فتح مصر وبرقة وطرابلس
أسباب فتح مصر:
إن مصر هي دُرة التاج عند الرومان، مَن ينكر هذا؟! كثرة خيراتها، ووفرة غلاتها والظروف التي بها مصر تجعل مصر درة التاج عند أهل الروم.
كذلك من الأسباب التي دعت لفتح مصر: موقف أهل مصر من الفتح، معروف طبعًا أن أهل مصر كانوا يعانون أشد العذاب من الروم، ومن سلطة الروم، ومن تعذيب الروم لهم، خاصة أن المصريين تبنوا منهجًا دينيًّا يخالف منهج الروم وأباطرة الروم، فسام الروم المصريين سوء العذاب؛ نظرًا لاعتناقهم هذا المذهب، ومن ثم توقع المسلمون أن يكون موقف المصريين إن لم يكن معينًا للقوات الإسلامية الفاتحة، فعلى الأقل سوف يكونون على الحياد، بمعنى: أنهم لن يعينوا الروم كما لم يعينوا المسلمين، وهذا في حد ذاته اعتبره المسلمون نصرًا لهم.
كذلك من بين الأسباب: لجوء القوات التي انهزمت في المعارك السابقة في بلاد الروم إلى مصر، ومن ثم يمكن أن تكون مصر موضع خطر، وقلاقل واضطرابات للفتوحات التي تمت في بلاد الشام وعند الروم، فمن ثم يجب ألا يضيع الوقت، ويجب أن يتمكن المسلمون من فتح مصر للقضاء على هذه الأماكن، التي يمكن أن تكون موضعَ قلاقل واضطرابات للفتوحات الإسلامية التي تمت.
كذلك من بين الأسباب: مركز مصر، وهذه حقيقة لا تنكر، مركز مصر التجاري، ومركز مصر الجغرافي، هذا مركز مهم يربط هذه القارات بعضها ببعض، وتطل على مجموعة من البحار المهمة : البحر الأحمر والبحر المتوسط، ومن ثم فَمَن يتمكن ومن يضع يده على مصر سوف يستطيع أن يدير رحى الأحداث السياسية في تلك المرحلة، ومن ثم شعر المسلمون بأهمية مصر.
يضاف إلى ما سبق أن مصر لها أهمية في إنتاجها الزراعي، كل غلة الروم كانت تعتمد على مصر، وهذه من الحقائق التاريخية، أو سلة الروم الزراعية كانت في مصر.
يضاف إلى كل ما سبق: شخصية عمرو بن العاص، وحبه للفتح والجهاد، والقتال في سبيل الله، ونشر دين الله، وتبليغه للعالمين، وحقيقةً رَحِمَ الله عَمرًا نحن المصريون لولا هذا الفتح -والعياذ بالله- لم يكن لنا حظ في الإسلام -والعياذ بالله- فالحمد والشكر لله أولًا وأخيرًا أن هدانا للإسلام، وأن هدانا لدينه، وأن جعلنا مسلمين، حمد الشاكرين حمدًا يا رب العالمين، ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله، فكل الشكر لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين خرجوا من بلادهم، ودورهم، وأولادهم، وبيوتهم، مجاهدين محاربين، يرفعون رايات الإسلام، ويدعون شعوب الأرض إلى هذا الدين العظيم، فأتوا بهذا الدين إلينا في مصر، ودعونا إليه، فنحمد الله حمد الشاكرين على ما تم وما كان وما يكون، وأي كلام سوى ذلك حقيقةً، أنا أرفضه تمامًا، هذه هي الحقيقة أن هؤلاء خرجوا ودعونا إلى الإسلام، فالحمد لله أن دخلنا دينه، وصرنا من المسلمين، والشكر كل الشكر لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين خرجوا ودعوا العالمين إلى هذا الدين العظيم، قَبِلَ مَن قبل ورفض من رفض.
مسير الحملة:
أولًا في سير الحملة: بدأت الحملة بالعريش وتم حصار العريش، حتى تم التسليم، بعد سقوط العريش توجه عمرو بن العاص نحو الغرب في طريقه إلى الفرمة، وحاصرها وشدد عليها الحصار قرابةً شهرين حتى سقطت في يد المسلمين، وحقيقةً هذه المدينة تُعد مِفتاح مصر من ناحية الشرق.
تقول المصادر: إن عمرو بن العاص لَمَّا تمكن من فتح الفرمة وسقطت في يد المسلمين، عَمل على هدم أسوارها تمامًا، لماذا؟ حتى يضيع الفرصة على الروم في أن يعودوا إليها مرةً أخرى ويتخذوها معسكرًا لهم، ويقوم بالهجوم على المسلمين عن طريقها بعد التحصن فيها والاحتماء بحصونها، فكانت فكرة هدم هذه الحصون من أهم الأفكار؛ حتى لا يتمكن الروم من العودة إليها، بعد ذلك فكر عمرو في الذهاب إلى القنطرة، ولكن عن طريق الصحراء، لماذا؟ لكي تكون الصحراء بجانبه ليلجأ إليها عند الخطر، من ناحية أخرى هو يريد أن يتجنب الأرض الزراعية، فهي مزدحمة بالسكان، ومخافةَ أن يقطع عليه السكان الطريق.
يُضاف إلى ما سبق: أنه أراد أن يتجنب عبور القنوات المائية، وفروع النيل التي تعوق المسيرَ عند التقدم السريع الذي كان يبتغيه؛ ولذلك ضرب طريقه في الصحراء؛ مخترقًا صحراء التل الكبير حتى وصل إلى بِلبيس، ومن الغريب أن الروم لم يتحركوا عندما سمعوا بهذه الأنباء.
قد يكون ذلك نابع من اعتمادهم على قوة حامية الفرمة، وأنها تستطيع الدفاع عن نفسها، وتستطيع أن تصد المسلمين وهجوم المسلمين.
بالنسبة إلى فتح بلبيس، نقول: أنه بعد أن وصل المسلمون إلى بلبيس حاصروها شهرًا تقريبًا، وبعد قتال عنيف انتصر المسلمون، وقتلوا وأسروا عددًا كبيرًا، كان من ضمن الأسرى “أرمنوسة”، وهي بنت المقوقس وهو بطريك الإسكندرية، فأرسلها عمرو إلى أبيها في جميع ما لها من حُلي وجواهر، وأحاطها بما يليق بها، ومن ثم كان لهذه المعاملة الحسنة أثرها في نفس المقوقس، وكان هذا الأمر من الأمور التي ساعدت بعد ذلك أن تنتهي الأمور بسلام في موضوع فتح مصر.
طارد المسلمون المنهزمين من بلبيس حتى وصلوا في مطاردتهم إلى أم دنين، وكانت مدينة تقع على النيل -ومكانها الآن حديقة الأزبكية- وحاصرها المسلمون حتى سقطت بعد معركة حربية قاسية، بينما كان المسلمون في هذا الوضع إذ ببعض المدد يقدم إليهم، شد ساعدهم وقواهم، واستخدم عمرو مواهبه في إخراج جند الروم من الحصن -حصن أم دنين- وكانت معركة قاسية انتهت بانتصار المسلمين.
وكما ذكرت هرب الهاربون وتحصنوا، وفروا إلى حصن بابليون، وتجمعوا هناك في حصن بابليون، ولكن قوات المسلمين أكملت المسير، وعبر عمرو النهر، واتجه نحو الجنوب حتى بلغ ممفيس -حاضرة مصر القديم- وشاهد قصور الملوك الأقدمين، وكذلك شاهد الأهرامات ووصل في تحركه إلى حدود الفيوم، ولما رأى حاكم الفيوم أن العرب عازمون على الاستيلاء على البلاد، شرَعَ في الدفاع عنها، ولكن نستطيع أن نقول: أنه عُقِدَ صلح في هذه المرحلة، واتجه عمرو بن العاص إلى حصن بابليون.
وبهذه الصورة نستطيع أن نقول: إن هذه القوات منضمة على رأسهم عمرو بن العاص، وكان فيهم الزبير بن العوام، وكان على رأس كتيبة مكونة من حوالي أربعة آلاف مقاتل، وفي كتيبتين أخريين عددهم حوالي ثمانية آلاف مقاتل، ونقول بهذه الصورة أصبح جيش المسلمين الذي يحاصر حصن بابليون حوالي ستة عشر ألف مقاتل تقريبًا. وبدأ حصار حصن بابليون.
إن قوات المسلمين ضربت الحصار والتقوا بأبي مريم وأبي مريام وكان من أكبر أساقفة مصر، وتصافوا وتقابلوا فقال عمرو بن العاص: لا تعجلوا حتى نعذرهم، وعرض عمرو عليهما الإسلام، وأفهمهم إن هم آمنوا بالرسول صلى الله عليه وسلم، ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركنا على الواضحة والمحجة البيضاء، فأفهمهم أن الرسول أمرهم بأنهم يتركون الناس، يدعونهم إلى الإسلام ويتركونهم، فمن أجابنا إليه فمثلنا له ما لنا وعليه ما علينا، ومن لم يجبنا عرضنا عليه الجزية وبذلنا له المنعة، نمنعه، ومن يرفض قاتلناه.
قال عمرو لهم: وقد أعلمنا أننا مفتتحوكم -يعني سوف نفتح مصرًا- وأوصانا بكم حفظًا للرحم، وأن لكم إن أجبتمونا بذلك ذمة إلى ذمة، ومما عهد إلينا -ويقصد هنا أميرهم الفاروق عمر بن الخطاب- استوصوا بالقبطيين خيرًا، وقال الفاروق: فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصانا بالقبطيين خيرًا؛ لأن لهم رحمًا وذمة؛ فقالوا -النصارى قالوا: قرابة بعيدة لا يصل مثلها إلا الأنبياء، وهي كانت معروفة شريفة كانت ابنة ملكنا وكانت من أهل منف، وطلبوا من عمرو بن العاص أن يؤمنهم حتى يرجعوا إلى قومهم، فقال لهم عمرو: إني مثلي لا يخدع، ولكني أؤجلكم ثلاثة؛ فقالوا: زدنا؛ فزادهم يومًا، قالوا: زدنا يومًا آخر؛ فزادهم يومًا آخر، ورجعوا إلى المقوقس وعرضوا عليه هذا الكلام، فأرطبون رفض وقال: نقاتلهم ونبيت المسلمين وسوف ننتصر عليهم، وبالفعل حاولوا الخروج والقتال مع المسلمين، ولكنهم غُلبوا وهُزموا، ولم يظفروا بشيء وعادوا مرة أخرى. في اليوم الرابع، ارتقى الزبير سور البلد، ولما أحس بذلك الروم خرجوا إلى عمرو من الباب الآخر وصالحوه، واخترق الزبير البلد حتى خرج من الباب الذي عليه عمرو بن العاص، ولكنهم كانوا قد أمضوا الصلح وكتب لهم عمرو كتاب الأمان.
نص الكتاب هكذا: “هذا ما أعطى عمرو بن العاص أهل مصر من الأمان على أنفسهم وملتهم وأموالهم وكنائسهم وصلبهم، وبرهم وبحرهم، لا يدخل عليهم شيء من ذلك، ولا ينتقص ولا يساكنهم النوبة، وعلى أهل مصر أن يعطوا الجزية إذا اجتمعوا على هذا الصلح، وانتهت زيادة نهرم خمسين ألف ألف، فإن أبى أحد منهم أن يجيب رفع عنهم من الجزاء بقدرها، وذمتنا ممن أبى بريئة، وإن نقص نهرهم من غايته رفع عنهم بقدر ذلك، ومن دخل في صلحهم من الروم والنوبة فله مثل ما لهم وعليه مثل ما عليهم، ومن أبى واختار الذهاب فهو آمن حتى يبلغ مأمنه أو يخرج من سلطاننا، عليهم ما عليهم أثلاثًا في كل ثلث جباية ثلث ما عليهم، على ما في هذا الكتاب عهد الله وذمته وذمة رسوله وذمة الخليفة أمير المؤمنين وذمم المؤمنين”.
وقبل أهل مصر كلهم الصلح واجتمعت الخيول بمصر وعمَّر عمرو بن العاص الفسطاط، ويقال: إنهم كلموا عمرو بن العاص في السبايا، التي أُخذت في المعركة في فترة الانتظار الأربعة أيام التي انتظرهم فيها، أبى عمرو أن يرد عليهم هذه السبايا.
لما بلغ ذلك أمير المؤمنين أمر أن كل سبي أخذ في الخمسة أيام التي أمنوهم فيها أن يرد عليهم، وكذلك يرد عليهم كل سبي ممن لم يقاتل، أما مَن قاتل فلا يرد عليه سباياه.
كذلك أمر الفاروق عمر بن الخطاب أن يخير السبي بين الإسلام والبقاء مع المسلمين أو النصرانية والعودة إلى أهله، فمن اختار الإسلام فلا يردوه إليهم، ومن اختارهم ردوه عليهم، وأخذوا منه الجزية، هكذا كانت شروط أمير المؤمنين الفاروق عمر بن الخطاب.
وفعلًا نفَّذ عمرو هذا الكلام وجمع السبايا وعرضوهم وخيروهم؛ فمنهم من اختار الإسلام وبقي مع المسلمين، ومنهم من عاد إلى دينه وانعقد الصلح بذلك.
تبع ذلك فتح الإسكندرية، وفتحت على يد المقوقس صاحب الإسكندرية، وراسله عمرو بن العاص وقال هكذا: الرأي أن نؤدي الجزية إليهم، وبعث إلى عمرو بن العاص وقال: إني كنت أؤدي الخراج إلى من هو أبغض إلي منكم، يعني فارس والروم، ومن ثم صالح عمرو على أداء الجزية، وبهذه الصورة صارت مصر في يد المسلمين.
إكمالًا لموضوع تسلسل الفتوح في مصر نستطيع أن نتحدث عن فتح برقة وطرابلس؛ حيث رأى عمرو بن العاص أن الضرورة الحربية تقتضي تأمين ما فتحه المسلمون من ناحية الغرب، وهذا يدخل في نطاق أسباب فتح برقة وطرابلس، تأمين الفتوحات التي تمت من ناحية الغرب، خاصة وأن جيوش الروم ما زالت ترابط في الشمال الإفريقي وتنتظر الفرصة للهجوم على المسلمين، وبالفعل حدث بعد ذلك أن عادت جيوش الروم ودخلت الإسكندرية، ومن ثم فكر عمرو بن العاص في أن يتحرك غربًا حتى يستطيع أن يبسط سيطرته على برقة وطرابلس، فسار على رأس جيش حتى وصل برقة، ولكنه لم يلق فيها أي مقاومة تذكر، فصالح أهل برقة على الجزية، ثم واصل الزحف إلى طرابلس وحاصرها قرابة شهر، وقد تسلسل أهل النجدة بين المدينة والبحر وتمكنوا من اقتحام الأبواب، فلاذت الحامية بالفرار إلى السفن.
فدخل عمرو بن العاص المدينة واستقر فيها، هذا الأمر شجعه على التفكير في مواصلة السير غربًا في الشمال الإفريقي، وراسل الخليفة الفاروق عمر بن الخطاب في ذلك، لكن الفاروق رفض التقدم غربًا، وكانت له حجته في ذلك وهي حجة وجيهة، قال: “لئلا تطول خطوط المواصلات العسكرية، وتبتعد المسافات بينهم وبين مركز الخلافة في المدينة المنورة”.
وعلى أية حال استطاع عمرو بهذه التصرفات أن يؤمن الفتوحات، التي تمت في الشام وفلسطين ومصر وبرقة وطرابلس بهذه الصورة إلى حدٍّ كبيرٍ، نستطيع أن نقول: إننا بهذه الصورة نكون قد أنهينا الحديث عن فتح مصر وفتح برقة وطرابلس، وأسباب هذا الفتح، وتسلسل أحداث هذا الفتح.