Top
Image Alt

في معرفة معناها

  /  في معرفة معناها

في معرفة معناها

اختلف المفسرون في الحروف المقطّعة التي في أوائل السوَر:

فمنهم من قال: هي مما استأثر الله بعلمه، فردّوا علمها إلى الله ولم يفسروها.

ذكره القرطبي عن أبي بكر وعلي بصيغة التمريض. وذكره الرازي فقال: “وقال أبو بكر الصّدّيق رضي الله عنه: “في كل كتاب سر، وسره في القرآن: أوائل السوَر”. وقال علي رضي الله عنه: “إن لكل كتاب صفوة، وصفوة هذا الكتاب: حروف التهجي”.

ولم أقف له على إسناد، ولا أراه إلا موضوعًا.

وأمّا عمر، وعثمان، وابن مسعود، فذكره القرطبي قائلًا: “وذكر أبو الليث السمرقندي عن عمر، وعثمان، وابن مسعود، أنهم قالوا: “الحروف المقطعة من المكتوم الذي لا يفسّر”. اهـ. هكذا بدون إسناد، ولا أراه يصح.

وقال القرطبي أيضًا: “قال عامر الشعبي، وسفيان الثوري، وجماعة من المحدِّثين: “هي سرّ الله في القرآن. ولله في كل كتاب من كُتبه سرّ. فهي من المتشابه الذي انفرد الله بعلمه؛ ولا يجوز أن نتكلم فيها، ولكن نؤمن بها وتقرأ كما جاءت”. اهـ.

وليس في تفسير سفيان شيء من ذلك.

أما الشعبي فقد روى ذلك عنه ابن المنذر، وأبو الشيخ في (التفسير) من طريق داود بن أبي هند قال: “كنت أسأل الشعبي عن فواتح السوَر، قال: يا داود إن لكل كتاب سرًا، وإنّ سرّ هذا القرآن: فواتح السوَر؛ فدَعْها، وسلْ عما بدا لك”.

ولم أقف على بقية سنده للنظر فيه. وهذا يعارض ما صح عن الشعبي في تفسيرها، وسوف يأتي.

أما سفيان فلم أر من أسند ذلك عنه.

وقد ذكر ابن كثير: أنّ القرطبي نقله عن الربيع بن خثيم، وليس كما ذكر؛ وإنما ذكر عنه أثرًا في المتشابه، وهو ما رواه أبو بكر الأنباري بسنده عنه قال: “إن الله تعالى أنزل هذا القرآن فاستأثر عنه بعلم ما شاء، وأطلعكم على ما شاء. فأما ما استأثر به لنفسه، فلستم بنائلين فلا تسألوا عنه. وأما الذي أطلعكم عليه، فهو الذي تسألون عنه وتخبرون به. وما بكل القرآن ما تعلمون تعملون”. وإسناده صحيح.

فالقول الأول: لم يثبت فيه شيء عن أحد من السلف. وأخرجه ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان، قال: “المتشابهات فيما بلغنا: {الَمَ} و{الَمَصَ} و{الَمَر} و{الَر} “.

وأصحاب هذا القول اعتبروا ذلك من المتشابه المذكور في قوله: {مِنْهُ آيَاتٌ مّحْكَمَاتٌ هُنّ أُمّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: 7].

فإن قيل: ما الحكمة في إنزال المتشابه ممن أراد لعباده به البيان والهدى؟

قلت: إن كان مما يمكن علْمه، فله فوائد. منها:

الحث للعلماء على النظر الموجب للعلم بغوامضه، والبحث عن دقائقه؛ فإن استدعاء الهمم لمعرفة ذلك من أعظم القرب.

ومنها: ظهور التفاضل وتفاوت الدرجات؛ إذ لو كان القرآن كله محكَمًا لا يحتاج إلى تأويل ونظر، لاستوت منازل الخلق، ولم يظهر فضل العالِم على غيره.

وإن كان مما لا يمكن علمه، فله فوائد. منها:

ابتلاء العباد بالوقوف عنده، والتوقف فيه، والتفويض والتسليم والتعبد بالاشتغال به من جهة التلاوة، كالمنسوخ، وإن لم يجز العمل بما فيه.

وإقامة الحجة عليهم، لأنه لما نزل بلسانهم ولغتهم، وعجزوا عن الوقوف على معناه مع بلاغتهم وأفهامهم، دل على أنه نزل من عند الله، وأنه الذي أعجزهم عن الوقوف على معناه.

وقد اختاره أبو حاتم ابن حبان، وكأن الحافظ ابن كثير مال إليه حيث قال بعد أن ذكر الخلاف: “من ها هنا لحظ بعضهم في هذا المقام كلامًا، فقال: “لا شك أن هذه الحروف لم ينزلها سبحانه وتعالى عبثًا ولا سدًى”. ومن قال من الجهلة: “إنه في القرآن ما هو تعبد لا معنى له بالكلية”، فقد أخطأ خطأ كبيرًا؛ فتعيّن أن لها معنى في نفس الأمر. فإن صح لنا عن المعصوم فيها شيء قلنا به، وإلا وقفنا حيث وقفنا، وقلنا: {آمَنّا بِهِ كُلّ مّنْ عِندِ رَبّنَا} [آل عمران:7]. ولم يجمع العلماء فيها (على) شيء معين، وإنما اختلفوا؛ فمن ظهر له بعض الأقوال بدليل فعليه اتباعه، وإلا فالوقف حتى يتبيّن”.

القول الثاني: هي اسم من أسماء الله تعالى، وألفاظ الروايات تحتمل أن الاسم يتكون من حروفها، أو أن كل حرف منها يشير لاسم من الأسماء، أو أنها يركّب منها اسم الله الأعظم.

ثبت ذلك عن ابن عباس وعن ابن مسعود.

رواه ابن جرير من طريق علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: “هو قسَم أقسم الله به، وهو من أسماء الله تعالى”. وإسناده حسن.

ورواه ابن أبي حاتم وابن جرير وغيرهما عن ابن عباس: {الَمَ}، قال: “أنا الله أعلم”. وفي إسناده عطاء بن السائب، ويشهد له بقية الطرق.

وأخرج ابن أبي حاتم وغيره، من طريق أبي الضحى، عن ابن عباس في قوله: {الَمَ}، قال: “أنا الله أعلم”، وفي قوله: {الَمَصَ}، قال: “أنا الله أفصل”، وفي قوله: {الَر} “أنا الله أرى”.

وأخرج من طريق سعيد بن جبير، عن ابن عباس، في قوله: {الَمَ} و{حـمَ} و{نَ}، قال: “اسم مقطّع”.

وأخرج من طريق عكرمة، عن ابن عباس، قال: “{الَر}  و{حـمَ} و{نَ}: حروف الرحمن مفرّقة”.

ورواه ابن جرير عن شعبة، قال: سألت السدي عن: {حـمَ} و{طسَ} و{الَمَ}، فقال: قال ابن عباس: “هي اسم الله الأعظم”. وهو منقطع.

وأخرج ابن أبي حاتم، وابن جرير، من طريق سعيد بن جبير عنه، قال: {الَمَ}، {حـمَ}، {نَ} قال: “اسم مقطّع”. وأخرج ابن مردويه عنه، قال: “فواتح السوَر كلها من أسماء الله تعالى”.

ورواه ابن جرير عن مرة الهمداني، قال: قال عبد الله:… فذكر نحوه، وإسناده جيد.

وقال السدي عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: {الَمَ}، قال: “أمّا {الَمَ} فهي حروف استفتحت من حروف هجاء اسم الله تعالى”. وهو إسناد فيه خلط، وبالنسبة لابن عباس وابن مسعود فقد مر ما يشهد له.

وحكي عن علي، فقال الرازي: “روي عن علي رضي الله عنه أنه كان يقول: “يا كهيعص، يا حم عسق”.

قلت: أخرج ابن جرير، وابن ماجه في (تفسيره)، عن فاطمة بنت علي قالت: كان علي يقول: “يا كهعيص، اغفر لي”. وإسناده ضعيف.

وقد سبق النقل عن علي أنه كان لا يفسرها، ولا يصحّ أيضًا.

وأخرج الحاكم وغيره من طريق سعيد بن جبير، عن ابن عباس في: {كَهيعَصَ}، قال: “الكاف من: “كريم”، والهاء من: “هاد”، والياء من: “حكيم”، والعين من: “عليم”، والصاد من: “صادق”.

وأخرج الحاكم أيضًا، من وجه آخر، عن سعيد عن ابن عباس، في قوله: {كَهيعَصَ}، قال: “كاف “هاد”، “أمين”، “عزيز”، “صادق”.

وأخرج ابن أبي حاتم من طريق السدي، عن أبي مالك، وعن أبي صالح عن ابن عباس، وعن مرة عن ابن مسعود، وناس من الصحابة، في قوله: {كَهيعَصَ} قال: “هو هجاء مقطع: الكاف من: “الملِك”، والهاء من: “الله”، والياء والعين من: “العزيز”، والصاد من: “المصوِّر”.

وأخرج عن محمد بن كعب مثله، إلا أنه قال: “والصاد من: “الصمد”.

وأخرج سعيد بن منصور، وابن مردويه من وجه آخَر، عن سعيد، عن ابن عباس، في قوله: {كَهيعَصَ}، قال: “كبير هاد أمين عزيز صادق”.

وأخرج ابن مردويه من طريق الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، في قوله: {كَهيعَصَ}، قال: “الكاف: “الكافي”، والهاء: “الهادي”، والعين: “العالِم”، والصاد: “الصادق”.

وأخرج من طريق يوسف بن عطية، قال: سئل الكلبي عن: {كَهيعَصَ}، فحدث عن أبي صالح عن أم هانئ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((كاف: هاد أمين عالم صادق)).

وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة في قوله: {كَهيعَصَ} [مريم: 1]، قال: “يقول: أنا الكبير الهادي، عليٌّ أمين صادق”.

وأخرج أبو الشيخ عن سعيد بن جبير، في قوله: {حـمَ} [الأحقاف: 1]، قال: “حاء اشتُقت من: الرحمن، وميم اشتقت من الرحيم “.

وأخرج ابن أبي حاتم، عن الربيع بن أنس في قوله: {كَهيعَصَ}، قال: “يا مَن يجير ولا يجار عليه”.

وأخرج عن أشهب قال: “سألت مالك بن أنس: أينبغي لأحد أن يتسمى بـ”يس”؟ فقال: ما أراه ينبغي، لقول الله: {يسَ (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} [يس: 1، 2]، يقول: هذا اسم تسميت به”.

وقال الشعبي: “فواتح السور من أسماء الله تعالى”، أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم؛ وهو صحيح.

وكذلك قال سالم بن عبد الله، وإسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير.

وأخرج أبو الشيخ عن محمد بن كعب القرظي قال: “{الَر} [يونس: 1]من الرحمن”.

وأخرج عنه أيضًا قال: “{الرّحْمَـَنُ} [الرحمن: 1]: الألف من الله، والميم من الرحمن، والصاد من: {الَمَصَ} [الأعراف: 1].

وأخرج عن محمد بن كعب، في قوله: {حـمَ (1) عَسَقَ} [الأحقاف: 1، 2]، قال: الحاء والميم من الرحمن، والعين من العليم، والسين من القدّوس، والقاف من القاهر “.

وأخرج أيضًا عن الضحاك في قوله: {الَمَصَ} [الأعراف: 1]، قال: “أنا الله الصادق”، وقيل: معناه: {الْمُصَوّرُ} [الحشر: 24]، وقيل: {الَر} [يونس: 1]معناه: “أنا الله أعلم وأرفع”. حكاهما الكرماني في غرائبه.

وأخرج عن محمد بن كعب، في قوله: {طه} [طه: 1]، قال: “الطاء من”الطاء من ذي الطول”. وأخرج عنه أيضًا في قوله: {طسَمَ} [القصص: 1]، قال: ” الطاء في ذي الطول، والسين من القدوس، والميم من الرحمن”.

وأخرج عن سعيد بن جبير في قوله: {حـمَ} [الأحقاف: 1]، قال: “حاء اشتقت من الرحمن، وميم اشتقت من الرحيم “.

وأخرج عن محمد بن كعب، في قوله: {حـمَ (1) عَسَقَ} قال: “الحاء والميم من الحاء والميم من الرحمن، والعين من العليم، والسين من القدوس، والقاف من القاهر”.

وأخرج عن مجاهد، قال: “فواتح السور كلها هجاء مقطع”.

وأخرج عن سالم بن عبد الله قال: {الَمَ} و{حـمَ} و{نَ}، ونحوها: “اسم الله مقطعة”.

وأخرج عن السدي، قال: “فواتح السوَر: أسماء من أسماء الرب -جل جلاله-،فرِّقت في القرآن”.

وحكى الكرماني في قوله: {قَ}: “إنه حرف من اسمه: “قادر” و”قاهر”.

وحكى غيره في قوله: {نَ}: “إنه مفتاح اسمه تعالى: “نور” و”ناصر”.

القول الثالث: هو قسَم أقسم الله به:

تقدم في رواية علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، وقد جمع فيه بين كونه من أسماء الله، وبين كونه قسمًا، ولا يمتنع ذلك.

وروى ابن أبي حاتم، وابن جرير، عن عكرمة أنه قال: “{الَمَ} قسَم”. وإسناده صحيح.

القول الرابع: أسماء للسوَر:

قال ابن كثير: “قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: “إنما هي أسماء السوَر”.

قلت: أخرجه ابن جرير بإسناد صحيح، عنه رواية عن أبيه، عندما سئل عنها، وليس قولًا عنه مجردًا. وروايته عن أبيه ضعيفة.

وقال الزمخشري في (تفسيره): “وعليه إطباق الأكثر”، ونقله عن سيبويه أنه نص عليه.

قال ابن كثير: “ويعتضد هذا بما ورد في (الصحيحين)، عن أبي هريرة: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الصبح يوم الجمعة، (الم السجدة) السجدة و(هل أتى على الإنسان))).

قلت: وهذا ليس بمتّجه، فإنه سمّى سورة (الإنسان) بجزء من أوّل آياتها، ولم يقل أحد بأن ذلك اسم للسورة، كما أنه قال: (الم السجدة)، ولم يجتزئ بالحروف فقط، للاشتباه.

وعن مجاهد أنه قال: {الَمَ} و{حـمَ} و{الَمَصَ} و{صَ}: فواتح افتتح الله بها”. أخرجه ابن جرير، وإسناده صحيح.

وفي رواية عنه أنه قال: “{الَمَ}: اسم من أسماء القرآن”. وإسنادها صحيح أيضًا.

وهكذا قال قتادة.

قال ابن كثير: “ولعل هذا يرجع إلى معنى قول عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: “إنه اسم من أسماء السوَ”ر، فإن كل سورة يطلق عليها اسم القرآن، فإنه يبعد أن يكون {الَمَصَ} اسمًا للقرآن كلّه، لأن المتبادر إلى فهم سامع من يقول: “قرأت (المص)، إنما ذلك عبارة عن سورة (الأعراف)، لا لمجموع القرآن -والله أعلم-“.

القول الخامس: أنها للدلالة على مدّة:

فالعرب لهم حساب يسمى: “حساب الجمَّل”؛ وذلك أنهم يحسبون كل حرف من حروف “أبي جاد” بما يقابله من العدد، ابتداء من واحد إلى عشرة، ثم عشرين إلى مائة، ثم مائتين… إلخ.

فمن: أ، ب، ج، د، هـ، و، ز، ح، ط، ي: 1، 2، 3، 4، 5، 6، 7، 8، 9، 10. ك، ل، م، ن، ص: 20، 30، 40، 50، 60، وهكذا…

فروى محمد بن إسحاق بن يسار -صاحب المغازي-، قال: حدثني الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، عن جابر بن عبد الله بن رياب، قال: ((مرّ أبو ياسر بن أخطب في رجال من يهود، برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتلو فاتحة سورة (البقرة): {الَمَ (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 1، 2]، فأتى أخاه حُيي بن أخطب في رجال من اليهود، فقال: تعلمون والله، لقد سمعت محمدًا يتلو فيما أنزل الله عليه: {الَمَ (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ}، فقال: أنت سمعته؟ قال: نعم. قال: فمشى حُيي بن أخطب في أولئك النفر من يهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا محمد، ألم تذكر أنك تتلو فيما أنزل عليك: {الَمَ (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ}؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بلى. فقالوا: جاءك بهذا جبريل من عند الله؟ فقال: نعم. قالوا: لقد بعث الله قبلك أنبياء، ما نعلمه بيّن لنبيّ منهم ما مدة ملكه، وما أجَلُ أمته غيرك. فقال حيي بن أخطب -وأقبل على من كان معه- فقال لهم: الألف واحدة، واللام ثلاثون، والميم أربعون؛ فهذه إحدى وسبعون سنة. أفتدخلون في دين نبي إنما مدة مُلكه وأجل أمّته إحدى وسبعون سنة؟ ثم أقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد. هل مع هذا غيره؟ فقال: نعم. قال: ما ذاك؟ قال: {الَمَصَ}. قال: هذا أثقل وأطول. الألف: واحدة، واللام: ثلاثون، والميم: أربعون، والصاد: ستون؛ فهذه إحدى وثلاثون ومائة سنة. هل مع هذا يا محمد غيره؟ قال: نعم. قال: ما ذاك؟ قال: {الَر}. قال: هذا أثقل وأطول. الألف: واحدة، واللام: ثلاثون، والراء: مئتان؛ فهذه إحدى وثلاثون ومائتا سنة. فهل مع هذا يا محمد غيره؟ قال: نعم. {الَمَر}. قال: فهذه أثقل وأطول. الألف: واحدة، واللام: ثلاثون، والميم: أربعون، والراء: مائتان؛ فهذه إحدى وسبعون ومائتان. ثم قال: لقد لبّس علينا أمرك يا محمد، حتى ما ندري أقليلًا أُعطيتَ أم كثيرًا. ثم قال: قوموا عنه. ثم قال أبو ياسر لأخيه حيي بن أخطب ولمن معه من الأحبار: ما يدريكم؟ لعله قد جمع هذا لمحمد كله: إحدى وسبعون، وإحدى وثلاثون ومائة، وإحدى وثلاثون ومائتان، وإحدى وسبعون ومائتان، فذلك سبعمائة وأربع سنين، فقالوا: لقد تشابه علينا أمره. فيزعمون أن هؤلاء الآيات نزلت فيهم: {هُوَ الّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مّحْكَمَاتٌ هُنّ أُمّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران:7])).

هكذا ذكره ابن كثير، بعد أن قال: “وأمّا من زعم أنها دالة على معرفة المدد، وأنه يستخرج من ذلك أوقات الحوادث والفتن والملاحم، فقد ادّعى ما ليس له، وطار في غير مطاره. وقد ورد في ذلك حديث ضعيف، وهو مع ذلك أدل على بطلان هذا المسلك من التمسك به على صحته”.

ثم قال عقِبه: “فهذا الحديث مداره على محمد بن السائب الكلبي، وهو ممن لا يحتج بما انفرد به. ثم كان مقتضى هذا المسلك -إن كان صحيحًا- أن يحسب ما لكل حرف من الحروف الأربعة عشر التي ذكرناها، وذلك يبلغ منه جملة كثيرة. وإن حسبت مع التكرر، فأطم وأعظم، والله أعلم”.

قال السيوطي: “وقد استخرج بعض الأئمة من قوله تعالى: {الَـمَ (1) غُلِبَتِ الرّومُ}: أن البيت المقدس تفتحه المسلمون في سنة ثلاثة وثمانين وخمسمائة، ووقع كما قاله”.

وقال السهيلي: “لعل عدد الحروف التي في أوائل السوَر مع حذف المكرر، للإشارة إلى مدة بقاء هذه الأمة”.

قال ابن حجر: “وهذا باطل لا يعتمد عليه؛ فقد ثبت عن ابن عباس رضي الله عنه الزجر عن عدّ “أبي جاد”، والإشارة إلى أن ذلك من جملة السِّحر، وليس ذلك ببعيد؛ فإنه لا أصل له في الشريعة”.

وقد قال القاضي أبو بكر بن العربي في فوائد رحلته: “ومن الباطل: علْم الحروف المقطّعة في أوائل السوَر. هكذا نقل السيوطي”.

قلت: الحديث المذكور أخرجه ابن إسحاق في (السيرة)، وضعفه السيوطي أيضًا من هذه الطريق. وقول الحافظ ابن كثير: “مداره على محمد بن السائب، وهو ممن لا يحتج بما انفرد به”، منتقض بروايته من طريق أخرى في مغازي يونس بن بكير، عن ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس وجابر بن رئاب به نحوه؛ وهذا إسناد حسن، فصّلتُ القول فيه في (صحيح السيرة)، وله شاهد عن ابن جريج مرسلًا، أخرجه ابن المنذر في (تفسيره).

ولا مانع من ذلك شرعًا أو عقلًا، إلا أن الحديث لا دلالة فيه على معنى الحروف المقطّعة، وإنما ذلك فهم فهمه اليهود من عند أنفسهم، ربما كان صحيحًا، وربما كان خطأ -والله أعلم-.

وقال ابن فارس: “وهو قول حسن لطيف، لأن الله تعالى أنزل على نبيه الفرقان، فلم يدع نظمًا عجيبًا ولا علمًا نافعًا إلا أودعه إياه، علِم ذلك مَن علِمه، وجهله مَن جهله”.

القول السادس: أنها هجاء موضوع، وأظنه يعود إلى أنه من المتشابه لا يُعلم معناه، فهو كمن فسّر الماء بالماء:

عن مجاهد أنه قال: “فواتح السور كلها: {قَ} و{صَ} و{حـمَ} و{طسَمَ} و{الَر}، وغير ذلك: هجاء موضوع”. أخرجه ابن جرير، وإسناده ضعيف. وقد تقدم عن مجاهد غير هذا القول بسند صحيح.

قال ابن كثير: “وقال بعض أهل العربية: هي حروف من حروف المعجم، استغني بذكر ما ذكر منها في أوائل السوَر عن ذكر بواقيها التي هي تتمة الثمانية والعشرين حرفًا، كما يقول القائل: ابني يكتب في ا ب ت ث، أي: في حروف المعجم الثمانية والعشرين؛ فيستغني بذكر بعضها عن مجموعها”. حكاه ابن جرير.

وقد سبق ذكر بعض ذلك في بداية حديثنا عنها.

القول السابع: قول جامع:

عن أبي العالية، في قوله تعالى: {الَمَ}، قال: هذه الأحرف الثلاثة من التسعة والعشرين حرفًا، دارت فيها الألسن كلها، ليس منها حرف إلا وهو مفتاح اسم من أسمائه، وليس منها حرف إلا وهو من آلائه وبلائه، وليس منها حرف إلا وهو في مدة أقوام وآجالهم. قال عيسى بن مريم عليه السلام وعجِب، فقال: “وأعجب أنهم ينطقون بأسمائه، ويعيشون في رزقه، فكيف يكفرون به؟! فالألف مفتاح اسم: اسم: الله، واللام مفتاح اسمه: لطيف، والميم مفتاح اسمه: مجيد. فالألف: آلاء الله، واللام: لطف الله، والميم: مجد الله. فالألف سَنَة، واللام: ثلاثون سَنة، والميم أربعون سَنة”.

رواه ابن أبي حاتم، وإسناده حسن. وما رواه عن عيسى عليه السلام يبدو أنه أخذه من بعض أهل الكتاب، وهو غريب وفيه ركاكة.

قال ابن كثير، بعد أن عزاه لابن جرير: “وليس فيه عن أبي العالية، وإنما عن الربيع بن أنس”.

ثم شرع يوجّه كل واحد من هذه الأقوال، ويوفّق بينها، وأنه لا منافاة بين واحد منها وبين الآخر، وأن الجمع ممكن: فهي أسماء للسوَر، ومن أسماء الله تعالى يفتتح بها السوَر، فكل حرف منها دل على اسم من أسمائه، وصفة من صفاته، كما افتتح سورًا كثيرة بتحميده وتسبيحه وتعظيمه. قال: “ولا مانع من دلالة الحرف منها على اسم من أسماء الله، وعلى صفة من صفاته، وعلى مدة، وغير ذلك… (كما ذكره) الربيع بن أنس عن أبي العالية، لأن الكلمة الواحدة تطلق على معانٍ كثيرة، كلفظة “الأمّة”، فإنها تُطلق ويُراد بها: الدّين، كقوله: {إِنّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا عَلَىَ أُمّةٍ} [الزخرف:23]. وتُطلق ويُراد بها: الرجل المطيع لله، كقوله: {إِنّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمّةً قَانِتاً لِلّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل:120]. وتُطلق ويُراد بها: الجماعة، كقوله: {وَجَدَ عَلَيْهِ أُمّةً مّنَ النّاسِ يَسْقُونَ} [القصص:23]، وقوله: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلّ أُمّةٍ رّسُولاً} [النحل:36]. وتُطلق ويُراد بها: الحين من الدهر، كقوله: {وَقَالَ الّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادّكَرَ بَعْدَ أُمّةٍ} [يوسف:45]، أي: بعد حين -على أصح القولين-. قال: فكذلك هذا”.

هذا حاصل كلامه موجّهًا، ولكن هذا ليس كما ذكره أبو العالية؛ فإن أبا العالية زعم أن الحرف دل على هذا، وعلى هذا، وعلى هذا معًا، ولفظة “الأمّة” وما أشبهه من الألفاظ المشتركة (في الاصطلاح)، إنما دل في القرآن في كل موطن على معنى واحد دل عليه سياق الكلام، فأما حمله على مجموع محامله إذا أمكن، فمسألة مختلف فيها بين علماء الأصول، ليس هذا موضع البحث فيها -والله أعلم-.

ثم إن لفظ “الأمّة” يدل على كل (من) معانيه في سياق الكلام بدلالة الوضع، فأما دلالة الحرف الواحد على اسم يمكن أن يدل على اسم آخر من غير أن يكون أحدهما أوْلى من الآخر في التقدير أو الإضمار بوضع ولا بغيره، فهذا (مما) لا يُفهم إلا بتوقيف. والمسألة مختلف فيها، وليس فيها إجماع حتى يحكم به.

وما أنشدوه من الشواهد على صحة إطلاق الحرف الواحد على بقية الكلمة، فإن في السياق ما يدل على ما حذف، بخلاف هذا، كما قال الشاعر:

قلنا لها: قفي فقالت: قافْ

*لا تحسبي أنا نسينا الإيجافْ

تعني: وَقَفتُ.

وقال الآخر:

ما للظليم عال كيف لا يا

*ينقدّ عنه جلده إذا يا

قال ابن جرير: “كأنه أراد أن يقول: “إذا يفعل كذا وكذا”، فاكتفى بالياء من: “يفعل”.

وقال الآخر:

بالخير خيرات وإن شرًا فا

*ولا أريد الشر إلا أن تا

يقول: “وإن شرًا فشر، ولا أريد الشر إلا أن تشاء”؛ فاكتفى بالفاء والتاء من الكلمتين عن بقيتهما، ولكن هذا ظاهر من سياق الكلام -والله أعلم-.

قال القرطبي: “وفي الحديث: ((من أعان على قتل مسلم بشطر كلمة…)) الحديث. قال شقيق: هو أن يقول في “اقتل”: “اقـْ”.

واختار ابن فارس وغيره: أن تجعل هذه التأويلات كلها تأويلًا واحدًا، فيقال: إن الله -جل وعلا- افتتح السوَر بهذه الحروف، إرادة منه للدلالة بكل حرف منها على معانٍ كثيرة، لا على معنى واحد؛ فتكون هذه الحروف جامعة لأن تكون افتتاحًا، وأن يكون كل واحد منها مأخوذًا من اسم من أسماء الله تعالى، وأن يكون الله عز وجل قد وضعها هذا الوضع فسمّى بها، وأن كل حرف منها في آجال قوم وأرزاق آخرين. وهي مع ذلك مأخوذة من صفات الله تعالى في إنعامه وإفضاله ومجده، وأن الافتتاح بها سبب لأن يسمع القرآن من لم يكن سمع، وأن فيها إعلامًا للعرب أن القرآن الدال على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بهذه الحروف، وأن عجزهم عن الإتيان بمثله مع نزوله بالحروف المتعالمة بينهم دليلٌ على كفرهم وعنادهم وجحودهم، وأن كل عدد منها إذا وقع أول كل سورة، فهو اسم لتلك السورة.

قال: “وهذا القول الجامع للتأويلات كلّها. والله أعلم بما أراد من ذلك”.

error: النص محمي !!