قضية السرقات الأدبية
المراد بالسرقات الأدبية: أن يأتي شاعرٌ فيتأثر، أو يأخذ معنًى سبقه إليه شاعر آخر، فنكون أمام قولين: قول سابق، وقول لاحق، وبينهما تشابه في المعنى، أو تشابه في المعنى واللفظ على حسب ما يكون هذا التشابه؛ وهذا الأمر يُدرس في مجال النقد القديم تحت عنوان: “السرقات الأدبية”.
وبعض النقاد لا يميل إلى استخدام هذا اللفظ “السرقات”؛ لأنه لفظ غليظ لا يليق استعماله في مقام نتحدث فيه عن الأدب والأدباء -كما يقول أستاذنا الدكتور عبد الرحمن عثمان -عليه رحمة الله- في كتابه (مذاهب النقد وقضاياه)- ويقول عن هذا لفظ “السرقة”: “فهو يعطينا أول ما يعطينا شعورًا باللجوء إلى الحيرة، والتسلل في خفاء إلى نتاج المتقدمين، أو المعاصرين للظفر به، والاستيلاء عليه”.
وقد عنون لهذا المبحث، أو لهذه القضية بعنوان: “الاحتذاء والمحاكاة في الأدب”، وعرَّف الاحتذاء استنادًا إلى المعنى اللغوي، فإنه يقال: حذا فلان حذو فلان، إذا فعل فعْله، واحتذى مثاله، أي: اقتدى به. فإذا كان الاحتذاء اقتداء للمثال؛ فهو عند الآمدي الناقد العربي القديم اتفاق وليس سرقة، ونص الآمدي: “ولا يقال لمن كانت هذه سبيله: سرق، وإنما يقال له: اتفاق، فإن كان واحد سمع هذا المعنى، أو مثله من آخر فاحتذاه، فإنما ذكر معنًى قد عرفه واستعمله، لا أنه أخذه سرقة”، ولكن شيخ عبد القاهر يؤكد خضوعًا للاشتقاق اللغوي فيما يبدو؛ أنه إذا كان هناك احتذاء، فهناك سرقة لا محالة.
وقد آثر الدكتور عبد الرحمن عثمان عنوان: “الاحتذاء والمحاكاة في الأدب”، ولم يستخدم لفظ السرقات، ويقول: إن الذي هداه إلى هذا الاستخدام ما وجده عند القاضي الجرجاني في كتابه (الوساطة بين المتنبي وخصومه)، إلا أن القاضي الجرجاني عرض لهذا الموضوع عرض العالم الخبير والقاضي النزيه، وتناوله بكثير من الفهم والتواضع، فأمسك بزمام القول، وصرفه في حصافة وأناة، وانتهى فيه إلى نصيحة تحسم أمر الغلوّ في القول، والتطرف في التعبير عن الرأي، يقول الجرجاني: “ومتى أنصفت علمت أن أهل عصرنا، ثم العصر الذي بعدنا أقرب فيه إلى تلك المعذرة -أي: السرقة- وأبعد من المذمة؛ لأن من تقدمنا قد استغرق المعاني وسبق إليها، وأتى على معظمها، وإنما يحصل على بقايا إما أن تكون تركت رغبة عنها، واستهانة بها، أو لبعد مطلبها واعتياص مراميها، وتعذر الوصول إليها.
ومتى أجهد أحدنا نفسه، وأعمل فكره، وأتعب خاطره وذهنه في تحصيل معنًى يظنه غريبًا مبتدعًا، ونظم بيتًا يحسبه فردًا مخترعًا، ثم تصفح عنه الدواوين لم يخطئه أن يجده بعينه أو يجد له مثالًا يغض من حسنه، ولهذا السبب أحذر على نفسي، ولا أرى لغيري بت الحكم على شاعر بالسرقة”.
فهذا الكلام من القاضي الجرجاني فيه اعتذار للشعراء اللاحقين، الذين يقعون على معانٍ لشعراء متقدمين عليهم، وهذا الاعتذار الجميل من القاضي الجرجاني هو الذي جعل الدكتور عبد الرحمن عثمان لا يُسمي الأخذ من القدماء سرقة، وهذا كلام في الحقيقة جيد، وهذا منطق عادل؛ لأن التجديد المطلق أو الابتداع المطلق شيء نادر وصعب في مجال الأدب؛ لأن الأدب تعبير عن عواطف، وتعبير عن مواقف وتعبير عن أحداث، ويصعب أن تجد معنًى أو موقفًا أو حدثًا في عصرنا هذا مثلًا لم يسبق مثيله في العصور المتقدمة، فإذا وجدنا كلامًا لشاعر معاصر كأحمد شوقي أو غيره يشبه في معناه كلامًا لشاعر قديم في العصر العباسي أو غيره من العصور المتقدمة، وجئنا إلى المعاصر وقلنا: إنه سرق هذا المعنى من السابقين؛ كنا في غاية القسوة في حكمنا على الشعراء، هذا هو الذي أراد أن يقوله القاضي الجرجاني عن شعراء عصره، وعن الشعراء التالين لعصره، فهو يلتمس لهم العذر في وقوعهم على معاني من تقدمهم من الشعراء، وهذا نفسه هو الذي يراه الدكتور عبد الرحمن عثمان عندما استثقل لفظ السرقات، وآثر أن يعنون لهذه القضية بعنوان الاحتذاء.
وهذا الاعتذار عن الشعراء اللاحقين في وقوعهم على معاني المتقدمين مبنيّ على أن الشعراء الجاهليين أنفسهم -وهم شعراء العصر الأول في تاريخ الأدب العربي- يذكرون أن سابقيهم لم يتركوا لهم شيئًا من المعاني، وأنهم -أي: الجاهليين- يقولون قولًا مكرورًا ومعادًا، فامرؤ القيس يطلب من صاحبه أن يعرج على الطلل لعله يبكيه كما بكى ابن حزام، وعنترة بن شداد يقول في مطلع معلقته:
هل غادر الشعراء من متردم | * | …. …. …. …. …. |
والاستفهام هنا المراد به النفي، أي: لم يترك الشعراء السابقون علينا في طريق الشعر شيئًا نصلحه، أو معنى نضيفه، وزهير بن أبي سلمى يقول:
ما أرانا نقول إلا معارًا | * | أو معادًا من لفظنا مكرورا |
فهم إذًا يشعرون أن السابقين ضيَّقوا عليهم المعاني؛ ولهذا وجدنا ضياء الدين بن الأثير عندما يتحدث عن أولية الشعر الجاهلي، فيقول: “وقد ذهب طائفة من العلماء إلى أنه ليس لقائل أن يقول: إن لأحد من المتأخرين معنًى مبتدعًا؛ فإن قول الشعر قديم منذ نطق باللغة العربية، وإنه لم يبق معنى من المعاني إلا وقد طرق مرارًا”، وهذا القول وإن دخل في حيز الإمكان، إلا أنه لا يلتفت إليه؛ لأن الشعر من الأمور المتناقلة، والذي نقلته الأخبار وتواردت عليه العرب، فكانت تنظم المقاطيع من الأبيات فيما يعنّ لها من الحاجات، ولم يزل الحال على هذه الصورة إلى عهد امرئ القيس وهو قبل الإسلام بمائة سنة، فقصّد القصائد، وهو أول من قصد، ولو لم يكن له معنى اختص به سوى أنه أول من قصد القصائد؛ لكان في ذلك كفاية، وأي فضيلة أكبر من هذه الفضيلة، ثم تتابع المقصِّدون.
إذًا: هذا التتابع القديم على الشاعر، وعلى معاني القول جعلت الشعراء التالين يقعون على معانٍ لشعراء سابقين عليهم، فأحيانًا يكون في هذا الوقوع تأثر عن طريق الثقافة والحفظ، وأحيانًا يكون هذا التقارب من باب توارد الأفكار، وأحيانًا هذا التقارب مقصودًا، أي: وجد الشاعر هذا المعنى عند شاعر سبقه وأخذه، لكنه عبر عنه بأسلوب جديد، ومن هنا اختلفت الأحكام على المعاني؛ هل هي مأخوذة، أو مسروقة، أو مسلوخة، أو مقتبسة؟ واختلف الحكم على الشاعر الآخذ إن كان أخذ المعنى ولم يضف إليه، أو أخذ المعنى وعبر عنه كما عبر عنه السابق، أو أخذ المعنى وطوره، أو أخذ المعنى ونقله، أو أخذ المعنى ولم يأخذ اللفظ، أو أخذ المعنى وعبر عنه بلفظ أجود مما عبر عنه سابقه هنا؛ ومن هنا اختلفت النظرة إلى ألوان التأثر أو الاحتذاء المختلفة.
ومن نماذج هذا التأثر: تأثر اللاحق بالسابق الذي يمكن أن يُرد إلى طبيعة الثقافة، أو يرد إلى وحدة البيئة والمشاهد التي تقع عليها أعين الشعراء في هذه البيئة الواحدة، أو إلى توارد الخواطر، مثلًا ما نجده في قول طرفة بن العبد في مطلع قصيدته المشهورة حيث يقول:
لخولة أطلال ببرقة ثهمد | * | تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد |
وقوفًا بها صحبي علي مطيهم | * | يقولون: لا تهلك أسًى وتجلد |
نجد هذا البيت الثاني موجودًا عند امرئ القيس؛ إذ يقول أيضًا في معلقته:
وقوفًا بها صحبي عليَّ مطيهم | * | يقولون: لا تهلك أسًى وتجمل |
فلا فرق بين بيت طرفة وبيت امرئ القيس إلا في كلمة “تجلد” عند طرفة، وكلمة “تجمل” عند امرئ القيس، فهل أُعجب طرفة ببيت امرئ القيس وأخذه كاملًا ووضعه في قصيدته، أم أن طرفة عبر عن معنًى جاء في ذهنه كما عبر عنه امرؤ القيس دون قصد، ودون علم بما قال امرؤ القيس؟
لا نظن أن طرفة كان ضعيف الموهبة بحيث يحتاج إلى أخذ بيت كامل من غيره، والراجح: أن هذا من توارد الخواطر أو الأفكار، تبعًا لاتحاد البيئة واتحاد الثقافة.
وقد نشط البحث في هذا الموضوع، وكثر الكلام حول السرقات الأدبية في العصر العباسي، وخلاصة ما يُمكن أن نفهمه من آراء النقاد القدامى: أنه لا غنى لمتأخر عن تناول معاني المتقدمين والصب على قوالبهم، على أن تكون الألفاظ للمتأخر، أما إذا أخذ المتأخر معنًى مسبوقًا إليه، وأخذه بلفظه فهذا أخذ معيب أو سرقة، وقد يعرض المتأخر لمعنى سبقه إليه متقدم دون أن يعرف ذلك أو يلم به، فهذا ليس من السرقة في شيء وإنما من توارد الأفكار أو توحد الثقافة، فمن أخذ معنى وكساه لفظًا من عنده أجود من اللفظ الذي كان فيه عند الشاعر المتقدم؛ كان اللاحق أولى به من المتقدم.
وقد أطبق المتقدمون والمتأخرون على تداول المعاني بينهم، وهناك معانٍ مشتركة لا يمكن أن يقال فيها: إن فلانًا أخذ هذا المعنى من فلان، فتشبيه الفتاة الجميلة بالبدر، وتشبيه الغني الجواد بالبحر، وتشبيه الشجاع بالأسد، هذه المعاني من المعاني العامة التي لا فضل لأحد على أحد فيها، ولا فضل لمتقدم على متأخر.
فالشاعر الذي يأخذ معنًى ممن سبقه، ثم ينقله من مجال إلى مجال؛ كأن ينقله من المديح فيحوره ويحوله إلى هجاء، أو ينقله من صورة إلى صورة؛ فإنه يكون قد أضاف إليه، ولا يُعد هذا من السرقة.
إذًا: هم يحصرون السرقة المعيبة في أن يعمد شاعر لاحق إلى معنًى تناوله غيره بلفظه كله، أو بأكثر لفظه، أو ينقله إلى معنى مستهجن؛ فيفشل في الاستفادة منه في معرض أقل جودة من معرضه الذي كان فيه، فعندئذٍ يُعاب عليه هذا الأخذ، أو هذا التأثر.