كتب السنن الصافية: (سنن أبي داود) ونماذج منها
وننتقل بعد ذلك إلى كتب السنن الصافية التي تختلف عن المصنفات؛ فيما يتصل بالتأليف على الموضوع, وعلى ترتيب كتب الفقه.
وقد تحدث العلماء عن كتب السنن أيضًا وعن خصائص هذه الكتب، قال الكتاني: كتب السنن في اصطلاحهم الكتبُ المرتبة على الأبواب الفقهية؛ من الإيمان والطهارة والصلاة والزكاة… إلى آخرها، وليس فيها شيء من الموقوف أو المقطوع؛ لأن الموقوف لا يسمى في اصطلاحهم سنة ويسمى حديثًا؛ فهنا سميت هذه الكتب سننًا لناحيتين:
الناحية الأولى: أنها مرتبة على أبواب الفقه وجامعة للأحكام الواردة التي عني بها الفقهاء، وما زاد على ذلك يعتبر إضافة على الأصل.
الناحية الثانية: أن كل الأحاديث التي فيها مرفوعة، والموقوف تابع لها ونادر، وكذلك المقطوع، وهذا كله مبني على تعريف السنة, وهي: أنها ما ورد عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- دون غيره؛ فإذا ذكر ما ورد عن غيره فلا بد فيه من التقييد، قال: وما ورد عن غير الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد يسمى حديثًا بإطلاق، وهذا رأي أيضًا من الآراء في تعريف الحديث، وهو الذي مشى عليه أصحاب المصنفات.
وفي رأينا أن هذا لا يسلم أيضًا للكتاني؛ لأن الحديث أيضًا لا يطلق إلا فيما ورد عن الرسول -صلى الله عليه وسلم-, وما ورد عن غيره فلا بد فيه من التقييد، والجامع هو ما فيه الأحاديث المطلقة والأحاديث المقيدة، والسنة فيها الحديث المطلق وندر فيها الحديث المقيد.
ثم يمكن أن نقول أيضًا: إن كتب السنن تعنى بالناحية العملية عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- فليس فيها القصص، وليس فيها التفسير، وليس فيها الاستطرادات التي تؤخذ الأحكام منها من ناحية المضمون وليس من ناحية النص، وذكر عددًا كبيرًا من السنن، وسنكتفي هنا بالسنن الأربعة:
وأول هذه السنن (سنن أبي داود) سليمان بن الأشعث السجستاني:
ولد سنة 202 من الهجرة وتوفي سنة 275 من الهجرة, وله خصائص؛ منها: أنه اقتصر فيه على الأحاديث المتصلة بالأحكام الشرعية، وذكر فيه بعض الأحاديث المرسلة، وقسّمه إلى كتب وأبواب، ووضع تراجم للكتب والأبواب، وذكر فيه أبوابًا تتصل بالأحكام من ناحية التمهيد لها أو بيان أسباب عدم الامتثال لها؛ ككتاب السنة الذي ذكر فيه أحاديث تتصل بالعقيدة، وكتاب الأدب ونحو ذلك، وهو لا يكرر الحديث في غير الموطن الذي يورده فيه؛ بل ولا في نفس الموطن, لا يكرره سندًا ولا متنًا إلا إذا كان هناك زيادة تفيد؛ فإذا كرره في نفس الموطن فلزيادة كلام فيه، ويورد الحديث الطويل مقتصرًا على موطن الاستشهاد منه؛ لأنه لو ذكره بطوله لم يفهم موضع الفقه فيه، وهو مفيد في معرفة أدلة الأحكام الشرعية وطرق استنباط هذه الأحكام من الأحاديث.
وقد أفاض أبو داود في رسالته لأهل مكة في بيان خصائص هذه السنن؛ حيث قال: سألتم أن أذكر لكم الأحاديث التي في كتاب (السنن)؛ أهي أصح ما عرفت في الباب؟ ووقفت على جميع ما ذكرتم؛ فاعلموا أنه كذلك كله -أي: أصح ما عرف في الباب- إلا أن يكون -أي: الحديث- قد روي من وجهين صحيحين؛ فأحدهما أقوم إسنادًا والآخر صاحبه أقدم في الحفظ؛ فربما كتبت ذلك -أي: كتب الحديث الذي رواه الأقدم, وإن كانت الرواية الأخرى أقوم وأصح لعلو السند- ولا أرى في كتابي من هذا عشرة أحاديث -وهو يدل على وعيه بجميع ما في كتابه؛ حيث يستطيع تحديد عدد الأحاديث التي راعى فيها خاصة معينة-ولم أكتب في الباب إلا حديثًا أو حديثين؛ وإن كان في الباب أحاديث صحاح فإنه يكثر, وإنما أردت قرب منفعته -فهو هنا يريد الاختصار وما يعطي الحكم المقصود من الحديث، ويكتفي بحديث أو حديثين وإن كان هناك عدد من الأحاديث؛ فيترك ذلك لمن يريد أن يستوعب.
قال: وإذا أعدت الحديث في الباب من وجهين أو ثلاثة؛ فإنما هو من زيادة كلام فيه، وربما تكون فيه كلمة زيادة عن الأحاديث. فهو لم يكرر الحديث إلا لفائدة، وهذه الفائدة قد تكون كلمة أو جملة تعطي حكمًا زائدًا, أو تعطي توضيحًا للحكم الوارد في الحديث، قال: وربما اختصرت الحديث الطويل؛ لأني لو كتبته بطوله لم يعلم بعض من سمعه، ولا يُفهم موضع الفقه منه؛ فاختصرت لذلك. فهو يختصر اختصار الفقيه الذي يعطي ما يقصده الحديث من الفقه، ويزيل الزوائد، وهي مهمة شاقة لا ينهض بها إلا من له معرفة بالفقه والحديث.
ثم تكلم عن المراسيل فقال: وأما المراسيل؛ فقد كان يحتج بها العلماء فيما مضى مثل: الثوري ومالك والأوزاعي؛ حتى جاء الشافعي فتكلم فيها، وتابعه على ذلك أحمد بن حنبل وغيره -رضوان الله عليهم- فإذا لم يكن مسند غير المراسيل ولم يوجد المسند؛ فالمرسل يحتج به، وليس هو مثل المتصل في القوة -فهو لا يذكر الحديث المرسل إلا إذا لم يجد في الباب غيره، وعنده أن المرسل أيضًا يُحتج به كما احتج به الأئمة السابقون، أي: ما لم يظهر ما يدل على عدم اعتماده من شذوذ أو نكارة أو نحو ذلك؛ وإن لم يكن مثل المتصل في القوة من حيث وضوح سبب التصحيح.
قال: وليس في كتاب (السنن) الذي صنفته عن رجل متروك الحديث شيء، وهذا قد ينازع فيه -كما سيأتي في تفصيل الكلام- وإذا كان فيه حديث منكر بينت أنه منكر وليس على نحوه في الباب غيره، وهذه خاصية من خصائص اجتهاده في كتابه، وأحيانًا يبين العلة كما سنذكر.
ثم بيَّن مصدر كتابه والأحاديث التي وردت فيه، وأنه لم ينقل من كتب السابقين إلا القليل، قال: وهذه الأحاديث ليس منها في كتاب ابن المبارك ولا كتاب وكيع -أي: المصنفات- إلا الشيء اليسير، وعامته في كتاب هؤلاء مراسيل. فهو أتى بما لم يأتِ في كتاب ابن المبارك ولا في كتاب وكيع؛ وإذا أتى بشيء من الكتابين يأتي بالمتصل, ولا يأتي بالمراسيل التي في كتبهم.
قال: وفي كتاب (السنن) من (موطأ مالك بن أنس) شيء صالح، وكذلك من مصنفات حماد بن سلمة وعبد الرزاق. فالكتب التي قللت من المراسيل, أو لم تعتمد عليها جعلها أصولًا وأخذ منها، قال: وليس ثلث هذه الكتب -أي: التي في كتابه- فيما أحسبه في كتب جميعهم، أعني: مصنفات مالك بن أنس، وحماد بن سلمة، وعبد الرزاق؛ فهو أضاف إلى ما في هذه الكتب ما يوازي ثلث الكتاب من رواياته الأخرى, فأضاف إلى هذه الكتب ولم يعتمد عليها اعتمادًا كاملًا.
قال: وقد ألفته نسقًا على ما وقع عندي. وأراد أبو داود أن يقول: إن الأحاديث تتشابه، وكل إمام يخرج ما يراه مناسبًا بمنهجه في التخريج ورعايته لقواعد أصول الحديث، وأنه مع موافقته للأئمة الذين اعتمدوا الأحاديث الموصولة والسنن المرفوعة؛ فإنه أضاف إلى ذلك في كتابه ما يوازي الثلث، قال: وقد ألفته نسقًا على ما وقع عندي -أي: متتابعًا مرتبًا على الترتيب الذي اختاره- فإن ذكر لك عن النبي -صلى الله عليه وسلم- سنة ليس مما خرجته؛ فاعلم أنه حديث واهٍ إلا أن يكون في كتابي من طريق آخر, فإني لم أخرج الطرق؛ لأنه يكبر على المتعلم. فبين أنه جمع أقصى ما يمكن من سنن الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالأسانيد التي أخرجها على المنهج الذي اختاره, من أنه يختار أصح ما ورد في الباب أو في الحديث الذي يرويه من حيث الأسانيد، وأنه لا يكاد يسلم بسنة عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- غير ما ورد في كتابه, وهو ادعاء كبير؛ لأن الشافعي في رسالته لا يرى أن أحدًا -مهما بلغ من العلم- يجمع كل ما ورد من السنن عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-, وأن سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يحيط بها واحد، ولا تكاد تغيب عن كل واحد، أي: إن السنن مجموعة بمجهود جميع العلماء، وأن من أراد أن يجمعها كلها لا بد أن يفوت بعضها منه.
قال أبو داود: ولا أعرف أحدًا جمع على الاستقصاء غيري، وكان الحسن بن علي الخلال قد جمع منه قدر تسعمائة حديث، وذكر أن ابن المبارك قال: السنن عن النبي -صلى الله عليه وسلم- نحو تسعمائة حديث، فقيل له: إن أبا يوسف قال: هي ألف ومائة -أي: لابن المبارك- قال ابن المبارك: أبو يوسف يأخذ بتلك الهنات من هنا وهنا -أي: غير الثابت، نحو الأحاديث الضعيفة. أراد أبو داود فيما يتصل بالاستقصاء, والجمع أن يبين أنه فاق غيره ممن سبقه في ذلك، وهذا يسلَّم له.
ثم تكلم عن الأحوال الإسنادية وما يتصل بالحكم على الروايات التي رواها، حيث قال: وما كان في كتابي من حديث فيه وهن شديد فقد بينته، ومنها ما لا يصح سنده, وما لم أذكر فيه شيئًا فهو صالح, وبعضها أصح من بعض، وهذا لو وضعه غيري لقلت أنا فيه أكثر. فافتخر بما قام به في كتابه من الجمع المحيط -في نظره- ومن بيان ما فيه وهن، وما لا يصح سنده، وما سكت عنه صالح، أي: للاحتجاج به، قال: وبعضها أصح من بعض؛ فحكم بالقبول لغير ما لم يحكم عليه بالضعف أو الوهن.
وهذه المسألة في سننه تكلم عليها العلماء؛ هل ما لم يذكر فيه شيئًا وسكت عنه في كتابه صالحٌ بمعنى حسن أو صحيح, وليس فيه ضعف أو غير ذلك؟ قال ابن حجر: حكى ابن كثير في مختصره أنه رأى في بعض النسخ من (رسالة أبي داود) ما نصه: وما سكتُّ عليه فهو حسن، وبعضها أصح من بعض. قال: فهذه النسخة إن كانت معتمدة؛ فهو نص في موضع النزاع يتعين المصير إليه, ولكن نسخة روايتنا والنسخ المعتمدة التي وقفنا عليها ليس فيها هذا -أي: فيها “صالح” وليس فيها “حسن”.
وقال الزركشي: اعترض الشيخ أبو الفتح اليعمري على ابن الصلاح, وقال: لم يرسم أبو داود شيئًا بالحسن، وعمله بذلك شبيه بعمل مسلم بن حجاج الذي لا ينبغي أن يحمل كلامه على غيره, أنه اجتنب الضعيف الواهي وأتى بالقسمين الأول والثاني -أي: الثقات ثم من دونهم- وحديث من مثل به من الرواة من القسمين الأول والثاني موجودٌ في كتابه دون القسم الثالث؛ فهلا ألزم الشيخ أبو عمرو -أي: ابن الصلاح- مسلمًا من ذلك ما ألزم به أبا داود، فمعنى كلامهما واحد؟
وقول أبي داود وما يشبهه -يعني: في الصحة- وما يقاربه -يعني: فيها أيضًا- قال: وهو نحو قول مسلم: إنه ليس كل الصحيح نجده عند مالك وشعبة وسفيان؛ فاحتاج أن ينزل إلى مثل حديث ليث بن أبي سليم وعطاء بن السائب ويزيد بن أبي زياد؛ لما يشمل الكل من اسم العدالة والصدق, وإن تفاوتوا في الحفظ والإتقان، ولا فرق بين الطريقين غير أن مسلمًا شرط الصحيح؛ فيخرج من حديث الطبقة الثالثة، وأبا داود لم يشرط فذكر ما يشتد وهنه عنده والتزم البيان عنه، قال: وفي قول أبي داود: “إن بعضها أصح من بعض” ما يشير إلى القدر المشترك بينها في الصحة، وإن تفاوتت فيه لما تقتضيه صيغة “أفعل” في الأكثر.
قال ابن حجر عن أبي الفتح اليعمري, الذي زعم أن شرط أبي داود كشرط مسلم إلا في الأحاديث التي بيّن أبو داود ضعفها: إن مسلمًا شرط الصحيح؛ فليس لنا أن نحكم على حديث في كتابه بأنه حسن، وأبو داود إنما قال: ما سكت عنه فهو صالح، والصالح يجوز أن يكون صحيحًا وأن يكون حسنًا, والاحتياط أن يحكم عليه بالحسن.
وأجاب الحافظ صلاح الدين العلائي عن كلام أبي الفتح اليعمري بجواب أمتن من هذا، فقال ما نصه: هذا الذي قاله ضعيف, وقول ابن الصلاح أقوى؛ لأن درجات الصحيح إذا تفاوتت فلا نعني بالحسن إلا الدرجة الدنيا منها، والدرجة الدنيا منها لم يخرج مسلم منها شيئًا في الأصول؛ وإنما يخرجها في المتابعات والشواهد، قال: ويؤيد هذا ما رواه البيهقي بسند صحيح عن إبراهيم بن محمد بن سفيان -صاحب مسلم- أنه قال: صنّف مسلم ثلاثة كتب؛ أحدها: هذا الذي قرأه على الناس -يعني: (الصحيح)- والثاني: يدخل فيه عكرمة وابن إسحاق وأمثالهما، والثالث: يدخل فيه الضعفاء.
قال ابن حجر: وإنما اشتبه الأمر على القاضي عياض, ومن تبعه بأن الرواية عن أهل القسم الثاني موجودة في صحيحه؛ لكن فرض المسألة: هل احتج بهم كما احتج بأهل القسم الأول أم لا؟ والحق: أنه لم يخرج شيئًا مما انفرد به الواحد منهم؛ وإنما احتج بأهل القسم الأول, سواء تفردوا أو لا, ويخرج من أحاديث القسم الثاني ما يرفع به التفرد عن أحاديث القسم الأول؛ وكذلك إذا كان لحديث أهل القسم الثاني طرق كثيرة يعضد بعضها بعضًا فإنه قد يخرج ذلك، وهذا ظاهر بيِّن في كتابه ولو كان يخرج جميع أحاديث أهل القسم الثاني في الأصول, بل وفي المتابعات؛ لكان كتابه أضعاف ما هو عليه؛ ألا تراه أخرج لعطاء بن السائب في المتابعات وهو من المكثرين, ومع ذلك فما له عنده سوى مواضع يسيرة؟! وكذا محمد بن إسحاق -وهو من بحور الحديث- وليس له عنده في المتابعات إلا ستة أو سبعة، ولم يخرج لليث بن أبي سليم ولا ليزيد بن أبي زياد ولا لمجالد بن مسعود إلا مقرونًا، قال: وهذا بخلاف أبي داود؛ فإنه يخرج أحاديث هؤلاء في الأصول محتجًّا بها؛ ولأجل ذا تخلف كتابه عن شرط الصحة، وفي قول أبي داود: “وما كان فيه وهن شديد بينتُهُ” ما يفهم أن الذي يكون فيه وهن غير شديد, لا يبينه.
ومن هنا يتبين أن جميع ما سكت عليه أبو داود لا يكون من قبيل الحسن الاصطلاحي؛ بل على أقسام، منه ما هو في الصحيحين أو على شرط الصحة، ومنه ما هو من قبيل الحسن لذاته، ومنه ما هو من قبيل الحسن إذا اعتضد، قال: وهذان القسمان كثير في كتابه جدًّا -أي: ما سكت عليه أكثره حسن لذاته, أو حسن لغيره- ومنه ما هو ضعيف؛ لكنه من رواية من لم يجتمع على تركه غالبًا. وكل هذه الأقسام عنده تصلح للاحتجاج بها؛ كما نقل ابن منده عنه أنه يخرّج الحديث الضعيف إذا لم يجد في الباب غيره، وأنه أقوى من رأي الرجال، وهذا مخالف لأصحاب المصنفات الذين يرون أن آراء الرجال اجتهادٌ يستند إلى أحاديث صحيحة، وقد يكون أقوى من الحديث الضعيف.
وكذلك قال ابن عبد البر: كل ما سكت عليه أبو داود فهو صحيح عنده؛ لا سيما إن كان لم يذكر في الباب غيره، ومن هنا -كما قال ابن حجر- ضعف طريقة من يحتج بكل ما سكت عليه أبو داود؛ لأنه يخرج أحاديث جماعة من الضعفاء في الاحتجاج ويسكت عنها، مثل: ابن لهيعة، وصالح مولى التوءمة، وعبد الله بن محمد بن عقيل، وموسى بن وردان، وسلمة بن الفضل، ودلهم بن صالح، وغيرهم، قال: فلا ينبغي للناقد أن يقلده في السكوت على أحاديثهم ويتابعه في الاحتجاج بهم؛ بل طريقه أن ينظر: هل لذلك الحديث متابع فيعتضد به، أم هو غريب فيتوقف فيه؟ ولا سيما إن كان مخالفًا لرواية من هو أوثق منه؛ فإنه ينحطّ إلى قبيل المنكر، قال: وقد يخرج لمن هو أضعف من هؤلاء بكثير؛ كالحارث بن وجيه، وصدقة الدقيقي، وعثمان بن واقد العمري، ومحمد بن عبد الرحمن البيلماني، وأبي جناب الكلبي، وسليمان بن أرقم، وإسحاق بن عبد الله بن أبي فروة، وأمثالهم من المتروكين، قال: وكذلك ما فيه من الأسانيد المنقطعة، وأحاديث المدلسين بالعنعنة، والأسانيد التي فيها من أبهمت أسماؤهم؛ فلا يتجه الحكم لأحاديث هؤلاء بالحسن من أجل سكوت أبي داود؛ لأن سكوته تارةً يكون اكتفاءً بما تقدم له من الكلام في ذلك الراوي في نفس كتابه، وتارة يكون لذهول منه، وتارة يكون لشدة وضوح ضعف ذلك الراوي واتفاق الأئمة على طرح روايته؛ كأبي الحويرث ويحيى بن العلاء وغيرهما، وتارة يكون من اختلاف الرواة عنه وهو الأكثر؛ فإن في رواية أبي الحسن بن العبد عنه من الكلام على جماعة من الرواة والأسانيد ما ليس في رواية اللؤلؤي، وإن كانت روايته أشهر.
ثم ذكر أمثلة ذلك: ومنها: ما رواه من طريق الحارث بن وجيه عن مالك بن دينار عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة -رضي الله عنه- حديث: “إن تحت كل شعرة جنابة…” الحديث, قال: فإنه تكلم عليه في بعض الروايات فقال: هذا حديث ضعيف، والحارث حديثه منكر، وفي بعضها اقتصر على بعض هذا الكلام، وفي بعضها لم يتكلم فيه؛ فلا بد من مراعاة (سنن أبي داود) من حيث النسخ لنعرف كل كلامه في الرواة.
قال ابن حجر: وقد يتكلم على الحديث بالتضعيف البالغ خارج (السنن) ويسكت عنه فيها، ومن أمثلته: ما رواه في (السنن) من طريق محمد بن ثابت العبدي عن نافع أنه قال: انطلقت مع ابن عمر { في حاجة إلى ابن عباس {… فذكر الحديث في الذي سلّم على النبي -صلى الله عليه وسلم- فلم يرد عليه حتى تيمم، ثم رد السلام وقال: “إنه لم يمنعني أن أرد عليك, إلا أني لم أكن على طهر”. لم يتكلم عليه في (السنن) ولما ذكره في كتاب (التفرد) قال: لم يتابع أحد محمد بن ثابت على هذا، ثم حكى عن أحمد بن حنبل أنه قال: هو حديث منكر.
قال: وأما الأحاديث التي في إسنادها انقطاع أو إبهام؛ ففي الكتاب من ذلك أحاديث كثيرة، منها -وهو ثالث حديث في كتابه- ما رواه من طريق أبي التياح قال: حدثني شيخ قال: لما قدم ابن عباس البصرة؛ كان يحدث عن أبي موسى -رضي الله عنه-, فذكر حديث: “إذا أراد أحدكم أن يبول؛ فليرتَدْ لبوله موضعًا”، ولم يتكلم عليه في جميع الروايات, وفيه هذا الشيخ المبهم، ويقال لابن حجر: إن الانقطاع أو الإبهام في هذا الراوي لا يحتاج إلى تنبيه، قال ابن حجر: فالصواب عدم الاعتماد على مجرد سكوته؛ لما وصفنا أنه يحتج بالأحاديث الضعيفة ويقدمها على القياس إن ثبت ذلك عنه، والمعتمد على مجرد سكوته لا يرى الاحتجاج بذلك؛ فكيف يقلده فيه؟! وهذا جميعه إن حملنا قوله: “وما لم أقل فيه شيئًا؛ فهو صالح” على أن مراده أنه صالح للحجة وهو الظاهر، وإن حملناه على ما هو أعم من ذلك -وهو الصلاحية للحجة أو للاستشهاد أو للمتابعة- فلا يلزم منه أنه يحتج بالضعيف، ويُحتاج إلى تأمل تلك المواضع التي يسكت عليها وهي ضعيفة؛ هل فيها أفراد أم لا؟ إن وجد فيها إفراد تعين الحمل على الأول، وإلا حمل على الثاني، وعلى كل تقدير؛ فلا يصلح ما سكت عليه للاحتجاج مطلقًا.
وقد نبه على ذلك الشيخ النووي، فقال: في (سنن أبي داود) أحاديث ظاهرة الضعف, لم يبينها مع أنه متفق على ضعفها؛ فلا بد من تأويل كلامه، قال: والحق أن ما وجدناه في “سننه” مما لم يبينه ولم ينص على صحته أو حسنه أحد ممن يعتمد؛ فهو حسن، وإن نص على ضعفه من يعتمد، أو رأى العارف في سنده ما يقتضي الضعف ولا جابر له؛ حكم بضعفه ولم يلتفت إلى سكوت أبي داود.
ونذكر من تنبيه أبي داود على علة من العلل ما يدل على علمه في سننه: قال أبو داود: حدثنا نصر بن علي عن أبي علي الحنفي عن همام, عن ابن جريج عن الزهري, عن أنس أنه قال: “كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا دخل الخلاء وضع خاتمه”، قال أبو داود: هذا حديث منكر؛ وإنما يعرف عن ابن جريج عن زياد بن سعد عن الزهري عن أنس: “أن النبي -صلى الله عليه وسلم- اتخذ خاتمًا من وَرِقٍ, ثم ألقاه”، أي: من فضة.
قال: والوهم فيه من همام، ولم يروِه إلا همام؛ فهو حديث قلب همام المتن فيه ولم يعرف عن غيره.
فرأى أبو داود أن الحديث منكر؛ لأن النكارة هنا في المتن، وهمام ثقة، وإذا تفرد بحديث وخولف فيه يكون شاذًّا، وهذا مشروط فيما يرى أبو داود بأن يكون ما رواه أيضًا له ما يشهد له؛ فإن لم يكن له ما يشهد له وأنه جاء من عنده لا نعرف من أين جاء؛ فيعتبره منكرًا.
لكن العيني في شرحه يقول: المنكر: الحديث الذي ينفرد به الرجل ولا يعرف متنه في غير روايته، لا من الوجه الذي رواه منه ولا من وجه آخر، وهذا الذي اشترطه فيما يتصل بالمتن ليس ظاهرًا إلا في رواية الضعيف؛ أما إذا كان الراوي ثقة ولا يُعرف متنه في غير روايته, لا من الوجه الذي رواه ولا من وجه آخر وثبت أنه أخطأ في الحديث وانقلب عليه؛ فهذا هو الذي عناه أبو داود.
قال العيني: والأحسن أن يقال: إن الراوي المنفرد إذا كان عدلًا حافظًا موثوقًا بإتقانه وضبطه؛ قُبِل ما انفرد به ولم يقدح الانفراد منه, وإن لم يكن ممن يوثق بحفظه وإتقانه لذلك الذي انفرد به؛ كان انفراده خارمًا له مزحزحًا له عن حيز الصحيح، قال: فإذا كان الأمر كذلك، فإن تفرد همام بهذا الحديث لا يوهنه؛ لما ذكرنا من حال همام واتفاق البخاري ومسلم على الاحتجاج بحديثه، وغاية الباب أن يكون حديثه غريبًا؛ ولأجل هذا قال الترمذي عن هذا الحديث: حسن صحيح غريب؛ فيترجح كلام الترمذي على أبي داود بهذا الطريق، وكلام العيني عن الترمذي في نسخة أخرى: حسن غريب، وهو الذي يناسب الكلام في هذا، وأبو داود علّل للحديث وتعليله يبعد به عن أن يكون حسنًا؛ لأنه غلط وليس له أصل في المتون المروية عن الرسول -صلى الله عليه وسلم-, وجعله النسائي غير محفوظ -أي: شاذًّا- ونرى أن كلام أبي داود أدق وأحكم، وأن تعليله أصوب وأحسن.
قال أبو داود عن كتابه: وهو كتاب لا ترِد عليك سنة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بإسناد صالح إلا وهي فيه، إلا أن يكون كلام استُخرج من الحديث، ولا يكاد يكون هذا، قال: ولا أعلم شيئًا بعد القرآن ألزم للناس أن يتعلموه من هذا الكتاب، ولا يضر رجلًا ألا يكتب من العلم بعدما يكتب هذه الكتب شيئًا، وإذا نظر فيه وتدبره وتفهمه حينئذ يعلم مقداره.
ثم تحدث عن أصول كتابه فقال: وأما هذه المسائل -مسائل الثوري ومالك والشافعي- فهذه الأحاديث أصولها، قال: ويعجبني أن يكتب الرجل مع هذه الكتب من رأي أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-, ويكتب أيضًا مثل (جامع سفيان الثوري)؛ فإنه أحسن ما وضع الناس في الجوامع، قال: والأحاديث التي وضعتها في كتب السنن أكثرها مشاهير، وهي عند كل من كتب شيئًا من الحديث؛ إلا أن تمييزها -أي: وترتيبها في الكتاب- لا يقدر عليه كل الناس, والفخر بها أنها مشاهير؛ فإنه لا يحتج بحديث غريب ولو كان من رواية مالك ويحيى بن سعيد والثقات من أئمة العلم؛ فأما الحديث المشهور المتصل الصحيح, فليس يقدر أن يرده عليك أحد.
والمهم أن كتابه جمع أصول المصنفات والجوامع قبله فيما يتصل بأحكام الفقه وأمور الشريعة، ونقتصر على الكلام على كتابه بما ذكرناه.