Top
Image Alt

فيم تكون القسامة؟

  /  فيم تكون القسامة؟

فيم تكون القسامة؟

هل القسامة في النفس فقط، أي: يعمل بها في النفس فقط، أو تشتمل على النفس، وما دون النفس؟

وفي بيان ذلك نقول: اتفقت كلمة الفقهاء على أن القسامة، لا تجب في غير النفس من الأطراف، والجوارح.

ووجه هذا القول: أن القسامة إنما ثبتت في النفس لحرمتها، وعظيم شأنها؛ فاختصت بها دون الأطراف، وكذلك، فإن القسامة تثبت في النفس حيث كان المجني عليه لا يمكنه التعبير عن نفسه، وتعيين القاتل، أما إن قطع طرف من أطرافه، أو أصابه شيء من جروح، أو شجاج، فإنه لا شك من أنه يمكن أن يعبر عن نفسه، فيكشف ويحدد من هو الجاني، خلافًا لقتيل يوجد في مكان ما، ولا يستطيع أن يعبر ويحدد قاتله بعد قتله.

إذًا، الحكم يختلف بين النفس، وما دون النفس، فيمكن لمن قطع طرفه أن يعبر عن نفسه، ويستطيع أن يكشف عن الجاني، وحكم الدعوة حينئذ كما هو الشأن في سائر الحقوق، وعماد الأمر في ذلك، الأصل المعلوم في الشريعة: أن البينة على من ادعى، واليمين على من أنكر، إلا أننا مع أن هذا الرأي السابق، هو رأي الجمهور من الفقهاء، وجدنا أن هناك خلافًا لهذا ينسب للشيعة الإمامية، حيث قالوا: إن القسامة في الأعضاء واجبة، كما هي واجبة في النفس، ولكن، لعل الذي يترجح العمل به، هو ما دلت عليه الأحاديث، وما فيه المأثور، وفضلا عن ذلك، فإن القسامة مخالفة لأصول الشرع، وإذا كانت على هذا النحو، فينبغي ألا يعمل بها إلا في أضيق الحدود؛ حيث يتعذر علينا في النفس معرفة القاتل إلا عن طريق القسامة. أما فيما يتعلق بالأطراف، أو ما دون النفس، فإنه لا يتعذر علينا معرفة الجاني من خلال قول من أصابه جرح، أو أصابه أذى، فيستطيع أن يعبر، ويحدد الجاني في حقه.

وهناك نقطة أخرى تتعلق بالقسامة، وهي من الأهمية بمكان، كما أنها نظرًا لأهميتها، قد اختلف حولها الفقهاء، تلك النقطة تكمن في سؤال، وهو: من الذي تناط به القسامة؟ أي: من الذي عليه الحلف في القسامة، أهو المدعى عليهم، أو أولياء القتيل؟

الفقهاء في ذلك على فريقين:

الفريق الأول: ويمثله: الحنفية، والنخعي، والثوري، وجماعة من العلماء، حيث قالوا: يحلف المدعى عليهم بالقتل، أي: من وجد القتيل في محلتهم. وسبيل ذلك، أن يختار أولياء القتيل خمسين رجلًا من المحلة التي وجد فيها القتيل، فيقولون: والله، أو بالله، أو تالله ما قتلناه، وما علمنا له قاتلًا، فإذا حلفوا يغرمون الدية في ثلاث سنين، أي: أن الفريق الأول: يرى أن الذي تناط به القسامة، إنما هم المدعى عليهم بالقتل.

دليل هذا الفريق، ما جاء في حديث البخاري، وفيه: ((تأتون بالبينة على من قتله))، قالوا: ما لنا بينة، قال: ((فيحلفون))، قالوا: لا نرضى بأيمان اليهود. هنا نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما كان هناك قتيل، طلب من أوليائه أن يأتوا بالبينة التي تعترف، وتشهد، وتحدد قاتله؟ إلا أنهم قالوا: ما لنا بينة، أي: ليس عندنا شهود تشهد على ذلك، قال: ((إذا فيحلفون))، أي: يحلف أهل المحلة التي وجد فيها القتيل، قالوا: لا نرضى بأيمان اليهود؛ لأنهم يهود، وفيه -كما سبق أن ذكرنا أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاهم الدية من بيت مال المسلمين؛ حتى لا تُهدر الدماء.

كذلك، ما أخرجه أبو داود، عن رافع بن خديج، قال: ((أصبح رجل من الأنصار مقتولًا بخيبر، فانطلق أولياؤه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكروا ذلك له، فقال: لكم شاهدان يشهدان على قتل صاحبكم؟ قالوا: يا رسول الله، لم يكن ثم أحد من المسلمين -أي: ليس هناك شهود تشهد؛ لأنه لم يوجد في محل الواقعة أحد من المسلمين- وإنما هم يهود، وقد يجترئون على أعظم من هذا -أي: لا يتورعون على فعل ما هو أعظم من ذلك، قال صلى الله عليه وسلم: فاختاروا منهم خمسين فاستحلفوهم فأبوا، فوداه النبي صلى الله عليه وسلم من عنده)).

من كل ما تقدم، يتبين لنا بما لا يدع مجالًا للشك، أن الذين تناط بهم الأيمان هم المدعى عليهم، وليس المدعين، أي: ليس أولياء القتيل.

أما الفريق الثاني في بيان من الذي يناط به القسامة: ويمثله من الفقهاء: مالك، والشافعي، وأحمد، حيث ذهبوا إلى أن الأولياء إذا ادعوا القتل على أن بينه وبين القتيل لوث، أي: علامة، أو إشارة تدل على صحة الدعوى. كانت اليمين في تلك الحالة منوطة بالمدعين، أي: أولياء القتيل طالما هناك علامة تدل على أن القتيل قتل من قبل هؤلاء الجماعة الذين بينهم وبين أولياء القتيل عداوة قديمة مثلًا، وهذا، ما يسمى: باللوث، عند ذاك، يحلف خمسين يمينًا على المدعى عليه، أنه هو القاتل، أي: يحلف المدعين أولياء القتيل خمسين يمينًا على أن فلانًا المدعى عليه هو القاتل، فإذا حلفوا ثبت حقهم عنده بالقود، أي: بالقصاص، وإن لم يحلفوا استحلف المدعى عليه خمسين يمينًا، فإن حلف برئ، واحتجوا لذلك، بما صح من حديث سهل بن أبي حَثْمَة، وهو متفق عليه، وقد رواه مالك في (الموطأ)، وثبت العمل به، ومعلوم كذلك، أن سهلًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو شاهد على القصة بنفسه، فلم يقل برأيه أو ظنه كشأن غيره في المسألة.

وفيه أيضًا، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لحويصة، ومحيصة، وعبد الرحمن: ((تحلفون وتستحقون دم صاحبكم))، هنا أيضًا، سبق وأن بينا أن النبي صلى الله عليه وسلم طلب من أولياء القتيل الحلف، كذلك، حديث رافع بن خديج، وفيه قول النبي صلى الله عليه وسلم لأولياء القتيل: ((يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع برمته))، فقد ثبت بذلك أن القسامة خمسون يمينًا مردودة، وأن الأولياء هم الذين تناط بهم هذه الأيمان، أي: أن أولياء القتيل، هم الذين تتعلق في حقهم هذه الأيمان، وهناك من رجح هذا الاتجاه، لكن هناك فقهاء الحنفية، وهم على رأس أصحاب الفريق الأول، ردوا على هذا الاستدلال، خاصة الاستدلال بحديث سهل الذي استدل به الجمهور، فقالوا: إن في حديث سهل ما يدل على عدم الثبوت، حتى أنه لو ثبت فهو مؤول، وتأويله: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: ((تحلفون وتستحقون دم صاحبكم؟))، وذلك على سبيل الاستنكار والرد بصيغة الاستفهام، كما في قول الله تعالى: { تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا} [الأنفال: 67]، وقوله: { أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} [المائدة: 50]، وذلكم -أي: رد فقهاء الحنفية على أصحاب الفريق الثاني- ربما لا يُسلَّم بصحته؛ لما فيه من مخالطة، ومن تكلف.

بهذا، نكون قد انتهينا من بيان من الذي تناط به القسامة؟ وبينَّا أن الفقهاء على رأيين، رأي يرى أنها على المدعى عليهم بالقتل، وآخر يرى أن القسامة على أولياء القتيل، وأقمنا الدليل لكل فريق على دعواه، وحاولنا بقدر الإمكان أن نكون مُنصفين عند عرض الأدلة، وبينَّا أيضًا من خلال العرض، ما قوي دليله، وما يعتبر راجحًا، أو غير راجح.

error: النص محمي !!