كتاب (المصابيح) للإمام البغوي
المصابيح: جمع مصباح، وهو السراج، والإمام البغوي هو أبو محمد ركن الدين الحسين بن مسعود، الإمام الفقيه المفسر الحافظ، الملقب بمحي السنة، ويعرف بالفراء. توفي في سنة ست عشرة وخمسمائة، وقد قارب التسعين من عمره.
صنف الإمام البغوي المصنفات الكثيرة التي تشهد بسعة علمه؛ منها: (معالم التنزيل) في التفسير، و(شرح السنة) و(المصابيح) في الحديث، و(الجمع بين الصحيحين) و(التهذيب في الفقه).
منهج الإمام البغوي في كتابه (المصابيح):
قسم الإمام البغوي أحاديث كتابه (المصابيح) إلى قسمين:
القسم الأول: الأحاديث الصحاح.
ويريد بالصحاح: ما أخرجه الإمام البخاري والإمام مسلم في صحيحيهما، أو ما أخرجه أحدهما في صحيحه.
القسم الثاني: الأحاديث الحسان.
ويريد بالحسان: ما أخرجه أصحاب السنن، مثل: أبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجه والدارمي، وغيرهم.
الانتقادات التي وجهت إلى الإمام البغوي في كتابه (المصابيح):
الانتقاد الأول: انتقد الإمامُ ابن الصلاح والإمامُ النووي الإمامَ البغوي في تقسيمه هذا؛ وذلك لأنه أطلق على ما أخرجه أصحاب السنن بالأحاديث الحسان، مع أن السنن بها أحاديث صحيحة وأحاديث حسان وأحاديث ضعيفة، فكيف حكم الإمام البغوي على هذه الأنواع الثلاثة بأنها حسان مع اختلاف درجاتها؟!
قال ابن الصلاح: “ما صار إليه صاحب (المصابيح) -رحمه الله تعالى- من تقسيم أحاديثه إلى نوعين: الصحاح والحسان، مريدًا بالصحاح: ما ورد في أحد الصحيحين أو فيهما، ومريدًا بالحسان: ما رواه أبو داود والترمذي والنسائي وأشباههما في تصانيفهما، فهذا اصطلاح لا يُعرف، وليس الحسن عند أهل الحديث عبارة عن ذلك، وهذه الكتب تشتمل على حسان وغير حسان كما سبق بيانه، والله أعلم”.
قال الإمام النووي: “وأما تقسيم البغوي أحاديث (المصابيح) إلى حسان وصحاح، مريدًا بالصحاح: ما في الصحيحين، وبالحسان: ما في السنن، فليس بصواب؛ لأن في السنن الصحيح والحسن والضعيف والمنكر”.
الرد على اعتراض ابن الصلاح والنووي:
أولًا: لم ينفرد الإمام البغوي بهذا الاصطلاح، بل سبقه إلى ذلك جمع من العلماء؛ منهم: أبو طاهر أحمد بن محمد بن أحمد الحافظ المعروف بالسلفي، المتوفى في سنة ست وأربعين وخمسمائة، حيث أَطلق على الكتب الخمسة -وهي صحيح الإمام البخاري وصحيح الإمام مسلم وسنن أبي داود وسنن الترمذي وسنن النسائي- أنها صحيحة، فقال السلفي: “اتفق على صحة الكتب الخمسة علماء المشرق والمغرب، ومن الكتب الخمسة: سنن أبي داود وسنن الترمذي وسنن الإمام النسائي.
وأطلق الحاكم أبو عبد الله النيسابوري -المتوفى في سنة خمس وأربعمائة من الهجرة- على سنن الإمام الترمذي: الجامع الصحيح، كما أطلق الحاكم على سنن أبي داود اسم الصحيح، وأطلق الخطيب على سنن الترمذي والنسائي اسم الصحيح، وأطلق ابن منده وابن السَّكن على كتابَي أبي داود والنسائي اسم الصحيح، وأطلق السلفي وابن عدي والدارقطني على سنن النسائي اسم الصحيح”.
قلت: لعل هؤلاء الأئمة أطلقوا على هذه الكتب -التي تجمع بين الأحاديث الصحيحة والحسان والضعيفة- أنها صحيحة من باب التغليب؛ وذلك لأن معظم الأحاديث التي في هذه الكتب صالحة للاحتجاج والعمل بها، والضعيف الواهي الذي لا يصلح للاحتجاج والعمل به قليل، كما أن كثيرًا من الأئمة لا يفرقون بين الحديث الصحيح والحديث الحسن، فالصحيح والحسن عندهم قسم واحد، وذلك لصلاحيتهما للاحتجاج والعمل بهما، حتى قال الحافظ ابن حجر: “أكثر أهل الحديث لا يفرقون بين الحسن والصحيح، من هؤلاء الأئمة: ابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم صاحب (المستدرك)، وسبقهم إلى ذلك الإمام الحُميدي شيخ البخاري، ومحمد بن يحيى الذُّهلي شيخ البخاري”.
ولا يلام العالم إذا اصطلح مع نفسه في كتاب باصطلاحات خاصة به، وإن لم يستعملها غيره، إذا نص على هذه المصطلحات وبيَّن مدلولاتها في مقدمة الكتاب أو في آخره، وقد نص الإمام البغوي في مقدمة كتابه (المصابيح) على ما اصطلح عليه في كتابه، فلا يوجه له لوم.
قال الحافظ السيوطي: “قال تاج الدين التِّبْريزي: ولا أزال أتعجب من الشيخين -يعني: ابن الصلاح والنووي- في اعتراضهما على البغوي، بل تخطئة المرء في اصطلاحه بعيدة عن الصواب”.
قال الحافظ ابن حجر: “وقد تعقب العلامة تاج الدين التبريزي في مختصره ما قاله ابن الصلاح والنووي، فقال: وليس من العادة المشاحاة في الاصطلاح والتخطئة عليه، مع نص الجمهور على أن من اصطلح في أول الكتاب فليس ببعيد عن الصواب، والبغوي قد نص في ابتداء (المصابيح) بهذه العبارة، فقال: وأعني بالصحاح: ما أخرجه الشيخان، ثم قال: وأعني بالحسان: ما أورده أبو داود والترمذي وغيرهما من الأئمة”.
قال الحافظ العراقي: “أجيب عن البغوي بأنه يبين عقب كل حديث الصحيح والحسن والغريب. وليس كذلك، فإنه لا يبين الصحيح من الحسن فيما أورده من السنن، بل يسكت ويبين الغريب والضعيف غالبًا، فالإيراد باق في مزجه صحيح ما في السنن بما فيها من الحسان”.
قال الحافظ ابن حجر: “أراد ابن الصلاح أن يُعرِّف أن البغوي اصطلح لنفسه أن يسمي السنن الأربعة الحسان؛ ليكتفي بذلك عن أن يقول عقب كل حديث: أخرجه أصحاب السنن، فإن هذا اصطلاح حادث، ليس جاريًا على المصطلح العرفي”.
قال الحافظ ابن حجر: “والبغوي قد نص في ابتداء (المصابيح) بهذه العبارة، فقال: وأعني بالصحاح: ما أخرجه الشيخان، وأعني بالحسان: ما أورده أبو داود والترمذي وغيرهما من الأئمة، وما كان فيها من ضعيف أو غريب أشرت إليه، وأعرضت عما كان منكرًا أو موضوعًا”.
قال الحافظ ابن حجر: “ومما يشهد لصحة كونه أراد بقوله: الحسان، اصطلاحًا خاصًّا له أنه يقول في مواضع من قسم الحسان: هذا صحيح تارة، وهذا ضعيف تارة، بحسب ما يظهر له من ذلك، ولو كان أراد بالحسان الاصطلاح العام، ما نوَّعه في كتابه إلى الأنواع الثلاثة، وحتى لو كان عليه في بعض ذلك مناقشة بالنسبة إلى الإطلاق، فذلك يكون لأمر خارج حتى يرجع إلى الذهول، ولا يضر فيما نحن فيه، والله أعلم”.
قال الحافظ السخاوي عقب قول البغوي: “وأيده شيخنا -أي الحافظ ابن حجر- بحكمه في قسم الحسان بصحة بعض أحاديثه تارة، إما نقلًا عن الترمذي أو غيره، وضعفه أخرى بحسب ما يظهر له من ذلك، إذ لو أراد بالحسان الاصطلاح العام ما نوَّعه”.
الانتقاد الثاني: ذكر الإمام البغوي في كتابه (المصابيح) أحاديث منكرة، مع أنه ذكر في مقدمة الكتاب أنه لا يذكر الأحاديث المنكرة.
الانتقاد الثالث: حكم الإمام البغوي على بعض أحاديث السنن بالصحة وعلى بعضها بالنكارة، مع أنه ذكر أنه سيرمز لأحاديث السنن بالحسان.
الانتقاد الرابع: لم يَنقل حكم الإمام الترمذي على بعض الأحاديث في سننه بالصحة.
الانتقاد الخامس: رمز لبعض الأحاديث بالصحة، مع أنها غير مروية في الصحيحين أو أحدهما، مع أنه أخذ على نفسه أن ما يرمز له بالصحة فهو في الصحيحين أو أحدهما.
وقد أجيب عن هذه الانتقادات بأن ذلك قد يرجع إلى الذهول، وبالنسبة للانتقاد الأخير فقد رُد عليه بأن الإمام البغوي يَذكر أصل الحديث من الصحيحين أو أحدهما، ثم يُتبع ذلك باختلاف لفظه ولو بزيادة في نفس ذلك الخبر؛ لكون بعض من خرَّج السنن أوردها، فيُشير هو إليها لكمال الفائدة.