فن المقال
نتحدث -بمشيئة الله وتوفيقه- عن مقاييس نقد النثر:
المقال فن أدبي حديث، الصورة التراثية له التي يشبهها المقال هي الرسائل التي وردت في كتب الأدب القديم، لكن المقال ببنائه وأنماطه المتعددة أخذ صورته الجديدة في العصر الحديث، وأسهمت الصحافة في انتشاره وتطويره، وجذب كثير من الأدباء إليه.
والمقال كأي فن من فنون الأدب له مضمون وشكل، المضمون هو الأفكار والمشاعر التي يريد كاتب المقال التعبير عنها، والشكل هو اللغة التي يكتب بها.
ويتسم المقال بأنه أوسع الفنون الأدبية للفكر، فالمقال يختلف عن القصيدة.
الجانب الفكري هو الذي يغلب على المقال، ولا بد مع ذلك من وجود قدر من الإحساس أو الشعور؛ لأن العمل الذي يخلو من الإحساس والشعور والعاطفة يخرج من دائرة الأدب، وهذا عكس الشعر، الشعر ميدان للعواطف والأحاسيس والمشاعر في المقام الأول، ولا تخلو القصيدة أيضًا من الفكر، لكن الفكر في الشعر يكون قليلًا، والعاطفة تكون في الشعر أكثر.
ويتوجه النقد في تعامله مع المقال إلى المضمون الذي يحتويه، فيبحث في الأفكار، ويبحث في إحساس الكاتب أو عاطفته نحو الفكرة التي يريد توصيلها من خلال مقاله، وينظر كذلك في لغة هذا المقال وأسلوبه، والذي قلناه عن الفكر في المقال أو غلبة الفكر على المقال هو الغالب والأكثر؛ لأن الأنماط المختلفة للمقال، وهي مثلًا المقال الاجتماعي، والمقال الفلسفي، والمقال الديني، حتى المقال السياسي أحيانًا، هذه الأنماط المختلفة من المقال تهتم بجانب الفكر، ويحاول الكاتب من خلالها إقناع القارئ بفكرة ما، وكما قلت لا يخلو هذا المقال مع غلبة الفكر عليه من إحساس الكاتب وشعوره، كما قلت هذا هو الغالب في فن المقال، لكن يمكن أن نجد مقالات تستثنى من هذا الذي قلناه، أي: يغلب الجانب العاطفي على الجانب الفكري فيها، وكثيرٌ من النقاد يسمي هذا المقال الذي تغلب العاطفة فيه على الفكر يسميه خاطرة.
ومن هؤلاء النقاد سيد قطب -رحمه الله- في كتابه (النقد الأدبي أصوله ومناهجه)، فعندما تحدث عن الخاطرة قال: “الخاطرة في النثر تقابل القصيدة الغنائية في الشعر، وتؤدي وظيفتها في عرض التجارب الشعورية التي تناسبها”.
ويفصل الأستاذ سيد قطب الكلام عن الخاطرة، وأنها تشبه القصيدة فيقول: “وحقيقة، أنه لا بد من قسط من الوعي في عملية الخلق الفني، ولكن هذا القسط يزيد وينقص حسب نوع التجربة وقوتها، وحسب طبيعة الشعر وموهبته، إلا أن السمة البارزة في القصيدة هي انسياب الشاعر مع خواطره وأحاسيسه حتى تصل إلى التركيز الواعي في الأداء اللفظي، وقلما توجد الفكرة الواعية سلفًا قبل أن تجول في نفسه خواطر مبهمة وأحاسيس منسابة إلا في شعر الفكرة”. ونصيب هذا اللون من الشاعرية -كما قلنا- ضئيل.
كل هذه السمات -أي: سمات القصيدة- يمكن أن تطبق على الخاطرة في عالم النثر مع استثناء واحد هو الوزن والقافية، وكثيرًا ما يوجد لون من الإيقاع فيها يقابل الوزن، ونوع من التوافق في المقاطع يقابل القافية؛ لأن طبيعة التجارب التي تعالجها -يعني: الخاطرة- لا تستغني عن قسط قوي من الإيقاع والتنغيم، وهو يسمي هذا النوع من الكتابة خاطرة. ويسمي ما يغلب الفكر عليه مقالًا؛ فيقول: “أما المقالة فهي فكرة قبل كل شيء وموضوع، فكرة واعية، وموضوع معين يحتوي قضية يراد بحثها، قضية تجمع عناصرها وترتب بحيث تؤدي إلى نتيجة معينة وغاية مرسومة من أول الأمر، وليس الانفعال الوجداني هو غايتها، ولكنه الإقناع الفكري.
وضرب أمثلة رآها صالحة لتصوير هذا الفرق بين الخاطرة والمقال، أورد ما كتبه ميخائيل نعيمة بعنوان “الصخور”، وهو مثال للخاطرة؛ إذ يقول: “بيني وبين الصخور مودة ما أستطيع تفسيرها، ولا تحديد الزمان الذي نشأت فيه، ولكني أحسها عميقة وثيقة بعيدة الغور والقرار، فلعلها تعود إلى يوم كنت طينة في يد الله، وكأن النسمة التي جعلت من الطين إنسانًا ما كانت لتزيد تلك المودة غير تأصل وجمال ونقاوة حتى إنها لتبلغ بي في بعض الأحايين درجة الهيام، فإذا ما انحجبت عن الصخور أو انحجبت عني، ثم أتيح لي أن أعثر على واحد منها أينما كان، ومهما يكن شكله أو حجمه أو لونه أحسست جذلًا في دمي وبهجة في عيني، ودوافع في مفاصلي تدفعني إليه، فإذا تمكنت من لمسه لمسته برفق ولهفة ومحبة، وإلا اكتفيت بما ترشفه عيني من رحيق أنسه وهدوئه ورزانته ومودته، ولا شك عندي في أن القدرة التي لا تمسك عن كل ذي حاجة حاجته إذا كان في قضائها خير للحاجة والمحتاج، كانت رفيقة بي وسخية علي إلى أبعد حدود الرفق والسخاء؛ فقد باركتني بثروة لا نفاد لها من الصخور التي يندر أن يضارعها مضارع حتى في هذه الجبال المبكي عليها من أصدقائها والمهجورة من أبنائها؛ لوفرة غناها بالصخور. ففي جبهة صينين -وهو جبل في الجهة التي ولد فيها الكاتب- وحده لي معين لا ينضب من الفتنة الخرساء المنهلة بغير انقطاع من محاجر صخوره ونحورها والمترقرقة على مناكبه بكل ألوان الشموس، والأقمار، والأمسية، والأسحار، ووهج الهجيرة، وظلال السحاب، وأنداء الضباب، وأنفاس الفصول، وأنغام الدهور … إلى آخره”.
ومن هذا القبيل أيضًا ما كتبه جبران خليل جبران تحت عنوان “الحروف النارية”؛ حيث يقول: “أهكذا تمر الليالي، أهكذا تندثر تحت أقدام الدهر، أهكذا تطوينا الأجيال، ولا تحفظ لنا سوى اسم تخطه على صحفها بماء بدلًا من المداد؟ أينطفئ هذا النور، وتزول هذه المحبة، وتضمحل هذه الأماني، أيهدم الموت كل ما نبنيه، ويزري الهواء كل ما نقوله، ويخفي الظل كل ما نفعله، أهذه هي الحياة؟ هل هي ماضٍ قد زال واختفت آثاره، وحاضر يركد لاحقًا بالماضي، ومستقبل لا معنى له إلا إذا ما مر وصار حاضرًا أو ماضيًا؟ أهكذا يكون الإنسان مثل زبد البحر، يطفو دقيقة على وجه الماء، ثم تمر نسيمات الهواء فتطفئه، ويصبح كأن لم يكن، لا لعمري فحقيقة الحياة حياة، حياة لم يكن ابتداؤها في الرحم، ولن يكون منتهاها في اللحد، وما هذه السنوات إلا لحظة من حياة أزلية أبدية. هذا العمر الدنيوي، مع كل ما فيه هو حلم بجانب اليقظة التي ندعوها الموت المخيف، حلم ولكن كل ما رأيناه وفعلناه فيه يبقى ببقاء الله، فالأسير يحمل كل ابتسامة، وكل تنهدة تصعد من قلوبنا، ويحفظ صدى كل قبلة مصدرها المحبة، والملائكة تحصي كل دمعة يقطرها الحزن من مآقينا، وتعيد على مسمع الأرواح السابحة في فضاء اللانهاية كل أنشودة ابتدعها الفرح من شواعرنا”.
إذًا هذا نمط من الكتابة يغلب عليه تصوير المشاعر، وهو شبيه بالشعر من هذه الجهة، ويبدو أن هذا هو النمط الذي يحاول بعض المعاصرين في هذه الأيام أن يطوره إلى ما يسمونه قصيدة النثر، ونثر أدبي يصور فيه الكاتب مشاعره وعواطفه، وقدر الفكر فيه أقل من الوجدان، وهو قريب من الشعر لذلك. ولا بد أن ننبه إلى أن مسألة الوجدان ومسألة الفكر في الشعر وفي المقال هي أمور نسبية تختلف من نمط إلى نمط، ومن أديب إلى أديب. فمثلًا العقاد في شعره كثير من الفكر، ولذلك عيب عليه؛ لأن هذا الفكر الكثير في الشعر يجعله شبيهًا بالنثر، ونجد كثيرًا من الكتاب الذين كتبوا المقال يحاولون المواءمة بين الفكر والشعر في مقالاتهم، نجد هذا عند الزيات، ونجده عند المنفلوطي، ولكننا بطبيعة الحال نجد الفكر غالبًا على أكثر مقالات العقاد؛ لأن هذه طبيعة الرجل.
والناقد عندما يتعرض لنقد المقال -كما أسلفت- يتعرض لنقد المضمون، ومقاييس المعاني والأفكار معروفة تتمثل في الجدة والابتكار، أو التقليد والتبعية، والوضوح أو الغموض، والعمق أو السطحية. هذه مقاييس نقد الأفكار، والعاطفة في الخاطرة مثلًا تقاس بالصدق أو الكذب، وبالثبات أو عدم الثبات، فإذا وجدنا المقال يحتوي على أفكار صحيحة وعميقة وواضحة في الوقت ذاته كان هذا نجاحًا للمضمون. فإذا ما استطاع الكاتب أن يستخدم لغة مناسبة لهذا المضمون، وهذه اللغة سلمت من العيوب التي يمكن أن تؤخذ على اللغة من حيث الفصاحة، وسلامة التركيب، والقدرة على الإيحاء. هذه مزايا طبعًا: الفصاحة، وسلاسة التركيب، والغنى التصويري، والإيحاء الشديد، كل هذه مزايا في الأسلوب تحسب لكاتب المقال.
ولنقرب الصورة بمثال نذكر مقالًا لمصطفى لطفي المنفلوطي -رحمه الله- هذا المقال، عنوانه “الشعرة البيضاء”، دراسة هذا المقال من جهة المضمون، ومن جهة الشكل تبين لنا كيفية نقد المقال والمقاييس التي ينقد بها، وهذا المقال فيه عاطفة، وفيه فكر؛ لأنه يعالج موقف الإنسان عندما يكتشف أن مرحلة الشباب تدبر عنه، ومرحلة المشيب تقبل عليه، الشعرة البيضاء التي ظهرت في رأس المنفلوطي جعلته يفكر في أمر الحياة وأمر الموت، وهذا جانب فكري بلا شك، لكن إحساسه بهذا الشباب الذي يولي وهذا المشيب الذي يأتي وينذره بالموت يمثل جانبًا عاطفيًّا في هذا المقال. أقرأ عليكم بعض الفقرات من هذا المقال ثم ننظر في التعامل النقدي معه.
قال المنفلوطي: “مررت صباح اليوم أمام المرآة فلمحت في رأسي شعرة بيضاء تلمع في تلك اللمة السوداء لمعان شرارة البرق في الليلة الظلماء، رأيت الشعرة البيضاء في مفرقي؛ فارتعت لمرآها كأنما خيل إلي أنها سيف جرده القضاء على رأسي، أو علم أبيض يحمله رسول جاء من عالم الغيب؛ ينذرني باقتراب الأجل، أو يأس قاتل عرض دون الأمل، أو جذوة نار علقت بأهداب حياتي علوقها بالحطب الجزل، ولا بد لها مهما ترفقت في مشيتها، واتئدت في مسيرها من أن تبلغ مداها، أو خيط من خيوط الكفن الذي تنسجه يد الدهر، وتعده لباسًا لجثتي عندما تجردها من لباسها يد الغاسل.
أيتها الشعرة البيضاء، ما رأيت بياضًا أشبه بالسواد من بياضك، ولا نورًا أقرب إلى الظلمة من نورك، لقد أبغضت من أجلك كل بياض حتى بياض القمر، وكل نور حتى نور البصر، وأحببت فيك كل سواد حتى سواد الغربان، وكل ظلام حتى ظلام الوجدان.
أيتها الشعرة البيضاء، ليت شعري من أية نافذة خلصتِ إلى رأسي، وفي أي مسلك من مسالك الدهر مشيت؟ إلى فودي. كيف طاب لك المقام في هذه الأرض الموحشة التي لا تجدين فيها أنيسًا يسامرك، ولا جليسًا يساهرك؟ وكيف لم يرع قلبك لمنظر هذا الليل الفاحم، ولم يعش بصرك في هذا الظلام القاتم؟
أيتها الشعرة البيضاء، لقد عييت بأمرك، وبعلت بحملك، وأصبحت لا أعرف وجه الحيلة في البعد عنك، والفرار من وجهك”.
وهكذا يستمر المنفلوطي في التعبير عن ضيقه بهذه الشعرة البيضاء، ويذمها؛ لأنه يرى فيها نذير الموت، فيقول: “أيتها الشعرة البيضاء، وما أنت؟ وما شأنك، وما وفودك إلي، وما مكانك مني، وما مقامك عندي؟ إن كنت ضيفًا فأين استئذان الضيف، وتلطفه، وتجمله، وتودده. وإن كنت نذيرًا، فأنا أعلم من الموت وشأنه ما لا أحتاج معه إلى نذير. فلم يبقَ إلا أن تكوني أوقح الخلائق وجهًا، وأصلبها خدًّا، وأنك قد نزلت من السماجة والفضول منزلة لا أرى لك فيها شبيهًا إلا تلك الحية التي تلج كل جحر من أجحار الهوام والحشرات تعده جحرها وتحسبه بيتها”.
هذا غاية الذم والضيق، فكر متسق مع العاطفة إلى هنا، لكننا بعد ذلك وجدنا الكاتب يقول: “أيتها الشعرة البيضاء، هل لك أن تتجاوزي عما أسأت به إليك في إطالة عتبك، واستثقال ظلك؟ فقد رجعت إلى نفسي فعلمت أنك أكرم الخلائق عندي وأعظمها شأنًا في عيني، هنيئًا لك رأسي مضيفًا ومرتعًا، وهنيئًا لك فؤادي مرادًا ومسرحًا؛ فأنت رسول الموت الذي ما زلت أطلبه منذ عرفته، فلا أجد له سبيلًا، ولا أعرف له رسولًا”.
ويمضي الكاتب في ترحيبه بهذه الشعرة، وثنائه عليها، وتعبيره عن رضائه بها، فنجد أن الفكر تغير، والعاطفة تغيرت؛ بدأ الرجل المقال معاتبًا لهذه الشعرة البيضاء، وذامًّا لها، وضائقًا بها؛ لأنها تنذره بالموت، وتقربه منه، ثم من غير تمهيد، ومن غير حسن تخلص كما يتخلص الشعراء عندما ينتقلون من معنى إلى معنى، أو من غرض إلى غرض، وهكذا يفاجئنا المنفلوطي بالتغير، تغير في الفكر وفي العاطفة، فيرحب بالشعرة البيضاء؛ لأنها تقربه من الموت، وهو من أجل ذلك سعيد بها؛ لأن الحياة ثقلت عليه بمشكلاتها وشرورها وآثامها، وما دامت الشعرة البيضاء تقربه أو تبشره بالموت فإنه تستحق منه الترحيب والثناء، إلى أن يقول لها في نهاية المقال: “أيتها الشعرة البيضاء، مرحبًا بك اليوم، ومرحبًا بأخواتك غدًا، ومرحبًا بهذا القضاء المختبئ وراءك، والكامن في أطوائك، ومرحبًا بتلك الغرفة التي أخلو بها بربي، وآنس بنفسي من حيث لا أسمع حتى دوي المدافع، ولا أرى حتى غبار الوقائع”.
عندما تعاملنا مع هذا النص بالنقد؛ تحدثنا عن الفكرة التي بني عليها هذا المقال، وهي موقف الكاتب من المشيب التي مثلت بوادره تلك الشعرة البيضاء التي رآها في مفرقه عندما مر على المرأة صباح يوم، وهذه الفكرة جاءت في ثلاثة مواقف؛ فزع الكاتب عندما رأى الشيب يغزو رأسه، ثم توجهه إلى هذه الشعرة يسائلها ويتعجب من شأنها، ويعرب عن ضيقه بها، ثم في رضا الكاتب بالمشيب، وترحيبه برسوله المتمثل في هذه الشعرة، والأفكار التي حواها النص قليلة، وهي على قلتها غير عميقة، وهي على قلتها وقربها متناقضة.
إذًا أخذ على الفكرة أو الفكر في هذا المقال أنه قليل وأنه متناقض، العاطفة تتمثل في فزع المرء من الشيب، وهذا موقف إنساني دافعه حب الحياة، وهذا هو الطبيعي في الإنسان. والعاطفة -عاطفة الحزن هنا- تكون صادقة؛ لأن الإنسان بطبيعته يحزن على ذهاب شبابه، ودخوله في مرحلة الضعف والمشيب، وعاطفة الإشفاق والرهبة أيضًا توجسًا لما يأتي به المشيب من ضعف وذبول؛ لأن المشيب هو خريف الحياة. فالعواطف المناسبة لهذا الموقف هي: عاطفة الحزن، والإشفاق، والرهبة. وقد عبر الكاتب عن هذه العاطفة في أول المقال، وكان صادقًا في ذلك كل الصدق، لكنه ما لبث أن ناقض هذه العاطفة، كما ناقض فكره؛ لأنه عندما عبر عن سروره بالمشيب، وترحيبه بالشعرة البيضاء افتعل عاطفة تناقض العاطفة الأولى، ولا بد أنه في هذه العاطفة المفتعلة لم يكن صادقًا، والدليل على ذلك أنه علل رضاه بالشيب بالعلة نفسها التي كره الشيب من أجلها، وهذه العلة هي أن الشيب رسول الموت ونذيره.
فإذًا نحن تعاملنا مع مضمون المقال، ورأينا كيف نتعامل مع الفكرة بمقاييسها، والعاطفة أيضًا بمقاييسها.
الشكل أو الصياغة الفنية في هذا المقال تتمثل في الألفاظ، والأساليب، والصور التخيلية البيانية، وما ورد في المقال من محسنات بديعية، وما فيه من إيقاع ونغم.
والمقال من هذه الناحية -ناحية الشكل- متميز؛ لأن ألفاظه تتسم بالسهولة والإيحاء، والتراكيب فيه تراكيب صحيحة، وأساليبه فصيحة لا التواء فيها، ولا تعقيد، ولا اعتلال، وقد بني النص على فقرات متناسقة تكونها جمل قصيرة، بينها تناسب، وتوازن موسيقي. واعتمد الكاتب على الطريقة البيانية؛ فألبس الفكرة الواحدة عدة أثواب، وعبر عن المعنى الواحد بعدة فروق، فجاءت التشبيهات في النص والاستعارات ناجحة في توصيل ما أراد الكاتب توصيله إلى القارئ، ووفق في استخدام المقابلة والطباق، والتشبيهات في النص وافية؛ فالكاتب يحرص على وصف المشبه به بما يحدده تحديدًا دقيقًا؛ ليؤدي التشبيه الوظيفة التي أرادها منه، ويعبر عن المعنى الذي قصد إليه.
واستطاع الكاتب أن يصور لنا الشعرة البيضاء كائنًا حيًّا كامل الحياة، يتوجه الكاتب إليها بالخطاب، وبالسؤال محاورًا ومتعجبًا في كثير من مواضع المقال.
إذًا نحن قمنا بدراسة نقدية لهذا المقال في مضمونه وفي شكله. ومن هنا يظهر لنا المقاييس النقدية التي يتعامل بها النقد مع فن المقال.
بقي أن أقول: إن بعض الدارسين يكتب بحثًا أدبيًّا في موضوع من الموضوعات، هذا البحث الأدبي يعنى بالتحليل والتعليل والتفسير، ومحاولة الوصول إلى نتائج. فهو يكتب إذًا بلغة علمية، ويمكن أن تكون اللغة أدبية لكنها لا تصطنع طريقة الأدب في التصوير والتخييل؛ لأننا نريد أن نصل من البحث الأدبي إلى حقائق وإلى نتائج. ومن هنا فإن البحث الأدبي في أغلب الأحيان يخرج عن نطاق المقال الأدبي.
هناك صور قلمية يكتبها بعض الأدباء في الترجمة لشخصيات معينة، يتحدثون عن بعض الوقائع والأحداث في حياة هذه الشخصية. يحتوي إذًا المقال على أفكار، وعلى مواقف، لكنها تصاغ صياغة أدبية، ويكون في هذه الصورة القلمية قدر معقول من إحساس الكاتب وعاطفته تجاه هذه الشخصية التي يقدمها في هذه الصورة، فتكون هذه المقالة مقالة أدبية.
والمقاييس بطبيعة الحال تتحرك وتتغير تبعًا للهدف من المقال والنمط الذي ورد فيه.