعًا بهم إلى حظيرة الإسلام بعد أن أعطت قريش وغيرها المقادة ودخلت في الإسلام.
وهكذا بدأ العام الهجري التاسع، وقد حقق الله النصر على أعداء هذا الدين في مجال الدعوة الخاصة، سواء في ذلك قريش والأعراب والقبائل الكبيرة، وكذلك بعد أن حقق الله النصر على اليهود.
ومن ثم كان الأمر يحفز إلى الخروج بهذه الدعوة إلى خارج الجزيرة وملاقاة الروم الذين كانوا بالشام وأعوانهم على تخوم الشام مما يلي الجزيرة من الغساسنة وغيرهم، ممن كانوا يكونون جبهة قوية من النصارى -الذين انحرفوا بالمعتقد السليم في هذه العقيدة، وهذه الملة ملة عيسى عليه السلام، فلقد تعددت فيها المذاهب وبعُد النصاري بهذه العقيدة عن المنهج السليم، وتعددت المذاهب، وعبث الأباطرة بأمر الدين، ولم يكن لهم منه إلا أنه يحقق لهم المكاسب وإخضاع الناس لسلطانهم.
ولقد رأينا من قبل كيف أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث بكتابه إلى هرقل وإلى غيره من ملوك الغساسنة، ومن دخل في طاعة الروم، نواحي الشام. ورأينا كيف كان الرد منهم، بل إن بعضهم قتل رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن ثم كانت سرية مؤتة التي عرفنا أمرها.
ولما رجع صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بعد الفتح وبعد أمر الطائف، وهوازن، فإنه صلى الله عليه وسلم عمل على أن يخرج في هذه الغزوة التي كانت آخر غزواته صلى الله عليه وسلم وهي غزوة تبوك التي كانت في شهر رجب من السنة التاسعة للهجرة.
وكان صلى الله عليه وسلم في كل غزواته يوري بغيرها حتى لا يعرف الناس من أعداء المسلمين في المدينة بأمره إلا هذه الغزوة، فإنها لبعد الشقة والمسافة فيها -لأن تبوك إنما تقع على بعد أكثر من سبعمائة وسبعين كيلو مترًا هذا بالطريق المعبد المعروف الآن.
كذلك فإن العدو فيها ليس عدوًا سهلًا أو قليلًا، وإنما هو عدو كثير؛ حيث اجتمع من الروم، ومن أعوانهم نحو من مائتي ألف، وهم يمثلون قوى منظمة في: سياساتها، وسلطانها، وحربها، وسلمها، ولذلك فإنه صلى الله عليه وسلم أعلن الناس حتى يأخذوا أهبتهم، ويجمعوا لذلك نية صادقة في المسير.
ولقد سميت هذه الغزوة باسم آخر وهو “غزوة العسرة” فاسمها تبوك لمكانها، و”العسرة” لما كان قد أصاب الناس في ذلك الوقت من ضيق الحال؛ حيث إن الوقت كان حارًّا وقد أينعت الثمار، وانتشرت الظلال، والناس يحبون المقام في ذلك الوقت في بلادهم في المدينة، وفي بساتينهم ولكن جاء أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج في هذا الوقت الشديد العصيب، حتى يميز الله الخبيث من الطيب، وحتى يظهر قوي الإيمان من ضعيفه، وحتى يظهر المؤمن من المنافق، ولذلك سميت بهذا الاسم.
كذلك فإنه كان قد أصاب الناس فاقة، وقلة في الزاد، حتى إنهم كانوا يشقون التمر ويقتسمونه، كما أنهم كانوا يمصون النوى ويشربون عليه الماء -كما جاء ذلك في صحيح مسلم- بل إنهم طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأذن لهم في نحر رواحلهم.