في طريق العودة من المعركة
أ. وفاة أبي عبيدة بن الحارث، وقتل النضر بن الحارث:
بعد يوم النصر العظيم الذي كرم الله به الإسلام، وفرّق فيه بين الحق والباطل، توجه النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن أمر بما في المعسكر، فجمع وتوجه المسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوب المدينة.
وعند الصفراء كانت المنية قد أدركت عبيدة بن الحارث متأثرًا بجراحه، فدفن بالصفراء.
وفيها أمر النبي صلى الله عليه وسلم بضرب عنق رجلٍ كانت له العداوة الواضحة للإسلام ولرسول الله صلى الله عليه وسلم وللقرآن، هو النضر بن الحارث، وقد كان أشد قريشًا مبادأة للرسول صلى الله عليه وسلم بالتكذيب والأذى، وكان صاحب أحاديث، ونظر في كتب الفرس، والنصارى، واليهود، وكان يكذب النبي صلى الله عليه وسلم ويعارض ما يدعو به من القرآن الذي كان يتلوه على أهل مكة صلى الله عليه وسلم، فكان يحدث بأساطيره وأحاديثه معارضًا القرآن، وما يدعو إليه النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يقول: أينا أحسن حديثًا أنا أم محمد؟ وكان يقول: إنما يأتيكم محمد بأساطير الأولين، ونزل فيه قول الله عز وجل: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَـذَا إِنْ هَـذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأوَّلِين} [الأنفال: 31] وهو الذي قال: {إِن كَانَ هَـذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاء أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيم} [الأنفال: 32].
وكما اشترى مغنيتين كانتا تغنيان بالأغاني التي تصرف الناس عن دين الله، وعن القرآن الكريم، ونزل فيه قول الله عز وجل {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِين} [لقمان: 6].
وكان هذا الرجل يقول: “إنما يعين محمدًا على ما يأتي به جبر غلام الأسود بن المطب، وعداس غلام شيبة، أو عتبة”؛ ولذلك نزل في هذا الأمر قوله عز وجل: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} [النحل: 103] ونزل فيه أيضًا قول الله عز وجل: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاؤُوا ظُلْمًا وَزُورًا} [الفرقان: 4].
وكان النضر سببًا في أن يرجع رجل من سادات قريش هو أبو أحيحة سعيد بن العاص بن أمية الذي كان يحسن القول في النبي صلى الله عليه وسلم وكان يقول لقريش: دعوا محمدًا، ولا تعرضوا له، فجاءه النضر بن الحارث، فقال له: إنه بلغني أنك تحسن القول في محمد، وكيف ذلك وهو يسب الآلهة، ويزعم أن آباءنا في النار؟ ومن هنا تحول أبو أحيحة فأظهر العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وذمه، وقويت بذلك أنفس المشركين بموقف أبي أحيحة هذا حين رجع عن موقفه المؤيد لرسول الله صلى الله عليه وسلم متأثرًا بكلام النضر له.
وبعد ذلك أتاه النضر شاكرًا على ذلك بإعظام هذا الرجل في قومه، وكان النضر خطيب القوم، وكان قد ذهب إلى أهل الكتاب يأخذ منهم ما يجادل به النبي صلى الله عليه وسلم.
هذا الرجل وقع في الأسر، وقد أسره المقداد بن عمرو، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الرجل -شديد العداء للإسلام، شديد الإنكار للقرآن- أن يقتل، فضربت عنقه، وكان الذي تولى ذلك علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهنا قال المقداد بن عمرو: أسيري يا رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم: إنه كان يقول في كتاب الله وفي رسوله ما يقول، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((اللهم أغن المقداد من فضلك)) وقد توسل النضر بالمصعب بن عمير؛ لأنه من بني عبد الدار مثله.
فقال: يا مصعب، أنت أقرب مَن هاهنا لي وأمسهم رحمًا بي، فكلم صاحبك في أن يجعلني كرجل من أصحابه، فقال له: إنك كنت تقول ما تقول، وتفعل كذا وكذا، فقال يا مصعب: ليس هذا الحين حين عتاب، فلو أن قريشًا أسرتك لدافعت عنك، فقال المصعب: أنت صادق، ولكني لست مثلك، إن الإسلام قطع العهود بيننا وبينكم.
ب. قتل عقبة بن أبي معيط:
ورجل آخر كذلك كان مصيره هذا المصير، هو عقبة بن أبي معيط الذي كان من أشد الناس أذًى للنبي صلى الله عليه وسلم، ففي مكان قريب من الصفراء يسمى “عرق الظبية” قُدم هذا الرجل ليتم فيه أمر الله عز وجل الذي أراده فيه، فأمر صلى الله عليه وسلم عاصم بن ثابت بن الأقلح بأن يضرب عنقه، وكان هذا الرجل قد جاءالنبي صلى الله عليه وسلم وهو ساجد عند البيت فوطئ بقدمه عنق النبي صلى الله عليه وسلم وطئًا شديدًا، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لقد كادت عيناه أن تندران، وجاء مرة بسلا شاة، والنبي صلى الله عليه وسلم ساجد فوضعه بين كتفيه، وكان جارًا للنبي صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((بئس الجوار جوار عقبة، وجوار أبي لهب)).
وهذا الرجل وقع في الأسر حينما جمح به فرسه، وأسره عبد الله بن سلمة، وكان هذا مصيره الذي لاقاه بأمر الله عز وجل، وكان صلى الله عليه وسلم قد توعده يوم بدر، وقال: ((والله لأقتلنك))، فلما قال: علام أُقتل يا معشر قريش من بين هؤلاء؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لعداوتك لله ولرسوله))، وكان هذا الرجل قد توعد النبي صلى الله عليه وسلم في شعر لما هاجر إلى المدينة صلى الله عليه وسلم فقال:
يا راكبًا ناقة القصواء هاجرنا | * | عما قليل تراني راكب الفرس |
أعل رمحي فيكم ثم أنهله | * | والسيف يأخذ منكم كل ملتبس |
هذان الرجلان اللذان قدما لهذا المصير الذي كان يستحقانه كان على هذا النحو الذي رأينا.
وكان صلى الله عليه وسلم يحسن معاملة الأسرى، ويأمر أصحابه بذلك، وهذا من شيمة الكرم والخلق الرفيع منه صلى الله عليه وسلم.