فرار اليهود إلى منطقة الكتيبة، وحصار أول حصونها، ومرضه صلى الله عليه وسلم وإمارة علي
أ. فرار اليهود منطقة الكتيبة:
فرت فلول اليهود أمام جموع المسلمين إلى منطقة الكتيبة وحصونها، وكانت هذه المنطقة كذلك لها منعتها، وكان أعظم حصونها وأمنعها حصن “القموص”، الذي طال حصار المسلمين له.
ب. مرض النبي صلى الله عليه وسلم وإمارة أبي بكر ثم عمر:
وخلال هذه الفترة أصابه صلى الله عليه وسلم وجع في رأسه؛ لذا فإنه صلى الله عليه وسلم أعطى الراية في اليوم أبا بكر، وحاصر بالمسلمين اليهودَ في هذا الحصن، ولكن لم يكن فتحٌ لهم، ثم في اليوم الثاني أعطى الراية عمرَ، وكذلك لم يكن فتحٌ؛ وذلك لشدة بسالة هؤلاء اليهود وامتناعهم بهذا الحصن.
ج. إمارة علي رضي الله عنه وفتح الحصن:
ثم إنه صلى الله عليه وسلم في يوم عمر لما عاد قال: ((لأعطين الراية غدًا رجلًا يفتح الله عليه، ليس بفرّار، يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، يأخذها عنوة)) وفي لفظ: ((يفتح الله على يديه)).
فبات الناس ليلتهم، وقد ذهبت ظنونهم كل مذهب، فلما أصبح صلى الله عليه وسلم وصلى المسلمون الصبح دعا صلى الله عليه وسلم باللواء، وقام فوعظ الناس، ثم قال: ((أين علي؟)) وهنا تحدد الرجل، فجيء به معصوبة عينُه من شكوى رمد أصابه، فأدناه النبي صلى الله عليه وسلم لما علم ما به ووضع رأسه في حجره، ثم بصق في يده صلى الله عليه وسلم ودلك بها عينا علي؛ فبرأ كأن لم يكن به وجع قط، وما رمدت عيناه بعد، ثم أعطاه الرسول صلى الله عليه وسلم الراية، وكان أمره صلى الله عليه وسلم لعلي: ((انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى وحق رسوله صلى الله عليه وسلم فوالله لئن يهدي الله بك رجلًا واحدًا خير لك من حمر النعم)). فخرج عليٌّ بالراية يهرول حتى ركزها تحت الحصن، وهنا نرى الحكمة من أمره صلى الله عليه وسلم عليًّا بدعوة اليهود إلى الإسلام أولًا؛ لأنه قد اجتمع في هذا الحصن كثير منهم، ومنهم من عانى قتال المسلمين، كذلك فإن مجيء الفارِّين إلى هؤلاء الذين لم يقاتلوا بعدُ مما كان له من غير شك أثر في نفوسهم.
وظهرت في حصار هذا الحصن -حصن القموص- بطولات فذَّة من المسلمين ومن اليهود، وبرز مقاتلوا اليهود واحدًا تلو الآخر وكانت ممارستهم للقتال تدل على براعتهم فيه، وكان خروجهم يدل على شجاعتهم، وكان أول من برز منهم: “الحارث” أخو مرحب اليهودي سيد هذا الحصن، وكلاهما من شجعان اليهود، فبرز علي بن أبي طالب للحارث فقتله، وهنا رجع أصحاب الحارث إلى الحصن.
ثم برز من بعد الحارث رجل اسمه “عامر” كان جسيمًا فارع الطول، آتاه الله بسطة في الجسم، فخرج عليٌّ كذلك له فضربه ضربات لم تصنع فيه شيئًا، حتى تمكن من قتله آخر الأمر على الرغم من هذه الخلقة التي كان عليها ذلك الرجل، والتي أثارت تعجب المسلمين من أمر الله في خلقه.
ثم خرج بعد ذلك “ياسر” يطلب المبارزة فرغب الزبير بن العوام أن يخرج له بدل علي واستعان بالله عليه ودعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعينه على “ياسر” فتمكن الزبير من قتله، وبعد هذا خرج “مرحب” زعيم هذا الحصن كله وكان من شجعان اليهود، فخرج له عامر بن الأكوع عم سلمة رضي الله عنه لكنه رجع سيف عامر إليه فأصابه إصابة بليغة قتلته؛ ولذلك قال الناس: قتل نفسه فليس بشهيد. لكنه صلى الله عليه وسلم قال: ((إنه جاهد مجاهد)) وأخبر صلى الله عليه وسلم أنه شهيد لما جاء سلمة يبكي لرسول الله صلى الله عليه وسلم من قول الناس في عمه.
ثم خرج بعد عامر محمد بن مسلمة؛ وأراد ذلك لأن أخاه محمود بن مسلمة كان قد قتله مرحب هذا كما يقولون بعد أن ألقى عليه رحى من فوق الحصن؛ ولذلك طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن ينال ثأره من قاتل أخيه، وقد أمكن الله عز وجل من مرحب فضربه محمد بن مسلمة ضربات قطعت ساقيه وتركه ينزف، ثم جاء علي بن أبي طالب فأجهز على مرحب؛ ولذلك كان ذلك الأمر لاشتراك الرجلين فيه، ولأن كلًا منهما ضربه ضربات قاتلة اختلفت الروايات فيمن قتل مرحب، فبعضها يقول: إنه محمد بن مسلمة. وبعضها يقول: إنه علي. ولما اختلف الرجلان في أمر قتله حكم النبي صلى الله عليه وسلم لمحمد بن مسلمة؛ لأن ضرباته كانت قاتلة، وإنما عليًّا جاءه بعد أن أثخنته جراحُه.