Top
Image Alt

قيام الدولة الأموية

  /  قيام الدولة الأموية

قيام الدولة الأموية

وظلت الأمور صورة مضيئة للدولة الفتية: الراعي والرعية، إلى أن حدثت الفتنة، والفتنة بدأت بمقتل عثمان رضي الله  عنه   واختلاف الناس من بعد ذلك في شأن قتله ومن قتله، وانصدعت وحدة المسلمين، وأصبح فيهم أميران: علي رضي الله  عنه   رابع الخلفاء الراشدين، ومعاوية رضي الله  عنه   الذي أخذ البيعة من أهل الشام.

ويدلك على خطر هذا الشقاق والصدع الذي حدث وخطر آثاره التي ترتبت عليه بعد ذلك هذا الخطاب الذي كتبه علي رضي الله  عنه   إلى معاوية يقول فيه:

“سلام عليك، أما بعد؛ فإن بيعتي بالمدينة لزمتك وأنت بالشام؛ لأنه بايعني الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بويعوا عليه، فلم يكن للشاهد أن يختار ولا للغائب أن يرد؛ وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار؛ فإذا اجتمعوا على رجل وسموه إمامًا؛ كان ذلك لله رضا، وإن خرج عن أمرهم خارجٌ  ردوه إلى ما خرج عنه؛ فإن أبى قاتلوه على إتباعه غير سبيل المؤمنين وولَّاه الله ما تولى، وأصلاه جهنم وساءت مصيرًا.

وإن طلحة والزبير بايعاني ثم نقضا بيعتهما، وكان نقضهما كردهما؛ فجاهدتهما بعدما أعذرت إليهما؛ حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون؛ فادخل فيما دخل فيه المسلمون، فإن أحب الأمور إليَّ قبولك العافية، وقد أكثرت في قتلة عثمان؛ فإن أنت رجعت عن رأيك وخلافك ودخلت فيما دخل فيه المسلمون، ثم حاكمت القوم إليَّ؛ حملتك وإياهم على كتاب الله، وأما تلك التي تريدها فهي خدعة الصبي عن اللبن، ولعمري، لئن نظرت بعقلك دون هواك لتجدنني أبرأ قريش من دم عثمان، واعلم أنك من الطلقاء الذين لا تحل لهم الخلافة، ولا يدخلون في الشورى، وقد بعثت إليك وإلى من قبلك جريرَ بنَ عبد الله، وهو من أهل الإيمان والهجرة؛ فبايعه ولا قوة إلا بالله”.

فكان جواب معاوية على هذه الرسالة:

“من معاوية بن صخر إلى علي بن أبي طالب، أما بعد: فلعمري، لو بايعك القوم الذين بايعوك وأنت بريء من دم عثمان؛ كنت كأبي بكر وعمر وعثمان رضي الله  عنه  م ولكن أغريت بعثمان المهاجرين، وخذلت عنه الأنصار؛ فأطاعك الجاهل وقوي بك الضعيف، وقد أبى أهل الشام إلا قتالك حتى تدفع إليهم قتلة عثمان؛ فإن فعلت كانت شورى بين المسلمين، ولعمري، ما حجتك علي كحجتك على طلحة والزبير؛ لأنهما بايعاك ولم أبايعك، وما حجتك على أهل الشام كحجتك على أهل العرق؛ لأن أهل العراق أطاعوك ولم يطعك أهل الشام، وأما شرفك في الإسلام وقرابتك من رسول الله صلى الله عليه  وسلم وموضعك من قريش؛ فلست أدفعه”.

ولم تنجح المكاتبات في رأب الصدع وجمع الفريقين، واستمر الخلاف حتى وقع الصدام بين المعسكرين وحدثت الحروب.

وبعد أن لحق علي رضي الله  عنه   بجوار ربه، وتبعه بعد ذلك ولده الحسين رضي الله  عنه   وبعد أن رضي الحسن رضي الله  عنه   بالدخول في طاعة الأمويين، استطاع الأمويون أن يحكموا قبضتهم على الأمور؛ ومع ذلك: ظلت الثورات تقوم عليهم بين حين وحين في أماكن متعددة من البلاد، واستمر حكمهم قرنًا من الزمان تقريبًا، ظلت فيه الفتوحات الإسلامية نشيطة وظلت فيها الدولة قوية، على الرغم من مناوشات خصومها حتى استطاع العباسيون إسقاطها.

الملامح الرئيسية للعصر الأموي فيما يتعلق بالسياسة:

الملمح الأول:

هو تغيير نظام الحكم: ذلك أن نظام الحكومة صار ملكًا عضودًا وراثيًّا، يرث الخلافة الولد عن أبيه، بعد أن كان في أيام الخلفاء الراشدين يرجع فيه إلى الشورى وإلى رأي الأمة، ولم يكن ذلك مقبولًا ولا مرضيًّا عند كثير من المسلمين؛ ولهذا نشأت فرق وأحزاب، إن لم تكن ظاهرة في معارضتها ورفضها خشية العقاب؛ فإنها كانت تنكر ذلك الأمر لأنه غير مسبوق.

الملمح الثاني:

انتقال عاصمة الدولة الإسلامية إلى دمشق، بعد إن كانت عاصمتها المدينة المنورة، واكتسبت بذلك دمشق مكانة جديدة لم تكن لها من قبلك، وأصبحت كعبة الشعراء والأدباء والكتاب والعلماء.

الملمح الثالث:

ظهور العصبية القبلية: فقد أراد الأمويون أن يشغلوا الناس عن أنفسهم؛ فأغروا بعضَهم بعضًا بأن يتعصب كل لقبيلته، وأحيوا ما كان يمكن أن يكون قد مات من هذه العصبية أو أوشك أن يموت، وأعادوا الأسواق الأدبية إلى سيرتها الأولى، وجعل الناس يتنافسون ويتفاخرون ويتنافرون، ويذكر الشعراء محاسن قبائلهم ومساوئ القبائل التي كانت تنافسهم في الجاهلية، وظهر الصراع والتنافس بين المضرية واليمنية، وافترق كل فريق إلى شيع وأحزاب، واستباح القوم في سبيل إثارة هذه الروح كل شيء، وأصبح للعصبية القبلية دخْلٌ في تولي الخلفاء والأمراء وقادة الجيش مناصبهم.

الملمح الرابع:

ما قام به الأمويون من وسائل التقريب والإغراء:

فقد كان من سياستهم أنهم يتركون الناس يقولون ما يقولون، ويصطنعون العفو عنهم والصفح، وأحيانًا يصلونهم بالعطايا والأموال، ومن الكلام المأثور لمعاوية رضي الله  عنه   في ذلك: قوله لعمرو بن العاص رضي الله  عنه  : “لو كان بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت. قال عمرو: وكيف ذلك، يا أمير المؤمنين؟ قال: إن هم شدوا أرخيت؛ وإن هم أرخوا شددت”.

وكان يبذلون المال يريدون به قطع الألسنة ومنع الناس من انتقادهم، وكانوا يزيدون لمن يتوقعون منه خطرًا أكبر، وساقوا مالًا كثيرًا إلى أهل المدينة من المهاجرين والأنصار؛ حتى إنهم ضاعفوا عطاء خصومهم من آل البيت إلى مائتي ضعف عما كان يعطيهم عمر رضي الله  عنه   يريدون بذلك أن يسكنوا النفوس عنهم ويسكتوا الألسنة كذلك.

وكان من أثر هذا المال الكثير الذين أغدقوه على الناس -خاصة في المدينة- أن لان شبابها وفسدت غرائزهم، ووجد الطرب والشراب مجالًا واسعًا عندهم، وكان من رد الفعل على ظهور هذه الموجة من الخلاعة والمجون: أن ظهر التصوف والزهد.

كما اصطنع الأمويون من الشعراء أبواقًا لهم، يدافعون عنهم، ويهاجمون خصومهم، وأجزلوا لهم العطاء.

وبهذا يظهر الفرق الكبير بين الملامح التي شكلت حياة المسلمين في عهد رسول الله صلى الله عليه  وسلم وعهود خلفائه الراشدين من بعده، وهذه الحياة الجديدة التي استقبلها الناس في العهد الأموي.

وكان من الطبيعي -في هذه الظروف الجديدة- أن يكثر الفساد، وأن تُهدر كثير من الحرمات، وأن يكثر المجون، وأن يشيع النفاق، وأن يكثر الخلاف ويشتد بين المؤيدين والمعارضين.

وليستمر الأمويون في إحكام قبضتهم على المجتمع والدولة؛ كانوا يستخدمون على الناس ولاة قساة، لا يرقبون فيهم إلًّا ولا ذمة، يخضعونهم بالسيف إن لم يخضعوا بالمال.

ولكن التاريخ يذكر إنصافًا لدولة الأمويين: أنها أتمت سلسلة الفتوح الإسلامية؛ حتى وصلت جيوشهم إلى بلاد الأندلس غربًا وإلى أسوار القسطنطينية شمالًا، ولم يُفتتن بعض أمرائهم بمباهج الحياة وتقاليد البذخ التي رأوها في البلاد المفتوحة -كما حدث للعباسيين من بعدهم.

ولقد تركت هذه الملامح، وتلك السياسة، وهذه التقاليد؛ تركت كلها آثارها في الأدب في العصر الأموي.

error: النص محمي !!