كتاب (الفوائد المجموعة) للشوكاني
ترجمة الإمام الشوكاني:
هو الإمام محمد بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني ثم الصنعاني، نُسب إلى شوكان، وقيل: نسبة غير حقيقية؛ إذ إن شوكان قرية من قرى السحمية وهي إحدى قبائل خولان، بينها وبين صنعاء أقل من مسافة يوم، وهناك أماكن أخرى سميت بشوكان، هناك مكان بالبحرين سمي شوكان، وحصن باليمن، وبلدة بين سرخس وأبرج كلها تسمى شوكان. أجداد الشوكاني -رحمهم الله عاشوا بمكان يسمى عدن شوكان، بينها وبين شوكان جبل مستطيل يسمى هجرة شوكان، ومن هنا كان نسبه ونسب أهله إلى شوكان هذه.
ولد الشوكاني -رحمه الله تعالى- في يوم الاثنين في وسط نهار الثامن والعشرين من شهر ذي القعدة من عام ثلاثة وسبعين ومائة وألف للهجرة المباركة، وكان مولده بهجرة شوكان المكان الذي أشرنا إليه، ثم أتى إلى صنعاء وبها كانت نشأته، حيث تربى في حجر والده -رحمه الله- الذي عوّده على الطهارة والعفاف، وتفرغ لطلب العلم يقرأ كتب العلماء ومصنفات الفقهاء، ويسمع من العلماء في عصره.
بدأ -كما هو الشأن دائمًا- في طلاب العلم بحفظ القرآن الكريم، حفظه على جماعة من معلمي القرآن وكان ختامه للقرآن على يد الفقيه حسن بن عبد الله، ثم انتقل إلى تجويد القرآن الكريم بعد أن حفظه على مجموعة أيضًا من معلمي ومشايخ القرآن بصنعاء، ثم اتجه بعد ذلك إلى حفظ مجموعة من المتون، فحفظ (الأزهار) للإمام المهدي في الفقه، وحفظ (مختصر الفرائض) للعصيفري، و(الملحن) للحريري، و(الكافية) و(الشافية) لابن الحاجب، و(التهذيب) للتفتازاني، و(التلخيص في علوم البلاغة) للقزويني، و(الغاية) لابن الإمام إلى آخره، يعني: درس أو حفظ متونًا كثيرة، هو ترجم لنفسه أيضًا في (البدر الطالع).
منذ صغره وهو شغوف بقراءة العلم ومطالعة كتب التاريخ ومجاميع الأدب وحفظ المتون، كل هذا قبل أن يشرع في طلب العلم وسماع العلماء والتلقي من أفواه الرجال؛ وذلك لأن الله سبحانه وتعالى رزقه والدًا له صلة بالعلم فحبب إليه العلم.
إذا انتقلنا عن الكلام عن أستاذته فإن أول أستاذ له هو أبوه، وهو والده الإمام علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني، قرأ عليه شرح الأزهار، حفظ على يديه القرآن، تلقى مجموعة من المعارف الأولى على يد والده، ثم بعد ذلك أخذ عن مشايخ فأعاد قراءة شرح الأزهار بعد قراءته على العلامة عبد الرحمن بن قاسم المدائني، والعلامة أحمد بن عمرو الحداثي، والشيخ أحمد بن محمد الحرازي، وهذا الشيخ الشوكاني قد لازمهم ملازمة طويلة بلغت نحو ثلاث عشرة سنة، وتخرج عليه في الفقه، وقرأ عليه (شرح الأزهار) وحواشيه، وأيضًا هو يقرأ في الفروع، هكذا شرع في قراءة النحو فقرأه على العلامة إسماعيل بن الحسن بن أحمد الحسن الإمام القاسم بن محمد، وقرأ أيضًا قواعد الإعراب وشرحها للأزهري والحواشي كلها على العلامة عبد الله بن إسماعيل النهمي، وأيضًا (شرح السيد المفتى على الكافية) على العلامة القاسم بن يحيى الخولاني، وأكمله من أوله إلى آخره، وقرأ (شرح القبيصي على الكافية) وحواشيه على العلامة عبد الله بن إسماعيل النهمي، وقرأه مرة أخرى على شيخه العلامة القاسم بن يحيى الخولاني، و تأثر بهؤلاء المشايخ كثيرًا: القاسم بن يحيى الخولاني، والعلامة عبد الله بن إسماعيل النهمي، وقرأ عليهم أكثر من كتاب عدة مرات، وكان يقرأ الكتاب الواحد على كليهما.
قرأ في كل العلوم والمعارف، قرأ في (البحر الزخار) وحاشيته وتخريجه، سمع (صحيح مسلم) جميعه و(سنن الترمذي) جميعه على شيخه الإمام عبد القادر بن أحمد، قرأ عليه بعض (موطأ) مالك وبعض كتاب (الشفا) للقاضي عياض، وكذلك بعض (المنتقل) لابن تيمية، وسمع عليه بعض (فتح الباري) و(ألفية الزين العراقي) وشرحها له. إلى آخره. تنوع في العلوم وفي المعارف وفي المشايخ وكثر شيوخه بمقدار شغفه في طلب العلم، وتلقى كثيرًا من المعارف في التخصصات المختلفة.
ويذكرون له أكثر من خمسين شيخًا نحن نتوقف مع أهمهم أو الذي تأثر بهم كثيرًا: العلامة عبد القادر بن أحمد، والقاسم بن يحيى الخولاني، ويحيى بن محمد الحوتي والحسن بن إسماعيل المغربي، كثير من هؤلاء سمع عليهم أكثر من كتاب قرأه عليهم أكثر من مرة.
الإمام الشوكاني من ناحية المذهب الذي اختاره أخذ الفقه أولًا على مذهب الإمام زيد المذهب الزيدي، وصار بارعًا فيه ومن أعلامه الكبار حتى صار قدوة فيه، لكن هو لم يكتف عند حدود هذا المذهب بل وصل إلى درجة الاجتهاد، وهذه حقيقة والذي يطالع كتبه يرى فيه هذه النزعة الاجتهادية في (نيل الأوطار) وفي (السيل الجرار) وفي غيره من الكتب، لا يكتفي بنقل آراء العلماء إنما يرجح ويختار ويقبل ويردّ وكل ذلك بالأدلة، وهذه من سمات المجتهدين، لدرجة أن اجتهاده هذا فتح عليه بابًا من أبواب الخصومات مع كثير من المشايخ الذين لم يقبلوا هذا الاجتهاد واختلفوا معه في بعض الآراء، لكنه دائمًا كان منتصرًا للدليل ويقدّمه على كل الآراء، والمعول عنده على الدليل الصحيح المأخوذ من القرآن ومن السنة المطهرة.
لا ننس أن كلّ عالم يؤخذ من قوله ويرد، ليس معنى ذلك أن الصواب معه دائمًا، لم يقل أحد ذلك ولا يستطيع أحد أن يزعم هذا، لكن المراد أنه صاحب شخصية اجتهادية موفقة ولله الحمد والمنة.
إذا انتقلنا إلى أقوال العلماء في الثناء عليه، الإمام الشوكاني واحد من العلماء الكبار على مدار التاريخ الإسلامي كله، حتى نحن أبناء الأجيال التي جاءت بعده نستطيع أن نعرف قدره من المؤلفات التي تركها، ونحن جميعًا نفيد منها ونعول عليها ونرجع وهي من مصادر كل منا في التخصصات التي كتب فيها.
تلميذه العلامة حسين السبع الأنصاري اليماني يقول عنه: هو الإمام العلامة الرباني والسهيل الطالع من القطر اليماني، إمام الأئمة ومفتي الأمة، بحر العلوم وشمس الفهوم، سند المجتهدين الحفاظ فارس المعاني والألفاظ، فريد العصر نادرة الدهر، شيخ الإسلام قدوة الأنام، علامة الزمان ترجمان الحديث والقرآن، عام الزهاد أوحذ العباد، قامع المبتدعين آخر المجتهدين، رأس الموحدين تاج المتبعين، صاحب التصانيف التي لم يسبق إلى مثلها، قاضي قضاة أهل السنة والجماعة، شيخ الرواية والسماع، عالي الإسناد السابق في ميدان الاجتهاد على الأكابر والأمجاد، المطلع على حقائق الشريعة ومواردها العارف بغوامضها ومقاصدها.
فعلًا سند المجتهدين الحفاظ فارس المعاني والألفاظ، فريد العصر نادرة الدهر، شيخ الإسلام قدوة الأنام، خصوصًا أنهم يزعمون أن الإمام الشوكاني جاء في فترة العالم الإسلامي لم يكن فيها في ركب التقدم كما كان في العصور السالفة في عصر السلف الصالح، لكنه وصل إلى هذه الدرجة الكبيرة من العلم بإجماع من قرأ عليه أو قرأ وتتلمذ على كتبه، حتى وإن لم يكن من الذين تلقوا عنه بشكل مباشر، ففعلًا هو يتكلم عن الشريعة ومقاصدها ومواردها جمعًا موسوعًا.
ثم هو صاحب غيرة كبيرة على كتاب الله تبارك وتعالى وسنة النبي صلى الله عليه وسلم وكم نقلنا عنه أن الذي يرد حجية السنة لا حظ له في الإسلام، انتصر للسنة وحجيتها وأقام الأدلة من القرآن ومن السنة ومن الإجماع ومن الإيمان على ذلك، كل ذلك قام به الإمام الشوكاني -رحمه الله تبارك وتعالى وجعل ذلك في موازين حسناته. إذن هو عالم كبير كل الذين تتلمذوا عليه، سواء بشكل مباشر أو متأخر على كتبه يعرفون قدره ويعرفون منزلته العلمية.
ومن هنا فإننا ننتقل إلى مصنفاته وكثيرًا منها مطبوع بحمد الله تبارك وتعالى، عددها كبير جدًّا، هناك من أحصى مائة وهناك من أحصى مائتين، إسماعيل باشا البغدادي في (هدية العارفين) ذكر كتبًا كثيرة جدًّا تعبت في إحصائها، والذين ترجموا له في مقدمة كتاب (نيل الأوطار) الذين حققوه، وفي مقدمة (فتح القدير) اعتمد على ترجمته لنفسه، كتبه كثيرة جدًّا تناولت عدة موضوعات، في أحكام الفقه، وفي التفسير، وفي الحديث، نشير إلى بعضها مثلًا: (شرح الصدور في تحريم رفع القبور) مسألة فقهية، (تحفة الذاكرين شرح عدة الحصن الحصين) (شفاء العلل في حكم الزيادة في الثمن لمجرد الأجل) مسألة فقهية (إرشاد الثقات إلى اتفاق الشرائع على التوحيد والمعاد والنبوات) ألفه ردًّا على موسى بن ميمون الأندلسي الذي كان يظهر أنه يهودي وفي الحقيقة أنه زنديق (إرشاد الثقات إلى اتفاق الشرائع على التوحيد والمعاد والنبوات) يعتبر في العقيدة علم التوحيد، ويستدل في هذا الكتاب على أن الشرائع جميعًا قد التقت حول هذه الأركان: التوحيد، والمعاد، والنبوات.
(رسالة البغية في مسألة الرؤية) بيّن فيها مذهب أهل السنة في رؤية الله في الآخرة، ورد على أهل البدع في ذلك، أيضًا هذا يعتبر متصل بالعقيدة: (رسالة اختلاف العلماء في تقدير مدة النفاس) في الفقه (رسالة في الرد على القول بوجوب التحية) (القول الصادق في حكم الإمام الفاسق).
(رسالة في الحد الذي يجب معه قصر الصلاة في السفر) (تشنيف السمع بإبطال أدلة الجمع) يعني: جمع الصلاتين في الحضر (الرسالة المكملة في أداء البسملة) (رسالة في حكم الطلاق البدعي) (رسالة في أن الطلاق لا يتبع الطلاق) (رسالة في حكم رضاع الكبير) (القول المحرر في حكم لبس المعصفر وسائر أنواع الأحمر) (رسالة في إبطال دعوى الإجماع على تحريم السماع) (زهر النسرين في حديث المعمرين) هذا ممن عمروا كتب فيهم الرسالة خاصة، يعتبر هذا من علم الحديث.
(إتحاف المهرة في الكلام على حديث: لا عدوة ولا طيرة) (عقود الجمان في بيان حدود البلدان) كأنه يتكلم في الجغرافيا (رفع الجناح عن نافي المباح) (القول المقبول في رد خبر المجهول) من غير الصحابة في علم المصطلح (أمنية التشوق إلى معرفة حكم علم المنطق) (جواب السائل عن قول الله تعالى: { وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ} [يس: 39]) (إرشاد المستفيد إلى دفع كلام ابن القيم في الإطلاق والتقييد) إلى آخره.
(رسالة في قول المحدثين: رجال إسناده ثقات) بالإضافة إلى كثير في التفسير، عندنا مثلًا (فتح القدير في التفسير) وأظن يجمع بين الدراية وبين الرواية في التفسير، بين التفسير بالرأي والتفسير بالأثر، وهو من العُمد أو من المراجع الرئيسة في التفسير، أيضًا (إرشاد الفحول في الأصول) في الحديث كثير جدًّا، له كتاب نحن بصدده الآن سنتكلم عنه بإيجاز (الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة) وله (نيل الأوطار شرح ملتقى الأخبار) يعتبر جمع بين المدرسة الحديثية والفقه، أو الفقه من خلال السنة، ليس من خلال آراء المذاهب أو آراء العلماء، وله تراجم في الرجال (البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع) مترجمًا فيه لنفسه وهو يعتبر عمدة أيضًا في هذا الأمر بين العلماء، أمر مؤلفاته كثيرة جدًّا انتفع به القاصي والداني، ولا يزالون ينتفعون، فهذا من العلم الذي ينتفع به، الذي يستمر ثوابه لصاحبه بمقدار انتفاع الناس به منحة من الله رب العالمين.
أيضًا له تلاميذ كثيرون منهم ابنه العلامة علي بن محمد بن الشوكاني، وأيضًا له العلامة حسين السبعي الأنصاري اليماني ذلك الذي ترجم له، والعلامة محمد بن حسن الذماري، والعلامة عبد الحق بن فضل الهندي، والإمام الشريف محمد بن نصر الحازمي وغيرهم.
هو مدرسة لا يزال عطاؤها مستمرًّا وبسخاء وبكرم، بفضل الله عز وجل ثم بفضل ما وفق إليه من تآليف نافعة مفيدة جدًّا في شتى التخصصات التي أشرنا إلى بعضها مجرد إشارة، وكما قلت هي كثيرة جدًّا ومن أراد أن يرجع إلى المصادر فليرجع إلى المصادر مقدمة (نيل الأوطار) مقدمة (فتح القدير).
بعد حياة حافلة في طلب العلم انتقل إلى رحمة الله -تبارك تعالى- بإذن الله في ليلة الأربعاء السابع والعشرين من شهر جمادى الآخرة عام خمسين ومائتين وألف من هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم.
الكلام على (الفوائد المجموعة) للشوكاني:
نسبة الكتاب للشوكاني -رحمه الله-:
الشوكاني -رحمه الله- ألّف هذا الكتاب، وقد نسبه إليه مجموعة من العلماء: منهم إسماعيل باشا البغدادي في (هدية العارفين) وبالمناسبة في هذا الموطن ذكر له مؤلفات كثيرة جدًّا، وذكر من بينها (الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة) ونسبه إليه أيضًا الكتاني في (الرسالة المستطرفة لبيان مشهور كتب السنة المشرفة) حيث قال أثناء حديثه عن الكتب المؤلفة في الموضوعات قال: وكتاب (الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة) للقاضي أبي عبد الله محمد بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني ثم الصنعاني اليمني المتوفى بهجرة سنة خمسين أوخمس وخمسين ومائتين، هو ذكر هذين التاريخين خمسين أو خمس وخمسين، وأنا لم أقف على من ذكر سنة خمس وخمسين إلا الشيخ الكتاني -رحمه الله- في (الرسالة المستطرفة).
يقول عن الكتاب: إذن هو (الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة) للقاضي أبي عبد الله بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني ثم الصنعاني اليمني، المتوفى بهجرة سنة خمسين أو خمس وخمسين ومائتين وألف، لكنه أدرج فيه كثير من الأحاديث التي لم تبلغ درجة الوضع، بل وأحاديث صحاحًا وحسانًا، إلى آخر ما قال، يقول: نبه على ذلك عبد الحي لكنه في (ظفر الأماني) هذا كلام صاحب (الرسالة المستطرفة) وهو ينسب الكتابة إلى الإمام الشوكاني.
وهو أيضًا قد نسبه إلى نفسه فقال في مقدمة كتابه، بعد أن أشار إلى المؤلفات التي وضعت في الموضوعات قال: وها أنا بمعونة الله وتيسيره أجمع في هذا الكتاب جميع ما تضمنته هذه الكتب، أي التي ذكرها في الوضع والوضاعين.
أيضًا محقق الكتاب كتاب (الفوائد المجموعة) الشيخ عبد الرحمن اليماني -جزاه الله خيرًا- يقول في مقدمة التحقيق: أما بعد فإن حضرة المحسن الكريم الواقف نفسه طول عمره المبارك على إحياء علوم السنة النبوية والعناية بأهلها وكتبها وبذل كل مرتخص وغال في ذلك سبيل، وهو صاحب الفضيلة الشيخ محمد بن حسين نصيف -بارك الله في عمره وأحسن مثوبته- عهد إليّ بتحقيق كتاب (الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة) جمع الإمام المجتهد القاضي محمد بن علي الشوكاني -رحمه الله- بعد أن تحصل على نسخة مخطوطة نقلت وقوبلت على نسخة كتبت في حياة المؤلف بخط أحد تلامذته، مضافًا إلى ذلك النسخة المطبوعة. إذن الشيخ عبد الرحمن المعلمي اليماني وقف على نسخة للكتاب نقلت وقوبلت على نسخة كتبت في حياة المؤلف بخط أحد تلامذته، فهذا سند آخر للكتاب ولنسبته إلى الإمام القاضي الشوكاني -رحمه الله.
إذن تجمعت لدينا مجموعة أدلة تفيد كلها نسبة الكتاب إلى الإمام الكبير الشوكاني، اسم الكتاب هو (الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة) كل الذين تعرّضوا لذكر الكتاب أجمعوا على ذكر هذا الاسم، نحن نقلنا منذ قليل كلام الشيخ إسماعيل باشا البغدادي في (هدية العارفين) وأيضًا العلامة الكتاني في (الرسالة المستطرفة) والشيخ نفسه سماه أيضًا بذلك في كتابه. إذن كلهم ذكروا هذا الاسم لكتاب الشيخ الشوكاني وهو (الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة).
منهج الإمام الشوكاني في كتابه:
موارده في الكتاب: هي كل موارد الكتب الموضوعة وكتب الرجال جميعًا، ونحن حين ننتقل إلى الأمثلة التطبيقية سنقف على كثير من ذلك، لا يفلت منه كتاب في هذا الأمر أبدًا من القدماء ومن المحدثين بالنسبة لهم، يعني: رجع إلى (الموضوعات) لابن الجوزي والجوزقاني، رجع إلى ابن طاهر المقدسي، ورجع إلى كتب الرجال جميعًا كتاب ابن عدي وكتب الخطيب، وكتب الحاكم، وابن حبان، والعقيلي، بالإضافة إلى المتأخرين جميعًا كتب ابن حجر، وكتب الإمام الذهبي، وكتب الإمام السيوطي، كل ذلك قد رجع إليه وسنرى حين نعرض أمثلة أثر هذا التوسع جدًّا في أحكامه على الكتاب وفي نقله عن تلك الكتب. وهو أيضًا قد نصّ على موارده كما سنذكرها بعد قليل -إن شاء الله تعالى- ورجع إلى السخاوي في (المقاصد الحسنة) ورجع إلى الفتاني في (تذكرة الموضوعات) ورجع إلى الفيروزآبادي في (المختصر) يعني أكاد أقول لم يتفلت منه كتاب أبدًا يتعلق بهذا الموضوع.
هو يقول عن هذه الموارد وهو يتكلم في مقدمة كتابه ويحسن أن نقرأ المقدمة بسرعة؛ لأن فيها بعض العناصر التي سنتوقف معها، يقول:
الحمد لله رب العالمين وبه نستعين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين وآله الطاهرين وبعد: فلما كان تمييز الموضوع من الحديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجلّ الفنون وأعظم العلوم وأنبل الفوائد، من جهات يكثر تعدادها، ولو لم يكن منها إلا تنبيه المقصرين في علم السنة على ما هو مكذوب على رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- ليجتنبوه ويحذروا من العمل به، واعتقاد ما فيه، وإرشاد الناس إليه، كما وقع لكثير من المصنفين في الفقه، والمتصدرين للوعظ، والمشتغلين بالعبادة، والمتعرضين للتصنيف في الزهد، فيكون لمن بيّن لهؤلاء ما هو كذب من السنة يكون أجر من قام بالبيان الذي أوجبه الله مع ما في ذلك من تخليص عباد الله من معرّة العمل بالكذب، وأخذه على يد المتعرضين لما ليس من شأنهم من التأليف والاستدلال والقيل والقال.
يكاد هنا هو في هذه السطور يبين الدافع إلى هذا الكتاب، وهو أنه يصون السنة النبوية المطهرة من الكذب، وقال: قد وقع لكثير من المصنفين والمصدرين للوعظ والمشتغلين بالعبادة والمتعرضين لتصنيف الزهد، وهذه في الحقيقة مجالات يكثُر فيها عدم التدقيق في الأحاديث فيتسلل إليها الحديث الموضوع من غير أن يبين هؤلاء، لو لم يكن في هذا الكتاب أو في هذا العمل إلا هذا الأمر لكان له أجر من قام بالبيان الذي أوجبه الله تعالى، مع ما في ذلك من تخليص عباد الله من معرّة العمل بالكذب، نعم لا يجوز لأمة الإسلام أن تعمل بالمكذوب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأيضًا ليأخذوا العلم من أهله ومن أربابه ومن أصحاب التخصص فيه، كل هذه الدوافع جعلت الإمام الشوكاني يدلي بدلوه في هذا المضمار ويؤلف هذا الكتاب.
ثم انتقل إلى نقطة أخرى قال: وقد أكثر العلماء -رحمهم الله- من البيان للأحاديث الموضوعة، وهتكوا أستار الكذابين، ونفوا عن رسول صلى الله عليه وسلم وآله انتحال المبطلين وتحريف الغالين وافتراء المفترين وزور المزورين، وهم -رحمهم الله تعالى- قسمان:
قسم جعلوا مصنفاتهم مختصة بالرجال الكذابين والضعفاء، وما هو أعم من ذلك، وبينوا في تراجمهم ما رووه من موضوع أو ضعيف، كمصنف ابن حبان والعقيلي والأزدي في الضعفاء، وأفراد الدارقطني و”تاريخ” الخطيب والحاكم و”كامل” ابن عدي وميزان الذهبي، يعني: هذه مصنفات في الرجال وهم يترجمون للضعفاء تعرضوا لما رووه من أحاديث موضوعة وضعيفة، فصارت هذه الكتب من مصادر معرفة الحديث الموضوع أو الضعيف.
وقسم جعلوا مصنفاتهم مختصة بالأحاديث الموضوعة، كموضوعات ابن الجوزي والصاغاني والجوزقاني والقزويني، ومن ذلك (مقتصر المجد) صاحب (القاموس)، و(مقاصد السخاوي) و(تمييز الطيب من الخبيث) لابن الديبع، و(الذيل على الموضوعات) للسيوطي، وكذلك كتاب (الوجيز) له و(اللآلئ المصنوعة) له و(تخريج الإحياء) للعراقي و(التذكرة) لابن طاهر الفتني إلى آخره، كل ذلك الذي أشرنا إليه الآن من موارد الإمام الشوكاني في كتابه، سواء كتب الرجال التي أوردت الأحاديث الموضوعة أو الضعيفة أثناء تراجمها للرجال؛ لأنهم رووا تلك الأحاديث، أو الكتب التي عنيت عناية خاصة بالأحاديث الموضوعة على وجه الاقتصار على الأحاديث، مثل كتاب ابن الجوزي والجوزقاني، كل ذلك كما ذكرنا واضح جدًّا في كتاب (الفوائد المجموعة) للإمام الشوكاني -رحمه الله.
يقول بعد ذلك: وها أنا بمعونة الله وتيسيره أجمع في هذا الكتاب جميع ما تضمنته هذه المصنفات من الأحاديث الموضوعة، بدأ يقلل بعض عناصر المنهج التي سنقف معها بالتفصيل يقول: وقد أذكر ما لا يصحّ إطلاق اسم الموضوع عليه، بل غاية ما فيه أنه ضعيف، وقد يكون ضعيفًا ضعفًا خفيفًا، وقد يكون أعلى من ذلك، والحامل على ذكر ما كان هكذا التنبيه على أنه عدّ ذلك بعض مصنفين موضوعًا كابن الجوزي فإنه تساهل في موضوعاته حتى ذكر فيها ما هو صحيح فضلًا عن الحسن فضلًا عن الضعيف، وقد تعقبه السيوطي بما فيه كفاية “وقد أشرت إلى تعقباته تارة منسوبة إليه وتارة منسوبة إلى كتبه، واختصرتها اختصارًا لا يخلّ بالمراد، ودفعت ما يستحق الدفع منها وأهملت بما يتعلق به فائدة، وسميت هذا الكتاب (الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة).
فمن كان عنده كتاب الشوكاني فقد كان عنده جميع مصنفات المصنفين في الموضوعات، هو حقيقة لم يبالغ في هذا فمن كان عنده هذا الكتاب فقد كان عنده جميع مصنفات المصنفين في الموضوعات، مع زيادات وقفت عليها في كتب الجرح والتعديل وتراجم رجال الرواية وتخريجات المخرجين وتصنيفات المحققين إلى آخره.
هو أشار أيضًا إلى بعض عناصر المنهج يقول: وقد اقتصرت على قول حديث كذا فيما كان قد رفعه رافعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فإذا كان الواضع وضعه على صحابي أو من بعده اقتصرت على لفظ قول فلان كذا، ثم أذكر من روى ذلك الموضوع من المصنفين في الجرح والتعديل والتأريخ، فإن لم أجده في كتب المصنفين في المتون الموضوعة اقتصرت على عزوه إلى من أورده في مصنفه، وأسأل الله الإعانة على التمام وأن يجعله من الأعمال المبلغة إلى دار السلام، والموجبة للفوز بحسن الختام. ندعو الله للشيخ الشوكاني أن ينال هذا الأجر بإذن الله من وراء هذا الكتاب وغيره لما هو خدمة للسنة المطهرة.
تفاصيل منهج الشوكاني في كتابه:
هو بدأ كما ذكرنا بأن بيان العلماء للأحاديث الموضوعة على قسمين:
قسم ذكر ذلك في مصنفاته في الرجال، وهم يترجمون للرواة فيذكرون الأحاديث التي رويت عنهم ضعيفة أو موضوعة، وأيضًا كتب الموضوعات، يذكر ما لا يصح إطلاق اسم الموضوع عليه، بل غاية ما فيه أنه ضعيف، يعني: يذكر الموضوع ويذكر الضعيف، وقد يحكم -كما سنرى- بأنه حسن أو صحيح بناء على دراسته هو. الحامل الذي حمله على ذلك -كما ذكر هو- أنه ما ذكر في بعض المصنفات في الموضوعات على أنه موضوع ككتاب ابن الجوزي، نحن قرأنا كلماته منذ قليل يقول: وقد أذكر ما لا يصح إطلاقه اسم الموضوع عليه، بل غاية ما فيه أنه ضعيف، وقد يكون ضعيفًا ضعفًا خفيفًا، ضعيفًا بمرة، وقد يكون ضعفًا خفيفًا، وقد يكون أعلى من ذلك، والحامل على ذكر ما كان هكذا التنبيه على أنه قد عدّ ذلك بعض المصنفين موضوعًا كابن الجوزي فإنه تساهل في موضوعاته، إذن هو لا يقتصر في كتابه على ذكر الموضوع فقط، بل كل ما قيل فيه: إنه موضوع يذكره، ثم يبين إن كان فعلًا من الموضوعات أو حدث تساهل في نسبته بموضوع وهو يستحق أكثر من ذلك، إما أن يكون ضعيفًا ضعفًا شديدًا، إما أن يكون ضعيفًا ضعفًا محتملًا، وقد يرتقي إلى درجة حسن أو الصحيح على حسب ما أدى إليه اجتهاده ودراسته كما سنذكر في الأمثلة.
أيضًا سيشير إلى تعقيبات السيوطي على ابن الجوزي، قد ينسب هذا القول إلى السيوطي وقد ينسبه إلى مصنفات السيوطي، يقول قال في (اللآلئ) مثلًا أو قال في (الذيل) إلى آخره، هو يقول -ابن الجوزي-: وقد تعقبه السيوطي بما فيه كفاية، وقد أشرت إلى تعقباته تارة منسوبة إليه وتارة منسوبة إلى كتبه، واختصرته اختصارًا لا يخلّ بالمراد ودفعت ما يستحق الدفع منها، يعني: هو يذكر تعقيبات السيوطي على ابن الجوزي، يفصل في هذه التعقبات إما أن ينتصر لابن الجوزي أو ينتصر للسيوطي، وفي كثير من الأحيان لا يفصل في هذا التعقب، ولا يبين مع من الحق يقول: قال ابن الجوزي كذا، يذكر تعقب السيوطي ولا يفصل في هذا الأمر؛ ولذلك تعقبه الشيخ عبد الرحمن المعلمي اليماني في هذه النقطة فقال: ورأيته كثيرًا ما يورد الحديث، وأن ابن الجوزي ذكره في (الموضوعات) ثم يذكر أن صاحب (اللآلئ) وهو السيوطي تعقبه في ذلك، أو ذكر له طريقًا أخرى فصاعدًا، ولا يبيّن حال تلك الطرق، هكذا كلام الشيخ المعلمي عن الشوكاني، ولا يبين حال تلك الطرق، ولا يسوق أسانيدها، وعذره في ذلك قصده إلى الاختصار، وعدم توفر الكتب الكافية لاستيفاء البحث والتحقيق، وسيظهر ذلك من صنيعه في مواضع من الكتاب لعلي أنبه عليها في التعليق. هو يعتذر كما ذكرنا بالاختصار ويعتذر أيضًا بأنه قد لا يملك المراجع أو الكتب الكافية لاستيفاء البحث والتحقيق، الحقيقة العذر الثاني غير موجود؛ لأن الذي يطّلع على مصادر الإمام الشوكاني في كتابه -كما ذكرت في موارده- يكاد يقطع بأنه قد أحاط بكل الكتب الموضوعة في هذا الأمر، بل رجع إلى غير كتب الموضوعات من كتب العلماء في الشروح وغيرها، وله نُقول في هذا كثيرة مما يدل على أن العذر بأنه عدم توفر المراجع، لا أوافق على هذا في حدود تتبعه لجهده فيه، لكن على كل حال هو اعتذار من الشيخ المعلمي اليماني -جزاه الله خيرًا- لكن مع ذلك يعود فلا يقبل هذا الصنيع، ويقارن الشيخ عبد الرحمن المعلمي اليماني بين صنيع الشوكاني والسيوطي في ذلك فيقول: ومسلك صاحب (اللآلئ) قريب من هذا، أي بأنه يتعقب ولا يبين الدرجة، إلا أنه يسوق الأسانيد غالبًا، فيخف الإعواز أي: فتقل الحاجة إلى التعقب أو إلى التوضيح؛ لأن ذكر الأسانيد يهيأ لمن أراد يدرس يهيأ الوسيلة العلمية ليدرس ويبين قيمة هذه الكتب وهل يرتفع بها الحديث أو لا يرتفع، يقول الشيخ المعلمي اليماني: مسلك صاحب (اللآلئ) قريب من هذا، إلا أنه يسوق الأسانيد غالبًا فيخف الإعواز؛ إذ يتيسر لمن يعرف نقد الأسانيد أن يتبين الحال، وعلى كل حال ففي هذه الطريقة -يقصد طريقة الشوكاني في عدم الفصل أو في عدم توضيح- أن هذه الطرق قوت الحديث، يقول: وعلى كل حال ففي هذه الطريقة إعواز شديد إذا لا يدري أكثر المطالعين ما الذي تقتضيه تلك الطريق؟ أو الطرق الأخرى؟ أتوجب رد الحكم بالوضع أو لا، وقد تتبعت كثيرًا من الطرق، وفتشت عن تلك الأسانيد فوجدت كثيرًا منها أو أكثرها يكون ما ذكره السيوطي من الطرق ساقطًا لا يفيد الخبر شيئًا من القوة، هذا في كلام الشيخ اليماني في مقدمته لتحقيق كتاب (الفؤاد المجموعة).
إذن هذه النقطة الخاصة بالمنهج أن الشوكاني يشير إلى تعقبات السيوطي على ابن الجوزي، أحيانًا يفصل وهو قد ذكر ذلك فيقول كما نقلنا عنه من قبل: وقد تعقبه السيوطي بما فيه كفاية وقد أشرت إلى تعقبته تارة منسوبة إليه وتارة منسوبة إلى كتبه، واختصرتها اختصارًا لا يخل بالمراد، ودفعت ما يستحق الدفع منها، وأهملت ما لا يتعلق به فائدة، يعني هو يرد تعقبات السيوطي إن كان يرى أن الحق ليس معه، لكن كما قلنا إن لم يكن هذا ديدنه في كل عمله بل ترك كثيرًا لم يفصل فيه، وهذا ما انتقضه عليه الشيخ اليماني، وقال: إن هذه الطريقة فيها إعواز شديد -أي: عدم البيان- إذ لا يدري أكثر المطالعين ما الذي تقتضيه تلك الطريق أو الطرق الأخرى أتوجب رد الحكم بالوضع أو لا، يعني: هل يكفي أن نقول مثلًا: للحديث طرق أخرى أو طريق آخر، ونذكر هذا الطريق بدون أن نبين درجته، ماذا نفعل؟ هل هذا الطريق أو تلك الطرق توجب رد الحكم بالوضع أو لا ترده؟ إذن هذه طريقة لم تكن كافية، ويقول الشيخ اليماني: -يعني: هو بنفسه- قد تتبعت كثيرًا من الطرق وفشت عن تلك الأسانيد فوجدت كثيرًا منها أو أكثرها، يكون ما ذكره السيوطي من الطرق ساقطًا لا يفيد الخبرَ شيئًا من القوة.
رتب الشوكاني كتابه على الكتب الفقهية، لكنه لم يبدأ كما بدأ ابن الجوزي مثلًا، والسيوطي بكتاب التوحيد ثم الإيمان وهكذا؛ إنما بدأه بكتاب الطهارة بالكلام عن الأحاديث المتعلقة بالطهارة، وهو نفسه يقول ذلك في مقدمة كتابه الذي أشرنا إليه: وقد قدمت الأحاديث الموضوعة في مسائل فقه مبوبًا ذلك على الأبواب، ثم ذكرت بعد ذلك سائر الموضوعات. سنستعرض بعد ذلك بسرعة في نقطة لاحقة، ترتيبه لكتابه على الكتب والأبواب، نشير إلى أن من ملامح المنهج هنا: أنه رتبه على الكتب الفقهية؛ لكنه لم يبدأ بكتاب التوحيد والإيمان -كما فعل الإمام السيوطي- وإنما بدأ بكتاب الطهارة، وكان آخر الكتب عنده كتاب الصفات، ثم كتاب الإيمان، قبل الحديث عن أحاديث متفرقات في موضوعات متعددة، وختم كتابه بأحاديثه متفرقة في موضوعات لا تندرج تحت موضوع واحد؛ بل تتصل بموضوعات متعددة، وسنضرب لها أمثلة، لكن نتكلم عن ترتيب الكتاب الآن:
هو يقول في المقدمة، وقد ذكر أنه قسم الكتب إلى أبواب: وقد قدمت الأحاديث مضافة في مسائل الفقه، مبوبًا ذلك على الأبواب، ثم ذكرت بعد ذلك سائر الموضوعات، هو ربما يقصد بالأبواب هنا: أسماء الكتب الأمر في هذا يسير؛ كتاب الطهارة، ثم كتاب الصلاة. لا يوجد كتاب عنده قسم إلى أبواب إلا كتاب المناقب؛ فقد وضع تحته أبواب: الفضائل والمناقب: في فضل العلم، وما ورد فيه مما لم يصح، ثم في فضائل القرآن، ثم في فضائل النبي صلى الله عليه وسلم ثم مناقب الخلفاء الأربعة، إلى آخره، ذكر ذلك، وفي كتاب الصلاة: ذكر أبواب صلاة الجماعة؛ لكنه في الأعم الأغلب كأنه يقصد بها كتابًا، وليس بابًا. إذن هو قسم كتابه إلى كتب، ولم يضع تحتها أبوابًا إلا في كتاب المناقب، لم يفعل كما فعل السيوطي أيضًا، وابن الجوزي في هذه المسألة؛ إنما فعل ما فعل الشيخ ابن عرَّاق، في (تنزيه الشرعية المرفوعة) يذكر الكتاب ولا يضع تحته أبوابا، إلا في كتاب المناقب، كما أشرنا.
أيضًا من ملامح منهجه أنه لا يذكر إسنادًا للحديث، كما فعل ابن الجوزي والسيوطي -رحمه الله- فلم يذكر إسنادًا لنفسه، وقد يكون هو من المتأخرين ولا إسناد له، أو له إسناد يطول جدًّا، فهو لم يذكر إسناد السيوطي. وقد يقال أيضا: لم يذكر إسناد ابن الجوزي، ولا إسناد السيوطي، ولا حتى يذكر إسناد صاحب الكتاب الذي نقل منه. هو ينقل من الكتب لا يذكر الإسناد، إذن قضية الإسناد عنده لا يذكرها، هو ينقل من (الكامل) ومن (المجروحين) ومن كتاب (الأباطيل) وغيرها من الكتب التي ذكرت الحديث بإسناد، وينقل من كثير من كتب الخطيب وغيرها، ومن كتب الحاكم والدارقطني، إلى آخره. وكل ذلك واضح في كتابه؛ لكنه لا يسوق إسنادًا.
من ملامح المنهج أيضًا: يعزو إلى المصدر الذي نقل منه، أو عزا إليه فقط، لا يتوسع في ذكر المصادر؛ إنما يبين المصدر الذي ذكر منه، أو الذي عزا إليه، ثم يبين موطن العلة في الحديث، ثم يحكم على الحديث، مثلًا أول حديث في الكتاب: “لا بأس ببول الحمار، وكل ما أكل لحمه” قال: رواه الخطيب في تاريخه عن علي رضي الله عنه مرفوعًا. إذن هنا ذكر المصدر الذي ذكره وهو الخطيب في تاريخه تحديدًا، الصحابي علي، ورفعه للنبي صلى الله عليه وسلم وفي إسناده مجهولان، انتقل إلى علة الحديث وهو أنه موضوع، حكم عليه بالوضع، والمتهم بوضعه إسحاق بن محمد بن أبان النخعي، هو هنا بقوله: حديث لا بأس به؛ هذا لأن القول هنا مرفوع للنبي صلى الله عليه وسلم فبدأه بقوله: حديث، لم يذكر إسنادًا -كما ذكرنا- عزاه إلى المصدر الذي أخذ منه (تاريخ الخطيب) ذكر الصحابي، وهو علي رضي الله عنه ثم بين أنه ورد مرفوعًا، ثم بين العلة، فقال: في إسناده مجهولان، ثم بين حكمه على الحديث، قال: هو موضوع، وبين أن المتهم بوضعه هو إسحاق بن محمد بن أبان النخعي. محمد بن إسحاق النخعي هذا الأحمر، الذي ذكره له ترجمة طويلة في (الميزان) ذكرها صاحب (الميزان) ترجمة رقم 784 ومما قاله الذهبي -رحمه الله- في شأنه: إسحاق بن محمد النخعي الأحمر، كذاب مارق من الغلاة. قال الخطيب: سمعت عبد الواحد بن علي الأسدي يقول: إسحاق بن محمد النخعي كان خبيث المذهب. يعقب الذهبي فيقول: قلت، أي: الذهبي: ولم يذكره في الضعفاء أئمة الجرح في كتبهم، وأحسنوا؛ فإن هذا زنديق. وذكره ابن الجوزي وقال: كان كذابًا من الغلاة في الرفض، يعقب الذهبي، مرة ثانية على كلام ابن الجوزي فيقول: قلت: حاشا عتاة الرفض أن يقولوا: علي هو الله؛ فمن وصل إلى هذا، فهو كافر لعين من إخوان النصارى، وهذه هي نحلة النصيرية، هذا كلام الذهبي، بعض الكلام أثناء ترجمته لإسحاق بن محمد بن أبان النخعي، الذي أشار الشوكاني إلى أنه موطن العلة في الحديث الأول الذي ذكره في كتابه.
من ملامح المنهج أيضًا: أنه أحيانًا يشر إلى الطرق الأخرى للحديث، من غير أن يذكر أسانيدها، خصوصًا حينما ينقل تعقبات السيوطي على ابن الجوزي؛ فيشير إلى الطرق التي ذكرها السيوطي؛ لكنه لا يحكم عليه أحيانًا، ولا يبين درجة هذه الطرق، بحيث لا ندري في هذا الأمر هل بهذه الطرق يخرج الحديث عن كونه موضوعًا أو لا؟ وقد أشرنا إلى تعقب الشيخ عبد الرحمن معلمي اليماني عليه في ذلك، وأخذه عليه هذا الملحظ، وأيضًا قلنا: في كثير من الأحيان يتعقب وهو قد أشار إلى ذلك في منهجه وملامحه في كتابه. أيضًا في آخر الكتاب مجموعة من البحوث الطيبة: بحث فيمن ادعى الصحبة كذبًا، وبحث في النسخ الموضوعة، وفي ذكر الوضاعين، وسنذكر بإذن الله تبارك وتعالى لها أمثلة إن شاء الله تبارك وتعالى.
نضرب بعض الأمثلة من تعقباته: هذا الحديث رقم 9 في كتاب الحج، من ملامح منهجه العبارات التي يسوقها في حكمه على الأحاديث، أو على الرواة “من طاف بالكعبة في يوم مطير، كان له بكل قطرة تصبه حسنة، ويمحى عنه بالأخرى سيئة” وكذا حديث “من طاف أسبوعًا خاليًا كان كعتق رقبة” يقول: ولا عبرة بكون مثل هذه الأحاديث في الإحياء؛ فهو لا يميز بين الصحيح والموضوع. عبارة شديدة يقولها في حق الغزالي في كتاب الإحياء. أيضًا عند حديث “إن امرأتي لا ترد يد لامس؛ قال: طلقها” ذكر أقوال العلماء في وضعه أو صحته وقال، عقب ذلك: وبالجملة فإدخال مثل هذا الحديث في الموضوعات مجازافة ظاهرة، يعني: هو لم يرض القول بوضعه، واعتبر ذلك مجازفة ظاهرة، وننظر إلى العبارة التي استعملها، بالإضافة إلى ما ذكرناه.
أيضًا حديث رقم 4 في كتابه المعاملات يقول: “إنه غلا السعر في المدينة، فذهب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، غلا السعر؛ فسعر” إلى آخر الحديث، يقول: حكم ابن الجوزي بكونه موضوعًا من حديث علي، لا ينافي ثبوته من حديث غيره، كما هو معروف من اصطلاح أهل الفن، إذن هو يشير إلى مصطلحات أهل الفن في هذا، وهو إذا كان للحديث إسناد ضعيف، أو هالك، أو كذا؛ هذا لا ينافي ثبوت الحديث من طرق أخرى قد تكون صحيحة. يقول ذلك بعد أن علق بذكر آراء العلماء في هذا.
ترتيب الشوكاني لكتابه:
كتاب الطهارة، كتاب الصلاة، كتاب صلاة الجماعة، وإن كان وضعه تحت عنوان: باب صلاة الجماعة، ثم ذكر باب التطوع، وقسمه إلى أنواع:
النوع الأول: قيام الليل.
النوع الثاني: صلاة الضحى.
ثم الثالث: في صلاة التسابيح.
ثم الرابع: في صلاة الحاجة.
ثم الخامس: في صلاة الحفظ.
ثم السادس: في صلاة سماها صلاة الفرقان، فيها آيات تقرأ في سورة الفرقان.
ثم السابع: صلاة مقيدة بأيام الأسبوع ولياليه.
ثم الثامن: صلاة مقيدة بأيام الشهور وبأيام وليال منها.
التاسع: صلاة التوبة.
ثم العاشر: عند دخول البيت.
ثم الحادي عشر: صلاة الإشراق والرواتب والوتر.
الثاني عشرة: صلاة رؤية النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم الثالث عشرة: صلاة قضاء الدين، وحفظ النفس والمال والولد.
هذا تقسيم تحت الصلاة باب التطوع وقسمه إلى أنواع وليس إلا أبواب، وكل ذلك في كتاب الصلاة، ثم انتقل إلى كتاب صدقة الفرد والتطوع والهدية والقدر والضيافة، وجمع كل ذلك في كتاب واحد، ثم كتاب الصيام، ثم كتاب الحج، ثم كتاب النكاح، ثم الطلاق، ثم المعاملات، ثم كتاب الأطعمة والأشربة، ثم كتاب الباس والتختم، ثم باب الخضاب والطيب وقص الظفر والشارب وتسريح الشعر والختان، كل ذلك داخل في اللباس، ثم كتاب القضاء، ثم كتاب الحدود، ثم كتاب الجهاد، وما ورد في الأئمة والظلمة، ثم كتاب الأدب والزهد والطب وعيادة المريض، ثم كتاب الفضائل: وهو الذي ظهر فيه التقسيم إلى الأبواب بوضوح وبجلاء، بدأه بباب: فضائل العلم وما ورد فيه مما لم يصح، ثم انتقل إلى باب فضائل القرآن، ثم فضائل النبي صلى الله عليه وسلم ثم مناقب الخلفاء الأربعة، وأهل البيت، وسائر الصحابة؛ عمومًا وخصوصًا، ذكر عمر وعثمان وعلي، والخلفاء الأربعة، وذكر فاطمة، وذكر إبراهيم، وذكر عائشة، وعمار، وغيرها. وعبد الرحمن بن عوف، والعباس، ومعاوية، ثم انتقل إلى عدة مباحث دراسية بعد ذلك، بعد كتاب المناقب، منها: بحث فيمن ادعى الصحبة كذبًا، ثم بحث آخر في النسخ الموضوعة، ثم بحث في ذكر الوضاعين المشهورين المكثرين من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم عاد إلى كتاب الفضائل، فتكلم عن فضائل الأمكنة والأزمنة، ثم أحاديث الأدعية والعبادات في الشهور، ثم ختم بكتاب الصفات، ثم كتاب الإيمان، ثم خاتمة في ذكر أحاديث متفرقة لا تختص بباب معين. هذه هي الكتب التي رتب عليها الشيخ الشوكاني كتابه (الفوائد المجموعة).
أحصيت أحاديث كتاب (الفوائد المجموعة) فوجدتها وصلت إلى 1462 حديثًا، ذكرها الإمام الشوكاني في كتابه في الموضوعات المتعلقة.
نذكر بعض تعليقات الشيخ اليماني في مقدمة كتابه، يقول: لما نظرت في الكتاب وجدت جامعه -رحمه الله- قصد كما تنبأ عنه مقدمته إلى جمع الأحاديث التي نص بعض أهل العلم أنها موضوعة، مبوبة على سبيل الاختصار، مع تنبيهات، هذا كلام الشيخ اليماني يضاف إلى معالم المنهج، منها ما هو مأخوذ عن بعض الكتب التي أخذ منها وقبول لقول مؤلفيها أو من نقلوها عنه يأخذها ويقبلها، ومنها ما هو مبني على بعض القواعد الأصولية. وزاد في باب فضائل البلدان أحاديث يوردها بعض مؤرخي اليمن؛ فبين أنه لا أصل لها؛ إذن هو يحكم بالوضع على بعض الأحاديث، بناءً على القواعد الأصولية؛ إما ينقل عن كتب، أو بناء على بعض القواعد الأصولية، ورأيته كثيرًا ما يورد الحديث، وأن ابن الجوزي ذكره في الموضوعات، ثم يذكر أن صاحب (اللآلئ المصنوعة) وهو السيوطي، تعقبه في ذلك، أو ذكر له طريقًا أخرى فصاعدا، ولا يبين حال تلك الطرق، ولا يسوق أسانيدها، وعذره في ذلك، قصده إلى الاختصار، وعدم توفر الكتب الكافية لاستيفاء البحث والتحقيق. وسيظهر ذلك من صنيعه في مواضع من الكتاب، لعلي أنبه عليها في التعليق، وقد أشرنا إلى ذلك في كلام المعلمي اليماني، وأنه لم يرتض هذا المسلك. يقول بعد تعليقه على أنه لم يرتض منهج الشيخ الشوكاني في عدم الفصل أحيانًا والاكتفاء بصد الطرق، بدون أن يبين درجتها: ومنها ما غايته أن يقتضي التوقف عن الجزم بالوضع، فأما ما يفيد الحسن أو الصحة فقليل. هو يعقب على هذا الأمر يقول: إن كثيرًا من الطرق، أو التعقبات التي أوردها السيوطي غاية ما فيها: أنها تقتضي التوقف عن الجزم بالوضع، أما أن ترتقي بالحديث إلى الصحة أو الحسن فقليل. وكما ذكرت الشيخ المعلمي اليماني له تعليقات طيبة جدًّا على كثير من الأحاديث، إذن كتاب الشيخ الشوكاني يحتوي على 17 كتابًا غير متفرقات وأحايثه: 4260 وهو بذلك يقل عن كتاب ابن الجوزي، وعن كتاب السيوطي أو عن كتب السيوطي قليلًا.
أمثلة تطبيقية لكتاب الشوكاني:
الآن بعد كل هذا التطواف والدراسة لملامح المنهج ننتقل إلى أمثلة تطبيقية لكتاب الشوكاني، مع وقوف عند بعض المسائل حينما يقتضى المقام ذلك -بإذن الله تعالى- مثلًا في أول كتاب الطهارة، نحن ذكرنا في أول الحديث “لا بأس ببول الحمار” رواه الخطيب في تاريخه، عن علي مرفوعًا، وفي إسناده مجهولان، وهو موضوع، والمتهم بوضعه إسحاق بن محمد بن أبان النخعي، وقد وقفنا مع هذا الحديث ونحن نتكلم عن ملامح المنهج.
يقول، الحديث الثاني: “الدم مقدار الدرهم يغسل وتعاد منه الصلاة” رواه الخطيب أيضًا، ذكر المصدر وإن كان لم يذكر أين رواه الخطيب، رواه الخطيب من حديث أبو هريرة مرفوعًا، وهو موضوع، ذكر المصدر والصحابي وقال: هو موضوع، والمتهم به نوح بن أبي مريم، هنا لم يذكر طرقًا ولا أسانيد كما ذكرنا ويبدأ بكلمة حديث.
ماء البحر لا يجزئ، قول ابن عمرو. هذا قول، إذن لم يبدأه بكلمة حديث؛ إنما قال: قول ابن عمرو: ماء البحر لا يجزئ من جانبه ولا يتوضأ منه؛ لأن تحت البحر نارًا وتحت النار بحرًا، حتى عد سبعة أبحر، وسبع نيار. قال الجوزقاني -ينقل عن الجوزقاني- هنا: باطل تفرد به محمد بن مهاجر وكان يضع الحديث. واستدركه السيوطي بأنه أخرجه ابن أبي شيبه في مصنفه عنه بإسناد ليس فيه محمد بن مهاجر، وأخرجه أيضًا البيهقي بإسناد ليس فيه مذكور، وأخرجه الديلمي عنه موقوفًا، هذا مثال لما ذكره من استدراكات السيوطي، ذكر فيه الطرق، ولم يذكر درجتها، السيوطي هنا استدرك بأنه أخرج بن أبي شيبة في مصنفه من غير طريق محمد بن هاجر هذا الذي اتهم بالوضع، وكذلك أخرجه البيهقي بإسناد ليس فيه مذكور، يعلق الشيخ جمال فيقول: الخبر على كل حال موقوف، يعني: الخطب فيه يسير، فهو ليس حديثًا مرفوعًا وسنده عن ابن عمرو لا بأس به. نقل قول أبي هريرة بعد ذلك: “ماءان لا يجزيان من غسل الجنابة: ماء البحر، وماء الحما” قال الجوزقاني: باطل تفرد به محمد بن مهاجر أيضًا، وكان يضع الحديث، أيضًا استدركه السيوطي بأنه أخرجه بن أبي شيبة في مصنفه، بإسناد ليس فيه محمد بن مهاجر، وأيضًا أخرجه عبد الرازق من قول عبد الله بن عمرو بن العاص. هذه أمثلة للاستدراكات التي لا يبين فيها حكم الاستدراك هذا أو الطرق، لكنه يمر عليها مرور الكرام، ولا ندري هل يقبل ذلك أو لا يقبله.
أيضًا ينقل كثيرًا يقول مثلًا: “غسل الإناء، وطهر الفناء يورثان الغنى” رواه الخطيب، عن أنس مرفوعًا، وقال الذهبي في (الميزان) إشارة إلى مصادره: وضعه علي بن محمد الزهري -يشير إلى الوضاع والمصدر: الزهري- رواه -الذي بعده-: “استقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل، فناوله يده، فأبى… إلى آخره”. يقول: رواه العقيلي عن الزبير مرفوعًا، وقال: موضوع وفي إسناده عمر بن أبي عمر العبدي متروك. هنا يذكر أن العقيلي، أنا قلت في أثناء الكلام عن الموارد، لا يكاد يترك كتابًا من كتب الرجال، أو من الكتب التي عنيت بالموضوع، إلا ورجع إليه، هذا العقيلي في الضعفاء. الحديث الذي بعده “من صافح يهوديًّا أونصرانيَّا فليتوضأ وليغسل يده” قال: رواه ابن عدي، عن ابن عباس رضي الله عنه مرفوعًا، وقال: لا يصح، وفي إسناده إبراهيم بن هانئ: مجهول يحدث بالأباطيل، نقل عن ابن عدي.
حديث “أسخنت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ماءً في الشمس فقال: لا تفعلي يا حميراء فإنه يورث البصر” رواه أبو نعيم في الطب، عن عائشة مرفوعًا وقال: في إسناده خالد بن إسماعيل لا يحتج به، وقال الدار قطني: متروك، ورواه الدار قطني من طريق أخرى، فقال: هيثم بن عدي كذاب وأخرجه ابن حبان من طريق فيه وهب بن منبه، وهو كذاب، وله طرق لا تخلو من كذاب أو مجهول، هو هنا أشار إلى بعض الطرق، وحكم على كل الطرق وفي النهاية قال: وله طرق لا تخلو من كذاب أو مجهول، وهو على نفس الذي حددناه من ملامح منهجه، لا يذكر إسنادًا، ولا يتتبع طرقا إلا عندما يشير إلى التعقبات عليه، وأحيانًا لا يفصل، وأيضًا يذكر كثيرًا من المصادر كما ذكرنا، يعني: لا يتفلت منه مصدر بدون أن يرجع إليه، وأيضًا من كتب الرجال.
حديث: “لا تنجس الأرض من بول إلا بعد أربعين يومًا” قال السيوطي في الذيل: فيه داود الوضاع. حديث: “حبذا السواك؛ يزيد الرجل فصاحة” قال الصغاني: وضعه ظاهر.
وأيضًا في الأحاديث التي بعده حديث: “صلاة بسواك خير من صلاة بغير سواك” قال ابن معين: باطل، وقال البيهقي: له طرق وشواهد متعاضدة، هنا ذكر قول ابن معين، ليس قول ابن الجوزي والسيوطي فقط، وقال البيهقي: له طرق شواهد متعاضدة، لكنه لم يبينها، ولم يبين درجتها، وذكرها على الإجمال، وهذا أيضًا من المواطن التي لم يفصل فيها.
حديث: “كان النبي صلى الله عليه وسلم يستاك عرضا، ويشرب مصًّا”. قال الفيروز آبادي في (المختصر): ضعيف، انظر إلى سعة الرجوع للمصادر.
أحيانا لا يذكر العلة في الإسناد؛ إنما يبين أن فيه علل في الإسناد فقط، بدون أن يذكر أسماء بذاتها من ذلك مثلًا: “من أفرد الإقامة فليس منا” رواه الجوزقاني، عن ابن عباس، مرفوعًا، وهو موضوع، ورجاله بين مجهول ومجروح، هنا كلام مجمل: ورجاله بين مجهول ومجروح.
حديث: “أذن بلال لرسول الله صلى الله عليه وسلم مثنى مثنى، وأقام مثل ذلك” قال ابن حبان: باطل، وزياد بن عبد الله البكائي فاحش الخطأ، وقال السيوطي: هو ثقة، روى له الشيخان؛ لكن عد هذا الحديث من مناكيره، هو هنا نقل عن ابن حبان، وبين القول في زيادة ابن عبد الله البكائي، وإن كان الزياد هذا يحتاج إلى دراسة يحتاج فيها تفصيل، والرجل قد قبله كثير من العلماء، وله روايات في مسلم، ربما في المتابعات والشواهد إلى آخره. “اجعل بين أذانك وإقامتك قدر ما يفرغ الآكل من أكله… إلى آخره” رواه في المصابيح وضعفه، وقال القزويني: هو موضوع، وصدره ليس بموضوع، يعني: يحكم على صدر الحديث بأنه ليس بموضوع.
أيضًا ابن حجر في تلخيص الحديث تكلم عن هذا إلى آخره.
أحيانًا يطول نفسه بعض الشيء: حديث: “خذوا زينة الصلاة قالوا: وما زينة الصلاة؟ قال: البسوا نعالكم وصلوا فيها” رواه ابن عدي، عن أبي هريرة، مرفوعًا وفي إسناده محمد بن الفضل كذاب، وقد رواه أبو الشيخ من طريق أخرى، وعلق الشيخ جمال فقال: في سندها ضعف، ورواه العقيلي من طريق عباد بن جويرية وهو كذاب، ورواه الخطيب وابن مردويه من غير طريق هذين الكذابين، وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة الثابتة عن أكثر من ثلاثين صحابيًّا في الصلاة في النعال ما لا يحتاج معه إلى أحاديث الكذابين. هنا تعقيب يستدرك فيه أنه حديث صحيح من طرق صحيحة لا نحتاج معها إلى حديث الكذابين فيكفينا طرقه الصحيحة.
إذا انتقلنا إلى كتاب الصيام نجد حديث “من وسع على عياله يوم عاشوراء وسع الله عليه سائر سنته” قال: رواه الطبراني، عن أنس مرفوعًا، وفي إسناده مجهول، ورواه العقيلي، عن أبي هريرة، وقال: سليمان بن أبي عبد الله مجهول، وحديثه غير محفوظ، وقال في اللآلئ: قال الحافظ، أبو الفضل العراقي في أماليه: قد ورد من حديث أبي هريرة، من طرق صحح بعضها أبو الفضل ابن نصر، وتعقبه ابن الجوزي في الموضوعات، وابن تيمية في فتوى له؛ فحكم بوضع الحديث من تلك الطريق، قال: والحق ما قاله، وسليمان المذكور ذكره ابن حبان في الثقات، والحديث حسن على رأيه.
وقد روي من حديث أبي سعيد، عند البيهقي، في الشعب، وابن عمر عن الدارقطني في الإفراد، كل هذه ذكر بعض الطرق لم يذكرها السيوطي، وتعقبها الشيخ اليماني في حكمه على الحديث، قال: وقد أطال الكلام عليه في اللآلئ بما يفيد أن طرقه يقوي بعضها بعضا، هنا لم يتعقب السيوطي؛ إنما أشار فقط أنه قد أطال الكلام عليه في اللآلئ، مما يفيد أن طرقه يقوي بعضها بعضًا. عقب الشيخ اليماني قال: بل يوهن بعضها بعضًا. هذا من المواطن التي لم نعرف رأيه فيها، ترك التعقيب، ولا ندري هل نقول: هذا الترك يعني: أنه موافق على كلام السيوطي، أو لا نستطيع أن نحمله ذلك. نسكت عن ذلك؛ لأن هذا المواطن التي تعقب فيه الشيخ المعلمي اليماني، حيث بين أن هذا الترك لم نستفد منه شيئًا.
إذا انتقلنا إلى كتاب الحج حديث: “من ملك زادًا وراحلة تبلغه إلى بيت الله ولم يحج؛ فلا عليه أن يموت يهوديًّا أو نصرانيًّا” رواه الترمذي، عن علي رضي الله عنه مرفوعًا، ورواه ابن عدي من حديث أبي هريرة، ورواه أبو يعلى من حديث أبي أمامة، ووفي إسناد الترمذي: هلال بن عبد الله مولى ربيعة بن عمرو، والحارث الأعور، قال الترمذي: الأول مجهول، الثاني: كذاب، وقوله: الثاني كذاب ليس من قول الترمذي، هي حكاية لقول ابن الجوزي، حكاية له في كلامه، إنما الكلام هنا يشعر كأن الترمذي هو الذي حكم الاثنين معًا، وفي إسناد ابن عدي: عبد الرحمن قطامي، وأبو مهزم، وهما متروكان، وفي إسناد أبي يعلى: عمار بن مطر، والمغيرة بن عبد الرحمن، متروكان أيضا. وقد حكم ابن الجوزي على هذا المتن بالوضع، ودفعه ابن حجر في التلخيص بما هو معروف.
إذن هنا لم يفصل في المسألة، وأشار إلى طرق وأنها معلولة، وابن حجر في تلخيصه أفاد أن أسانيد الخبر كلها واهية، لكنه روي بطريق صحيح من قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه وليس حديث مرفوعا للنبي صلى الله عليه وسلم والله أعلم.
وفي كتاب الأدب، والزهد، والطب، وعيادة المريض، نجد الشوكاني قد جمعها كلها في كتاب واحد مع أنها عند غيره في ثلاثة كتب -على الأقل-: كتاب الأدب، كتاب الزهد، كتاب الطب، وإن كان هناك أيضًا من جمع بين الأدب والزهد.
نضرب بعض الأمثلة لصنيعه: “الرؤيا على رجل طائر ما لم تُعَبَّر، فإذا عبرت وقعت” ذكره في (المقاصد) وقد أخرجه الترمذي، وصححه؛ فلا وجه لذكره في كتاب (الموضوعات) كما فعل ابن طاهر، هنا يتعقب غير ابن الجوزي، ويتعقب غير السيوطي، ويقول: إن الترمذي قد أخرجه وصححه، لكنه أيضًا لم يبين درجة حكم الترمذي، وهو معروف بالتساهل، لكنه قال لا وجه لذكره في كتاب (الموضوعات) كما فعل ابن الجوزي.
أيضا حديث: “ما حسن الله خَلق رجل وخُلقه، أو خُلق رجل وخَلُقه فأطعم لحمه النار” في إسناده عاصم بن علي، قيل: ليس بشيء، ورد بأنه أخرج له البخاري ووثقه الناس، ويقول: وروي من حديث أبي هريرة، وأنس، وفي إسنادهما مقال، يعقب يقول: الشوكاني، الحديث إذا لم يكن حسنًا فهو ضعيف، وليس بموضوع.
يعقب الشيخ اليماني: المدار على المعنى، هل من حسن خُلقه، وخَلقه حرم على النار؟ لو تصورنا مثلًا أن واحدا حسن الخلق بالمعنى الدارج عًند الناس يعني: مؤدبا مثلًا، وكذا، لكنه لا يصلي، ولا يصوم، وإن كنا من الممكن أن ندرج هذه الأمور في الخلق، لكن لو تصورنا -وهذا المعنى السائد عند كثير من الناس- أن بعض حسني الخلق لا يهتم بعض الناس بجوانبه الأخرى في معاملات الصلاة، والعبادة، والتوحيد، وما إلى ذلك؛ فهل كل من كان حسن الخُلق، والخَلق حرم على النار؟، وهل يلتقي هذا المعنى مع القواعد الشرعية؟ لم يعقب، وعلق: فإذا لم يكن حسنًا فهو ضعيف، وليس بموضوع.
حديث “من أتى منزله فقرأ الحمد لله، وقل هو الله أحد؛ نفى الله عنه الفقر، وكثر خير بيته حتى يفيض على جيرانه” رواه الدارقطني عن أبي هريرة مرفوعًا، قيل: لا يصح، تفرد به محمد بن سالم، وليس بشيء، قال في (اللآلئ): هو من رجال الترمذي، ولم يتهم بوضع، وللحديث شاهد رواه البيهقي في (الشعب) عن ابن عباس.
نختار بعض الأمور التي لم يفصل فيها: ما معنى أنه من رجال الترمذي؟ هل رجال الترمذي كلهم ثقات؟ عقب الشيخ اليماني فقال: كلام الأئمة فيه شديد -وهو محمد بن سالم هذا- يدل على أنه كان يكذب عمدًا، أو خطأً، قال الساجي: أنكر أحمد أحاديث رواها محمد بن سالم، وقال: هي موضوعة، وفي السند إليه نظر.
هناك أحاديث اكتفى بإحالتها، هذه قليلة، لكنه أيضًا يلفت النظر، حديث: “إن الله أعطاني نهرًا يقال له الكوثر في الجنة لا يدخل أحد أصبعه في أذنيه إلا سمع خريره” قال: ذكره في المقاصد. لم يحكم عليه، اكتفى فقط بقوله: ذكره في (المقاصد)، ففي شأنه دائمًا أن يقول مثلًا: في إسناده كذاب، أو هو حسن… إلى آخره.
حديث: “من عير أخاه بذنب لم يمت حتى يعمله” في إسناده كذاب، وقد أخرجه الترمذي، وحسنه فلا وجه لذكره في الموضوعات، يعقب الشيخ اليماني ويقول: وأي قيمة للتحسين مع وجود الكذاب، وقد قال الذهبي: حسن الترمذي حديثه فلم يحسن… إلى آخره. إذن لمجرد أن يصحح، أو يحسن فلان، وهو من طريق هذا الكذاب الذي ذكره فيه: إنه كذاب؛ لا يرتقي الحديث بمجرد رواية الترمذي عنه، أو كذا.
وفي الحقيقة هذا المسلك كان يفعله السيوطي كثيرًا، ونحن ذكرناه حين كنا نتكلم عن ملامح منهجه هناك في (اللآلئ) نجده يستكثر ويستثقل أن يحكم على حديث بالوضع، أو الضعف الشديد، وهو في السنن الأربعة، أو عند ابن خزيمة، أو ما شاكل ذلك، لكنه لا يفعل أكثر من أن يبين أن الترمذي رواه مثلًا، لكن ما درجته، ونحن نعلم أن الترمذي على -سبيل المثال- أحكامه تحتاج إلى تعقب، فمنهج السيوطي: أنه كان أحيانًا يكتفي بأن يقول: رواه الترمذي، أو رواه ابن ماجه، أو رواه كذا، ولكنه لا يبين درجة هذه الطرق.
ننتقل إلى مثال قريب من هذا: حديث “ما منكم من أحد غني ولا فقير إلا يود أنه يوم القيامة قد أوتي من الدنيا قوتًا” رواه ابن حبان عن أنس مرفوعًا، وفي إسناده نفيع عن أنس، وهو متروك، قال في اللآلئ: قلت: أخرجه أحمد في مسنده، وابن ماجه من هذه الطريق، السيوطي يبين أن الإمام أحمد رواه، وأن ابن ماجه رواه؛ فهل هذا توثيق للطريق؟ وفيه نفيع عن أنس، ونفيع هذا متروك، يقول: وله شاهد عن ابن مسعود رواه الخطيب بلفظ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما من أحد إلا وهو يتمنى يوم القيامة أنه كان يأكل من الدنيا قوتًا” يذكر الشوكاني ذلك كله، ولا يعقب عليه بشيء. على كل حال نكتفي بهذا القدر من الأمثلة، ولعله قد وضح من خلالها ملامح المنهج الذي ذكرناه.
البحوث التي ذكرها في بعض المسائل الهامة:
بحث في من ادعى الصحبة كاذبًا:
يقول: منهم: مكلبة بن ملكان الخوارزمي، زعم أن له صحبة، وأنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعًا وعشرين غزوة، وكان في حدود أربعين ومائة. قال الدارقطني، وابن حجر، وغيرهما: إنه شخص كذاب، أو لا وجود له. هنا ينقل عن الدارقطني، وابن حجر، وقال ابن الجوزي في (جامع المسانيد): أعجوبة من العجائب مكلبة بن ملكان أمير خوازم بعد الثلاثمائة بقليل ادعى الصحبة، وأنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعًا وعشرين غزوة؛ فإن كان قد صح السند في هذه الدعوى فقد افترى في هذه الدعوى، وإن لم يكن السند ليس هو الأغلب على الظن؛ فقد ائتفكه بعض الرواة، ولم يرو عنه إلا المظفر بن عاصم العجلي، ولست أعرفه، والغالب أنه نكرة لا يعرف.
مكلبة هذا له ترجمة في (الإصابة) ترجمة رقم 3734 في القسم الرابع من حرف السين، وابن حجر -رحمه الله- في (الإصابة) يذكر من ادعوا الصحبة كذبًا، وهم ليسوا محقين في هذا.
أيضًا يقول الشوكاني: منهم سرباتك ملك الهند في بلد “قنوج” قال: له سبعمائة سنة، وزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم نفذ إليه حذيفة، وأسامة، وصهيبًا، وغيرهم يدعونه إلى الإسلام فأجاب، وأسلم، قال الذهبي: وهذا كذب واضح، وزعم أيضًا أنه زار النبي صلى الله عليه وسلم مرتين؛ مرة بمكة، ومرة بالمدينة.
منهم جابر بن عبد الله اليماني، وقيل العقيلي، حدث ببخارى بعد المائتين أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم قال في (اللسان): كان كاذبًا جاهلًا بعيد الفطنة.
ومنهم جبير بن الحارث، قال ابن حجر في (اللسان) عن الأمير عبد الكريم بن نصر: كنت مع الإمام الناصر في بعض متنزهاته، ذكر قصة فيها هذا الكذب الذي ادعاه جبير بن حارث هذا.
منهم جعفر بن مستور، ادعى أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا له بطول العمر، وعاش 340 سنة، قال في الذيل: لا وجود له، وهو من الكذابين الذين ادعوا الصحبة بعد المائتين.
لم أذكر كل الذين ذكرهم الشوكاني، ولكنه نقل هنا عن (الميزان) وعن (ذيل الميزان) وعن (اللسان) لابن حجر إلى آخره.
ومما يدفع دعاوى هؤلاء: إجماع أهل العلم أن آخر الصحابة موتًا في جميع الأمصار هو: أبو الطفيل عامر بن واثلة الجهني، وكان موته سنة اثنتين ومائة بمكة، يعني هناك أقوال أنه مات سنة 110، ونحن كنا قد تعرضنا لهذه القضية، هنا هو يقول: إن وفاته كانت سنة 102، ذكرنا هذه القضية مرارًا عندما اقتضت المناسبات أن نذكرها، ومنها أن الصحابة انقضى عصرهم بسنة 110 أخذًا من حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي رأى فيها الصحابة في نومه، وأن أحدًا منهم لن يعيش بعد هذه الرؤية أكثر من مائة سنة إذا عاش، بل ((على وجه الأرض منكم اليوم)) يخاطب جيل الصحابة.
بعد أن فرغ بالشوكاني من البحث الذي كتبه في الذين الدعوة الصحبة، وهم ليسوا كثيرين على كل حال، وليس البحث طويلًا، هو استغرق في الكتاب صحيفتين ونصف تقريبًا.
البحث الذي أعده فيمن ادعى النسخ الموضوعة:
ثم انتقل إلى بحث آخر في النسخ الموضوعة، فقال: منها الأربعون الودعانية، وهي التي يقال لها في ديار اليمن البسيلقية، واضعها هو محمد بن علي بن ودعان القاضي أبو نصر الموصلي، لم يذكر اسمه ونسبه، إنما قال -كلام الشوكاني-: فمنها على الأربعين الودعانية، وهي التي يقال فيها ديار اليمن: البسيلقية، صرح بذلك جماعة من الحفاظ، قال الصاغاني: وأول هذه الودعانية: “كأن الموت فيها على غيرنا كتب” وآخرها: “ما من بيت إلا وملك يقف على بابه كل يوم خمس مرات… إلى آخره”.
قال في الذيل: إن الأربعين الودعانية لا يصح منها حديث مرفوع على هذا النسق في هذه الأسانيد، وإنما يصح منها ألفاظ يسيرة، وإن كان كل منها حسنًا، وعظة؛ فليس كل ما هو حق حديثًا، بل عكسه، وهي مسروقة، سرقها ابن ودعان من واضعها زيد بن رفاعة، ويقال: إنه الذي وضع رسائل إخوان الصفا، وكان من أجهل خلق الله في الحديث، وأقلهم حياءً، وأجرئهم على الكذب أيضًا. يقول: وقد ذكر هذا الذهبي في مؤلفاته وكرره.
الودعانية هذه منسوبة إلى محمد بن علي بن ودعان القاضي أبو نصر الموصلي.
ومن النسخ الموضوعة أيضًا كتاب (فضل العلم) لشرف الدين البلخي، وأوله: “من تعلم مسألة من الفقه”.
ومنها وصايا علي رضي الله عنه أي: الوصايا التي وصى بها النبي صلى الله عليه وسلم لعلي، قال في الخلاصة: كلها موضوعة سوى الحديث الأول وهو: ((أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي)).
قال الصغاني: منها وصايا علي كلها، التي أولها: “يا علي لفلان ثلاث علامات” وفي آخرها النهي عن المجامعة في أوقات مخصوصة، كلها موضوعة، قال في (اللآلئ): وكذا وصايا علي موضوعة، واتهم بها حماد بن عمرو، وكذا وصاياه التي وضعها عبد الله بن زياد.
هو هنا ينقل من المصادر ما يؤكد أن هذه الوصايا موضوعة، وأنها لا تمت بصلة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أيضًا من النسخ الموضوعة للأحاديث الموضوعة بإسناد واحد أحاديث الشيخ المعروف بأبي الدنيا، وهو الذي يزعمون أنه أدرك عليًّا، وعمر طويلًا، ومنها أحاديث ابن مستور الرومي، وسالم، وخراش، ودينار عن أسد، كلها موضوعة، وأحاديث يسر، ويغنم… إلى آخره، ومنها أحاديث أبو هدبة القيسي، ومنها الكتاب المعروف بمسند أنس البصري، مقدراه ثلاثمائة حديث.
أيضًا من النسخ الموضوعة الأحاديث التي تروى في تسمية أحمد، لا يثبت منها شيء، ومنها خطبة الوداع عن أبي الدرداء، وأولها: “أن لا يركب أحدكم البحر عند ارتجاجه” هذه نسخة موضوعة منسوبة لأبي الدرداء، غير خطبة الوداع التي عند مسلم، وعند البخاري أيضًا في الصحيحين عند مسلم من كتاب: الحج، باب: صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم من رواية جابر بن عبد الله رضي الله عنه فيه خطب كثيرة للنبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، منها أن ربا الجاهلية موضوع، ومنها أن دماء الجاهلية موضوعة، ومنها “لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض” وأيضًا بعضها من رواية جرير بن عبد الله البجلي في الصحيحين: “استنصِتْ لي الناسَ” إلى آخر هذا، نقول خطبة الوداع منسوبة إلى أبي الدرداء، وهي موضوعة.
أيضًا الخطبة الأخيرة عن أبي هريرة، وابن عباس بطولها موضوعة، وقال في الوجيز: قال ابن عدي: كُتبت جملة عن محمد بن محمد بن الأشعث عن موسى بن إسماعيل بن موسى بن جعفر عن أبيه عن آبائه إلى علي رفعها، وهي نسخة فيها ألف حديث، أو نحو ألف حديث عامتها مناكير. قال الدارقطني: إنه من آيات الله وضع ذلك الكتاب، يعني: العلويات، الآية هنا أن يبين الزيف من الصحيح.
منها نسخة من رواية عبد الله بن أحمد عن أبيه، عن علي الرضا، عن آبائه كلها موضوعة باطلة.
ومنها نسخة وضعها إسحاق الملطي كلها، ومنها “كتاب العروس” لأبي الفضل جعفر بن محمد بن علي، قال الديلمي: كلها واهية لا يعتمد عليها، وأحاديثها منكرة.
ومنها النسخة المروية عن ابن جريج عن عطاء بن سعيد، وفيها الوصية لعلي في الجماع، وكيف يجامع، كلها كذب.
ومنها نسخة أحمد بن إسحاق بن أُبيط بن شريط، عن أبيه، عن جده، كلها موضوعة.
فهذه هي النسخ المشهورة عند أهل الحديث بالوضع، وثمة نسخ موضوعة غيرها معروفة عند من يعرف هذه الصناعة، وأكثرها من وضع الرافضة، وهي موجودة عند أتباعهم، وقد قدمنا في باب فضائل القرآن ذكر الكتب الموضوعة في التفسير، هكذا يقول الشوكاني، وهو يتكلم عن فضائل القرآن ذَكَر هناك بعض النسخ الموضوعة، أو بعض الكتب الموضوعة في التفسير.
هذه أهم النسخ التي أشار إليها الشوكاني في (الفوائد المجموعة) وبين أنها موضوعة.
البحث الذي أعده في الوضاعين المكثرين:
انتقل إلى ذكر الوضاعين المشهورين المكثرين من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم:
بدأ هذا البحث بقوله: قال ابن الجوزي -رحمه الله تعالى-: الوضاعون خلق كثير فمن كبارهم: وهب بن وهب القاضي أبو البختري، ومحمد بن السائب الكلبي، ومحمد بن سعيد الشامي المصلوب، وأبو داود النخعي، وإسحاق بن جائح الملطي، وغياث بن إبراهيم، والمغيرة بن سعيد الكوفي، وأحمد بن عبد الله الجويباري، ومأمون بن أحمد الهراوي، ومحمد بن عكاشة الكرماني، ومحمد بن قاسم الطيكاني، ومحمد بن زياد اليشكري، هذا ما نقله عن ابن الجوزي في كتاب (الموضوعات).
تعرض أيضًا لهم صاحب (تنزيه الشريعة المرفوعة) في مقدمة كتابه وذكرهم، ونحن قد تكلمنا عن الكتاب، ذكر فيه أكثر من ألفي شخص اتهموا بالضعف، أو بالوضع، وما شابه ذلك، وأيضًا تعرض لهم ابن حبان في كتاب (المجروحين) وتعرض لهم الحاكم في كتاب (الإكليل) إلى آخره.
يستمر الشوكاني في النقل عن العلماء بما يفيد تسمية بعض الكذابين، ومن ذلك -أي: ما نقله عن النسائي- قال النسائي: الكذابون المعرفون بالوضع أربعة: ابن أبي يحيى بالمدينة، والواقدي ببغداد، ومقاتل بن سليمان بخرسان، ومحمد بن سعيد المصلوب بالشام، هذه أيضًا بعض الأسماء التي ذكرها ابن الجوزي، وأضاف آخرين، قيل: وضع الجويباري -الذي ذكرناه -فيما ذكره ابن الجوزي- أحمد بن عبد الله الجويباري- وضع الجويباري، وابن عكاشة، ومحمد بن تميم الفرقاني أكثر من عشرة ألاف حديث؛ فخَلَق الله علماء يذبون، ويوضحون الصحيح، ويفضحون القبيح؛ فهم حراس الأرض، وفرسان الدين، كثَّرَهم الله إلى يوم القيامة.
أسباب الوضع:
ثم ينقل الشوكاني عن ابن الجوزي أيضًا: قال ابن الجوزي -رحمه الله-: إن من وقع في حديثه الموضوع، والكذب، والقلب أنواع:
منهم من غلب عليهم الزهد؛ فغفلوا عن الحفظ، ومنهم من ضاعت كتبه؛ فحدث من حفظه فغلط، ومنهم قوم ثقات، لكن اختلفت عقولهم في آخر أعمارهم.
هؤلاء الثلاثة قد لا يقصدون للعمد، لكن الكذب -على كل حال- تسلسل إلى مروياتهم، ومنهم من روى الخطأ سهوًا فلما تبين الصوابُ له لم يرجع أنفة من أن ينسب إلى الغلط، وهؤلاء من أشد أنواع الوضاعين؛ لأن الكبر منعه من الاستجابة للحق.
ومنهم زنادقة، وضعوا لقصد إفساد الشريعة، وإيقاع الشك، والتلاعب بالدين، قال حماد بن زيد: وضعت الزنادقةُ أربعة آلاف حديث، ولما أُخذ ابن أبي العوجاء لتضرب عنقه قال: وضعت فيكم أربعة آلاف حديثًا أحرم فيها الحلال، وأحل الحرام.
ومنهم من يضع نصرة لمذهبه، تاب رجل من المبتدعة فجعل يقول: انظروا عمن تأخذون هذا الدين؛ فإنا كنا إذا هوَينا أمرًا صيرناه حديثًا.
ومنهم من يضع حسبة، وترغيبًا وترهيبًا، ومضمون فعلهم: أن الشريعة ناقصة، تحتاج إلى تتمة، وكنا قد رددنا عن هذه الفرية أيضًا، ومنهم من وضع الأسانيد، أو من أجاز وضع الأسانيد لكلام حسن، ومنهم من قصد التقرب إلى السلطان، ومنهم القصاص؛ لأنهم يريدون أحاديث ترقق، وفي الصحاح يقلّ مثل ذلك، ثم إن الحفظ يشق عليهم، ويتفق مع عدم الدين عندهم، ويحضرهم جهال.
يعني هو يذكر الأسباب التي من أجلها تروج سوق القصاصين؛ يقول: أحاديث ترقق القلوب، والحفظ صعب عليهم، والذين يحضرونهم عادة ليسوا من أرباب التخصص، ولا من أصحاب الدين الكامل تستهويهم هذه الأحاديث التي فيها مبالغات، وتهويلات، ومجازافات، يقول: ابن الجوزي -كما يقول عنه الشوكاني-: وما تعرض عليه أحاديث في مجلس الوعظ قد ذكرها قصاص الزمان؛ فأردها فيحقدون علي. انتهى.
ومن أسباب الوضع ما يقع ممن لا دين له عند المناظرة في المجامع استدلالًا على ما يقوله بما يطابق هواه تنفيقا لجداله، وتقويمًا لمقاله، واستطالة على خصمه، ومحبة للغلبة، وطلبًا للرياسة، وفرارًا من الفضيحة إذا ظهر عليه من يناظره، يعني يقول: رواه فلان، صححه فلان، إلى آخره؛ فهؤلاء الهوى غلب عليهم، أو الشيطان استحوذ عليهم فأنساهم الحق، وأنساهم الاستجابة لدين الله سبحانه وتعالى وأنساهم مغبة الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الشوكاني: يستعمل ذلك استدلالًا على ما يقوله بما يطابق هواه تنفيقًا، أي: ترويجًا لجداله، وتقويمًا لمقاله، واستطالة على خصمه، ومحبة للغلبة، أي: إلى أن يفوز ويغلب، وطلبًا للرياسة، وفرارًا من الفضيحة إذا ظهر عليه من يناظره.
كل هذا من أسباب الوضع، وهي أسباب نفسية حقيرة تزري بصاحبها، وتدفعه إلى الوقوع في مغبة الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
بقية أحاديث فضائل الأزمنة والأمكنة:
بعد هذه المباحث عاد الشوكاني ليكمل بقية الكتاب في الكلام عن فضائل الأمكنة والأزمنة، وهو تتمة لكتاب الفضائل الذي قسمه إلى أبواب، وقد توسطته تلك البحوث، وقبلها تكلم عن فضائل العلم، فضائل النبي صلى الله عليه وسلم فضائل الخلفاء وسائر الصحابة، وبين الموضوعات في هذه الأحاديث، ثم عاد ليكمل بقية الكلام عن فضائل الأمكنة والأزمنة.
ونحن هنا سنقف، وقفة يسيرة مع بعض الأحاديث التي له فيها نفَس في النقد؛ لتتضح لنا طريقته التي وضحت -إن شاء الله- بالكلام عن منهجه، إنما هي أسئلة تطبيقية، من بين هذه الأحاديث.
الحديث الخامس حديث أهل مقبرة عسقلان: “أهل مقبرة عسقلان يزفون إلى الجنة كما تزف العروس إلى زوجها” وأيضا نحن تكلمنا عن هذه الأحاديث، أو بعضها في كلامنا عن الكتب السابقة، رواه ابن عدي، عن أبي عمر، وفي إسناده بشير بن ميمون، وليس بشيء، وقد رواه ابن حبان من وجه آخر، وفي إسناده حمزة بن أبي حمزة، وهو وضاع، وقد روى أحمد في المسند من حديث أنس مرفوعًا : “عسقلان أحد العروسين يبعث الله منها يوم القيامة سبعين ألفًا لا حساب عليه، ويبعث منها خمسون ألف شهيد، وفودًا إلى الله، وبها صفوف الشهداء رءوسهم مقطعة في أيديهم، تثج أوداجهم دمًا -يعني تنفر بالدم، تصب وتثغب الدم- يقولون: ربنا آتنا ما وعدتنا على رسلك، ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد، فيقول: صدق عبيدي، اغسلهم بنهر البيضة؛ فيخرجون منها أنقياء بيضًا فيسرحون في الجنة حيث شاءوا”.
هذا الحديث أورده ابن الجوزي في (الموضوعات) وقال في إسناده أبو عقال هلال بن زيد يروي عن أنس أشياء موضوعة، وقال ابن حجر في (القول المسدد): وهذا الحديث من فضائل الأعمال، والتحريض على الرباط، أو ما لا يحيله الشرع ولا العقل؛ فالحكم عليه بالبطلان بمجرد كونه من رواية أبي عقال لا يتجه.
هذا الكلام قاله ابن حجر في (القول المسدد في الذب عن المسند) عندما أورد هذا الحديث، ما هي القاعدة التي يقولها هنا ابن حجر -رحمه الله-؟ هذا الحديث يقول عنه: إنه في فضائل الأعمال والتحريض على الرباط، وهذا أمر ليس مستحيلًا لا في الشرع، ولا في العقل؛ فالحكم عليه بالبطلان بمجرد كونه من رواية أبي عقال لا يتجه، أبو عقال يروي الأحاديث الموضوعة، وطريق الإمام أحمد معروفة في التسامح، يقول ابن حجر: طريق الإمام أحمد معروفة في التسامح في أحاديث الفضائل دون أحاديث الأحكام. هذا كلام ابن حجر.
يعني ابن حجر يدافع عن ورود الحديث في المسند، ويقول كلامًا يستحق الوقف، إن الحديث في فضائل الأعمال والتحريض على الرباط، يقصد بما لا يحيله الشرع ولا العقل: أن الجزاء المذكور هنا ليس بعيدًا؛ لا شرعًا، ولا عقلًا؛ فالحكم عليه بالبطلان بمجرد كونه من رواية أبي عقال لا يتجه، وبيَّن منهج الإمام أحمد في أنه يتسامح في أحاديث الفضائل دون أحاديث الأحكام؛ فيقبل فيها بعض الضعف، هذا خلاصة الكلام.
يعقب الشوكاني فيقول: ولا يخفاك أن هذه مراوغة من الحافظ ابن حجر، وخروج من الإنصاف؛ فإن كون الحديث في فضائل الأعمال، وكون طريقة أحمد -رحمه الله- معروفة في التسامح في أحاديث الفضائل لا يوجب كون الحديث صحيحًا ولا حسنًا، ولا يقدح في كلام من قال في إسناده وضاع، ولا يستلزم صدق ما كان كذبًا، وصحة ما كان باطلًا؛ فإن كان ابن حجر يسلم أن أبا عقال يروي الموضوعات فالحق ما قاله ابن الجوزي، وإن كان ينكر ذلك؛ فكان الأولى به التصريح بالإنكار، والقدح في دعوى ابن الجوزي.
الحقيقة هو تعقيب في محله، وإن كان شديد اللهجة كشأن الشوكاني -رحمه الله -تعالى- لأن الأمر هنا: هل الحديث صحيح أو ليس صحيحًا؟ وهب أن معنى الحديث صحيح ويلتقي مع ما ورد في نصوص أخرى؛ سواء من القرآن الكريم، أو من السنة المطهرة؛ فإن العلماء قد اتفقوا على أن صحة المعنى ليست دليلًا على صحة الحديث.
على كل حال يعلق الشيخ المعلمي اليماني -جزاه الله خيرًا- على هذا الكلام فيقول: ابن حجر لا ينكر ما قيل في أبي عقال، ولكنه يقول: إن ذلك لا يستلزم أن يكون كل ما رواه موضوعًا، وإذا كان الكذوب قد يصدق؛ فما بالك بمن لم يصرح بأنه كان يتعمد الكذب؛ فيرى ابن حجر أن الحكم بالوضع يحتاج إلى أمر آخر ينضم إلى حال الراوي؛ كأن يكون مما يحيله الشرع أو العقل، وهذا لا يكفي في رده ما ذكره الشوكاني، وقد يقال: انضم إلى حال أبي عقال أن المتن منكر، ليس معناه من جنس المعاني التي عني النبي صلى الله عليه وسلم ببيانها، أضف إلى ذلك قيام التهمة هنا؛ فإن أبا عقال كان يسكن عسقلان، وكانت ثغرًا عظيمًا، لا يبعد من المغفل أن يختلق ما يرغب الناس في الرباط فيه، أو يضعه جاهل، ويدخله على مغفل، والحكم بالوضع قد يكفي فيه غلبة الظن -كما لا يخفى.
الحقيقة تعقيب فيه توسط -هكذا أتصوره- هو يوضح رأي ابن حجر.
نقف مع هذه الأمور؛ لأنها قواعد علمية؛ هل لمجرد وجود الوضاع -في إسناد ما- كاف للحكم على الحديث بأنه موضوع؟ هذا منهج سار عليه كثير من العلماء، ويقول البعض: هذا لا يكفي، لعل ابن حجر يرى ذلك: أنه لابد أن تنضم قرينة أخرى إلى كون السند فيه وضاع؛ كأن يكون الحديث مثلًا متناقضًا مع القرآن، مع السنة، مع صريح العقل… إلى آخره مما فيه سماجه في اللفظ أو في المعنى.
لكن في هذا الحديث بالذات- عاد الشيخ المعلمي اليماني وقال: إن قرينة الحال تساعد على اتهام أبي عقال بالوضع، أولًا: هو وضاع بأصله، والحديث في فضائل عسقلان، وهو كان يسكن عسقلان؛ فلعله تعصب لبلده.
إذن نحن أمام قواعد علمية نأخذها من كلام العلماء، وهي قواعد تكتب بماء الذهب، هو اجتهاد بصرف النظر عن: من المخطئ ومن المصيب ليست هذه القضية، إنما القضية: أن نستخلص هذه القواعد التي -كما قلت- تصاغ بماء الذهب، ونقف عندها، ونفهمها، ونحتكم إليها في منهاجنا العلمية، وفي دراساتنا المتعددة حول السنة المطهرة.
أيضًا من الأحاديث التي رواها في الفضائل هذا: “إن مصر ستفتح بعدي فانتزعوا خيرها، ولا تتخذوها قرارًا؛ فإنه يساق إليها أقل الناس أعمارًا”. هذا رواه أبو سعيد ابن يونس، عن موسى بن علي بن رباح، عن أبيه عن جده، وقال منكر جدًّا، وفي إسناده مطهر بن الهيثم، وهو متروك.
قال في (اللآلئ) هنا السيوطي يتعقب يقول: روى له ابن ماجه، والحديث أخرجه البخاري في تاريخه، وقال: لا يصح، وأخرجه ابن شاهين، وابن السكن في (الصحابة) وابن السني، وأبو نعيم في الطب.
يعني من منهج السيوطي -كما ذكرناه- أنه يستثقل أن يتهم بالوضع من له روايات في الكتب الستة ونحوها.
على كل حال هذا غير الحديث الذي ورد في مصر، وهو عند مسلم في كتاب: فضائل الصحابة، باب: وصية النبي صلى الله عليه وسلم بأهل مصر، حديث رقم 2543: “إنكم ستفتحون أرضًا يذكر فيها القيراط؛ فاستوصوا بأهلها خيرًا؛ فإن لهم ذمة ورحِمًا؛ فإذا رأيتم رجلين يقتتلان في موضع لبنة؛ فاخرج منها” هذا حديث رواه الإمام مسلم في صحيحه.
أيضًا من الأحاديث التي ذكرها حديث “من أصبح يوم الجمعة صائمًا، وعاد مريضًا، وأطعم مسكينًا، وشيع جنازة؛ لم يتبعه ذنب أربعين سنة” وهو موضوع كما قال ابن الجوزي، وروي من وجه آخر، هكذا يقول.
حديث “إذا كان يوم الجمعة نادت الطير الطير، والوحوش الوحوش، والسباع السباع: سلام عليكم، هذا يوم الجمعة” يعني يحدث فيه أمان بين المخلوقات التي تتقاتل عادة، قال: هو من نسخة موضوعة.
يذكر بعض الفوائد المهمة، في حديث “إني لأجد نفَس الرحمن من اليمن” يقول: فائدة: الأحاديث التي يرويها المؤرخون من أهل اليمن في فضل صنعاء لا يصح منها شيء، ولا أعرف لها إسنادًا في كتاب من كتب الحديث، وقد جمعها بعضهم؛ فكانت أربعين حديثًا.
وكذا ما يذكرونه من الأحاديث في فضل “زُبيد” أو “زَبيد” قبيلة، كحديث “اللهم بارك في زبيد”.
كذا الأحاديث التي يذكرونها في فضل جامع الجنة من بلاد اليمن، وقد توسع المؤرخون في ذكر الأحاديث الباطلة في فضائل البلدان، ولا سيما بلدانهم؛ فإنهم يتساهلون في ذلك غاية التساهل، ويذكرون الموضوع، ولا ينبهون عليه، كما فعل ابن الديبع في تاريخه الذي سماه (قرة العيون بأخبار اليمن الميمون) وتاريخه الآخر الذي سماه (بغية المستفيد بأخبار مدينة زبيد) مع كونه من أهل الحديث.
إذن هي ليست قبيلة، هي مدينة إذن: “زبيد”.
وها نحن نرى يقول: ابن الديبع ذكر فيه أحاديث موضوعة مع كونه من أهل الحديث، وممن لا يخفى عليه بطلان ذلك، أي: من الذين لا يخفى عليهم بطلان ذلك؛ فليحذر المتدين من اعتقاد شيء منها، أو روايته؛ فإن الكذب في هذا قد كثر، وجاوز الحد، وسببه ما جبلت عليه القلوب من حب الأوطان، والشغف بمن شاء. انتهى كلام الشوكاني في هذا الأمر.
أحاديث متفرقة لا ترتبط بموضوعات معينة:
وانتقل الشوكاني بعد ذلك إلى الكلام عن أحاديث الصفات، وأحاديث الإيمان، ثم ذكر خاتمة في ذكر أحاديث متفرقة لا تختص بباب معين، ذكر فيها أحاديث كثيرة جدًّا:
منها: “إن لله ديكًا عنقه منطوية تحت العرش” وقد تكلمنا عن هذا، وله تعقبات في بعضها شدة على الكذابين، وتعقيبات على السيوطي، وتعقيبات ابن الجوزي تبين أنه أحيانًا يتعقب هذا، ويتعقب ذاك، وأحيانا لا يتعقب، يذكر الحديث فقط، وأحيانًا تكون عبارته شديدة، وهذا الغالب عليه.
يقول مثلًا في حديث في الباب الأخير أحاديث المتفرقات هذه؛ حديث: “لكل شيء سبب” وليس أحد يفطن له، وإن لأبي جاد حديثًا عجيبًا: “فأبى آدم الطاعة…” إلى آخر حديث طويل يعقب، ويقول: وأقول: هذا من الكذب لا يصدر إلا عن أجهل الجاهلين، وأقبح المفترين، وحاشا ابن عباس وأهل طبقته، ومن بعدهم أن يتكلموا بمثل هذا.
فمن رواه في مؤلفه مغترًّا به، غير عالم ببطلانه فهو أجهل من واضعه. شدة في التعقيب، خصوصًا أن ابن جرير الذي روى هذا الكلام لم يسكت، وإنما نص على ضعفه، وعلى سقوطه، لكن على كل حال هذا منهج الشوكاني: أنه يتعقب، وأحيانًا يكون شديدًا، ونطلب من طلاب العلم أن يتموا قراءة الكتاب، واستخلاص الفوائد التي ذكرها في هذا الجزء؛ فهي جديرة بأن تستخلص وأن تستوفى، وأن يعرفها أهل العلم.
جزى الله الإمام الشوكاني خيرا على كتابه وما فيه من فوائد، وهو فعلًا الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة؛ قد جمع فيه جهد السابقين، ولخصه تلخيصًا حسنًا، وأضاف إليه؛ فتقبل الله منه ذلك، وجعله في موازين حسناته، والله أعلم.