(فحولة الشعراء) للأصمعي
نتحدث هنا عن عدد من المؤلفات التي كتبها علماء الأدب ونقدته القدماء، ونبدأ بالحديث عن كتاب (فحولة الشعراء):
وهذا الكتاب رسالة صغيرة أملاها الأصمعي على أحد تلاميذه، فهي إذًا من تأليف الأصمعي، وقد حقَّق هذه الرسالة ونشرها الدكتور صلاح الدين المنجد. وقد تضمنت هذه الرسالة بعض آراء الأصمعي العالم، والناقد، واللغوي، والراوية.
أما الأصمعي فقد وُلد سنة ثلاث وعشرين ومائة من الهجرة، واسمه عبد الملك بن قريب بن عبد الملك، وكان مولده بالبصرة، وكانت البصرة في ذلك الوقت الذي نشأ الأصمعي فيه مجمع العلماء والشعراء والأدباء.
ولما شبَّ الأصمعي أخذ القراءات، واللغة، والأدب على أبي عمرو بن العلاء أحد القراء السبعة، كما تتلمذ على طائفة كبيرة من أفاضل العلماء، منهم: الخليل بن أحمد الفراهيدي واضع علم العَرُوض، والإمام جعفر الصادق، وحماد عجرد، وحماد بن سلمة، وحماد بن يزيد وهما محدثان، وخلف الأحمر، وسفيان بن عيينة، كما تتلمذ على عدد كبير غيرهم، ولقي عددًا كبيرًا من الشعراء الفصحاء وأولادهم، وسمع منهم أشعارهم.
وقد عني الأصمعي عناية كبيرة بجمع اللغة من الأعراب وأهل البادية، وكان مشهورًا بذاكرة قوية وحافظة واعية، فاجتمع له من رواية الشعر ما لم يجتمع لغيره، وكان حريصًا على جمع عدد كبير من الكتب يُطالع فيها، ويروى أنه خرج مرة مع الرشيدي إلى الرقة، فحمل معه ثمانية عشر صندوقًا من الكتب.
وقد اشتهر الأصمعي بروايته الواسعة، ومعرفته بالشعر ونقده، وبالتفسير، والحديث، والنحو، وعُرف عنه الذكاء الشديد، وحضور الحجة وخفة الروح، وظرف النادرة وحلاوة المزاح، وكتب الأدب العربي التي ألفت في الأدب القديم، خاصة الأدب في العصر العباسي، لا نكاد نجد كتابًا إلا وفيه ذكر للأصمعي.
ألف الأصمعي عددًا كبيرًا من الكتب، وقد احتفظت لنا المؤلفات المختلفة بأسماء عدد من هذه الكتب، بعضها وصل إلينا وتمَّ طبعه، وهو متداول بين الناس، فمن الكتب التي خلفها الأصمعي: (خلق الإنسان)، (الأجناس)، (الأنواء)، (المقصور والممدود)، (الهمز)، (الميسر والقداح)، (خلق الفرس)، (الخيل)، (الإبل)، (الشاة)، (الأخبية والبيوت)، (الوحوش وصفاتها)، (الاشتقاق)، (النبات والشجر)، (جزيرة العرب)، (معاني الشعر)، (الخراج)، (ما اتفق لفظه واختلف معناه)، (غريب الحديث)، (نوادر الأعراب)، (مياه العرب)، (النسب)، (الأصوات)، (المذكر والمؤنث)، (الأصمعيات) وهي مجموعة من القصائد اختارها الأصمعي لعدد من الشعراء الجاهليين والإسلاميين.
ومن كتبه أيضًا: (الدارات)، (النخل والكَرْم)، (أسماء الخمر)، (ما تكلم به العرب فكثر في أفواه الناس)، (القلب والإبدال)، (الاشتقاق)، (النوادر)، (أصول الكلام)، (الأمثال)، (الأضداد) وكتابنا هذا الذي نتحدث عنه (فحولة الشعراء).
ومن هذا الاستعراض لمؤلفات الأصمعي يظهر لنا تنوع اهتماماته، وتبحّره في الثقافة، وأنه كتب في فروع مختلفة من فروع العلم، ورسالة (فحولة الشعراء) رواها أبو حاتم سهل بن محمد بن عثمان السجزي، وقد كان أبو حاتم هذا تلميذًا للأصمعي، ورواها عن أبي حاتم تلميذه ابن دريد اللغوي.
ويظهر من عنوان الرسالة فحولة الشعراء، وفيها أسئلة من أبي حاتم لأستاذه الأصمعي عن عدد كبير من الشعراء، يسأله: هل هم من الفحول؟ كما سأله عن معنى الفحل، وأجاب الأصمعي عن معنى الفحل فقال: “من كان له مزية على غيره، كمزية الفحل عن الحِقَاق”، والحقاق جمع: حِقّ، وهو من الإبل الداخل في السنة الرابعة، فالفحل إذًا هو الذكر القوي من الإبل، وقد انتقل هذا المعنى من عالم الحيوان إلى عالم الإنسان في مجال الشعر؛ ليتميز الشاعر الكبير.
والوصف في الفحولة ينصرف إلى الشعر، فالشعر هو حيثية الحكم بالفحولة، ويُنكر محقق هذه الرسالة ومقدمها أن صاحب اللسان (لسان العرب) ذكر في معنى الفحولة قوله: فحول الشعراء، وهم الذين غلبوا بالهجاء من هجاهم مثل: جرير، والفرزدق، وأشباههما، وكذلك كل من عارض شاعرًا فغلب عليه. لكن هذا التعريف -كما يقول- يبدو ناقصًا؛ لأننا نجد الأصمعي في رسالته يصف بعض الشعراء بالفحولة لغير ما ذكره اللسان، فقد قال: إن طفيلًا فحل، لأنه غاية في النعت، أي: الوصف، وإن كعب بن سعد الغنوي ليس من الفحول إلا في المرثية، فإنه ليس في الدنيا مثلها.
وهذا يُرينا أن هناك خلافًا بين ما قاله الأصمعي عن الفحولة، وما ورد في تعريف (لسان العرب)؛ لأن الأصمعي لم ينظر إلى الهجاء فقط، ولم ينظر إلى غلبة الشاعر لغيره فقط، عندما يحكم للشاعر بالفحولة؛ ولذلك سنجد أن أبا حاتم يبدأ هذه الرسالة بقوله: “سمعت الأصمعي عبد الملك بن قريب غير مرة، يفضل النابغة الذبياني على سائر شعراء الجاهلية، وسألته آخر ما سألته قبيل موته: من أول الفحول؟ قال: النابغة الذبياني، ثم قال: ما أرى في الدنيا لأحد مثل قول امرئ القيس”، وذكر بيتًا له.
قال أبو حاتم: “فلما رآني أكتب كلامه، فكّر، ثم قال: بل أولهم كلهم في الجودة امرؤ القيس؛ له الحظوة والسبق، وكلهم أخذوا من قوله واتبعوا مذهبه، وكأنه جعل النابغة الذبياني من الفحول”.
قال أبو حاتم: “قلت: ما معنى الفحل؟ قال: يريد أن له مزية على غيره كمزية الفحل على الحقاق، قال: وبيت جرير يدلك على هذا:
وابنُ اللبون إذا ما لُزَّ في قرن | * | لم يستطع صولة البُزْلِ القناعيسِ |
قال أبو حاتم: وسأله رجل؛ أيُّ الناس طرًّا أشعر؟ قال: النابغة، قال: تقدم عليه أحدًا؟ قال: لا، ولا أدركت العلماء بالشعر يُفضلون عليه أحدًا، قلت: فزهير بن أبي سلمى قد اختلف فيه، وفيهما، ثم قال: لا، قال أبو عمرو: وسأله رجل وأنا أسمع؛ النابغة أشعر أم زهير؟ فقال: ما يصلح زهير أن يكون أجيرًا للنابغة”.
وفي هذا الذي تقدم نجد بعض الغموض في تفضيل امرئ القيس أو النابغة، فمرة وجدنا امرأ القيس يتقدم، ومرة وجدنا النابغة يتقدم.
وينتقل الكلام إلى شاعر آخر؛ حيث يروي أبو حاتم فيقول: “حدثنا الأصمعي قال: حدثنا شيخ من أهل نجد قال: كان طفيل الغنوي يُسمى في الجاهلية محبرًا لحسن شعره، قال -أي: الأصمعي: وطفيل عندي بعض شعره أشعر من امرئ القيس”، ثم قال: “وقد أخذ طفيل من امرئ القيس شيئًا قال: ويقال: إن كثيرًا من شعر امرئ القيس لصعاليك كانوا معه”.
ويثبت الأصمعي في موازنة بين طفيل وغيره في باب النعت أو الوصف، أو صفة الخيل خاصة، فيروي عنه تلميذه أبو حاتم قال: “ولم يكن النابغة وأوس وزهير يحسنون صفة الخيل، ولكن طفيلًا -طفيلًا الغنوي- غاية في النعت، وهو فحل”، وتمضي الرسالة ليروي أبو حاتم أنه سأل أستاذه عن عدد من الشعراء؛ هل يتصفون بالفحولة في شعرهم؟ فيسأله عن الأعشى -أعشى بني قيس بن ثعلبة- “قال: ليس بفحل، قلت: فعلقمة بن عبدة؟ قال: فحل، قلت: فالحرث -أو الحارث كما نجد هذا الاسم في بعض المصادر- ابن حلزة؟ قال: فحل، قلت: فعمرو بن كلثوم؟ قال: ليس بفحل، قلت: فالمسيب بن علس؟ قال: فحل، قلت: فعدي بن زيد، أفحل هو؟ قال: ليس بفحل، ولا أنثى.
قال أبو حاتم: وإنما سألته؛ لأني سمعت ابن مناذر لا يقدم عليه أحدًا، قلت: فحسان بن ثابت؟ قال: فحل، قلت: فقيس بن الحطيم؟ قال: فحل، قلت: فالمرقشان؟ قال: فحلان، قلت: فابن قميئة؟ قال: فحل”.
وفي الرسالة تبدو بعض المقاييس التي اعتمد عليها الأصمعي في تفضيل بعض الشعراء على بعضهم الآخر، والحكم لبعضهم بالفحولة، من هذه المقاييس جودة الشعر وكثرته، ويتبيَّن هذا من قوله عن الشاعر ثعلبة بن صعير المازني؛ إذ يقول: لو قال مثل قصيدته خمسًا؛ كان فحلًا.
ونجد الأصمعي أيضًا ينظر إلى الزمن، وكأنه يفضل القدماء على المحدَثين؛ لأنه ورد في الرسالة: “قلت: فجرير، والفرزدق، والأخطل؟ قال: هؤلاء لو كانوا في الجاهلية كان لهم شأن، ولا أقول فيهم شيئًا لأنهم إسلاميون، قال أبو حاتم: وكنت أسمعه يفضل جريرًا على الفرزدق كثيرًا”.
وفي موضع آخر من الرسالة يتحدث الأصمعي عن ثقافة الشاعر، في مثل قوله: “وولد العجاج في الجاهلية، وكان حميد الأرقط يشذب الرجز وينقحه وينقيه، قال: ورأيته يستزيد بعض رجز أبي النجم ويضعف بعضًا؛ لأن له رديئًا كثيرًا، قال مرة: لا يعجبني شاعر اسمه الفضل بن قدامة -يعني: أبا النجم- قال أبو حاتم: وسألت الأصمعي عن القحيف العامري الذي قال في النساء، قال: ليس بفصيح ولا حجة، وسألته عن زياد الأعجم فقال: حجة لم يتعلق عليه بلحن، وكنيته أبو أمامة، قلت: فأخبرني عن عبد بني الحسحاس قال: هو فصيح، وهو زنجي أسود، قال: وأبو دلامة عبد رأيته مولّد حبشي، قلت: أفصيحًا كان؟ قال: هو صالح الفصاحة، قال: وأبو عطاء السندي عبد أخرب مشقوق الأذن، قلت: أوكان في الأعراب؟ قال: لا ولكنه فصيح، قال عبد العزيز بن مروان لأيمن بن خريم الأسدي: كيف ترى مولاي -يعني: نصيبًا-؟ قال: هو أشعر أهل جلدته وكان أسود، قال: وعمر بن أبي ربيعة مولد وهو حجة، سمعت أبا عمرو بن العلاء يحتج في النحو بشعره ويقول: هو حجة، وفضالة بن شريك الأسدي، وعبد الله بن الزبير الأسدي، وابن رقيات هؤلاء مولدون، وشعرهم حجة”.
وعن تنقل الشعر بين القبائل، قال الأصمعي: “سئل شيخ عالم عن الشعراء فقال: كان الشعر في الجاهلية في ربيعة، وصار في قيس، ثم جاء الإسلام فصار في تميم، قلت للأصمعي: لِمَ لَمْ يذكر اليمن؟ فقال: إنما أراد بني نزار، فأما هؤلاء كلهم فإنما تعلموا من رأس الشعراء امرئ القيس، وإنما كان الشعر في اليمن، وقال: أفي الدنيا مثل فرسان قيس، وشعرائهم الفرسان؟ فذكر عدة، منهم: عنترة، وخفاف بن ندبة، وعباس بن مرداس، ودريد بن الصمة”.
وورد في (الرسالة) أيضًا تفضيل بعض الشعراء في بعض أغراض الشعر وأبوابه؛ قال الأصمعي: أنعت الناس لمركوب من الإبل عيينة بن مجداس، ويذكر أن أنعت الناس لمحلوب في القصيد الراعي، وأنعتهم لمحلوب في الرجز ابن لجأ التيمي، ويرد سؤال عن أشعر قبيلة فقيل: النجل العيون في ظلال الفسيل، يعني: الأنصار، قال: ويقال: الزرق العيون في أصول العضاة، يعني: بني قيس بن ثعلبة، وذكر منهم المرقش والأعشى، والمسيب بن علس.
ويرد في موضع آخر: “ليس في الدنيا قبيلة على كثرتها أقل شعرًا من بني شيبان وكلب، قال: وليس لكلب شاعر في الجاهلية قديم، قال: قيل لحسان: من أشعر الناس؟ قال: أشعرهم رجلًا أم قبيلة؟ قيل: بل قبيلة، قال: هذيل، قال الأصمعي: فيهم أربعون شاعرًا مفلقًا، وكلهم يعدو على رجله ليس فيهم فارس، قال أبو حاتم: سألت الأصمعي فمن أشعرهم رجلًا واحدًا؟ قال: أما حسان فلم يقل في الواحد شيئًا، وأنا أقول: أشعرهم واحدًا النابغة الذبياني وهو ابن خمسين سنة، وإنما قال الشعر قليلًا، ويأتي سؤال عن الفرزدق قلت للأصمعي: كيف شعر الفرزدق؟ قال: تسعة أعشار شعره سرقة، قال: وأما جرير فله ثلاثون قصيدة، ما علمته سرق شيئًا قط إلا نصف بيت”.
وهكذا تتضمن هذه الرسالة عددًا من الأسئلة والإجابات، وعددًا من الإشارات، وكلها تدور حول تفضيل بعض الشعراء على بعض بهذه المقاييس، التي كان يعتمدها الأصمعي، وهي ترجع في الغالب إلى جودة الشعر وكثرته.