كثرة الانقطاع والإبهام في (سنن أبي داود)
أما الأحاديث التي في إسنادها انقطاع أو إبهام ففي الكتاب من ذلك أحاديث كثيرة، منها -وهو ثالث حديث في كتابه- ما رواه من طريق أبو التياح قال: حدثني شيخ قال: لما قدم عبد الله بن عباس البصرة فكان يُحدِّث عن أبي موسى، فذكر حديث: “إذا أراد أحدكم أن يبول فليرتدَّ لبوله” لم يتكلم عليه في جميع الروايات، وفيه هذا الشيخ المبهم إلى غير من الأحاديث التي يمنع من الاحتجاج بها ما فيها من العلل؛ فالصواب عدم الاعتماد على مجرَّد سكوته لما وصفنا أنه يحتج بالأحاديث الضعيفة، ويقدمها على القياس إن ثبت ذلك عنه.
والمُعتَمِد على مجرد سكوته لا يرى الاحتجاج بذلك، فكيف يُقلِّده فيه، وهذا جميعه إن حملنا قوله: “وما لم أقل فيه شيئًا فهو صالح” على أن مراده أنه صالح للحجة، وهو ظاهر، وإن حملناه على ما هو أعمّ من ذلك وهو الصلاحية للحجة، أو للاستشهاد، أو للمتابعة؛ فلا يلزم منه أنه يحتجّ بالضعيف.
ويحتاج إلى تأمّل تلك المواضع التي يسكت عليها وهي ضعيفة هل فيها إفراد، أم لا، إن وُجد فيها إفراد؛ تعيَّن الحمل على الأول، وإلا حُمل على الثاني، وعلى كل تقدير فلا يصلح ما سكت عليه أبو داود للاحتجاج به مطلقًا.
وقد نبَّه على ذلك الشيخ محيي الدين النووي فقال: “في (سنن أبي داود) أحاديث ظاهرة الضعف لم يبينها، مع أنه متفق على ضعفها؛ فلا بد من تأويل كلامه”، ثم قال: “والحق أن ما وجدناه في سننه لم يبينه، ولم ينص على صحته أو حسنه أحد ممن يُعتمد قوله في التصحيح والتحسين فهو حسن، وإن نص على ضعفه من يُعتمد قوله، أو رأى العارف في سنده ما يقتضي الضعف، ولا جابر له؛ حُكم بضعفه ولم يلتفت إلى سكوت أبي داود”.
قلت: وهذا هو التحقيق، لكنه خالف ذلك في مواضع من (شرح المهذب) وغيره من تصانيفه، فاحتج بأحاديث كثيرة من أجل سكوت أبي داود عليها؛ فلا يُغترُّ بذلك، والله أعلم.
لذلك لا يُحكم على ما سكت عليه أبو داود في سننه بأنه حسنٌ على اصطلاح أهل الحديث؛ فقد يكون ما سكت عليه ضعيف يصلح للاحتجاج به في بابه بالشروط المذكورة على ما ذهب إليه أبو داود وغيره من الأئمة، قال أبو داود: “وما كان في كتابه من حديث به وهنٌ شديد بينته”، وقال أيضًا: “وإذا كان فيه حديث منكر بيَّنت أنه منكر، وليس على نحوه في الباب غيره”.
فما مراد أبي داود بذلك، هل يُبين وهنَ كل حديث عقبه، ولو تكرر إسناد ذلك الحديث بعينه في موضع آخر من (السنن)، أم أنه يبين ما في الإسناد من وهنٍ في الموضع الأول الذي يُورد الحديث، فيه فإذا تكرر ذلك الإسناد في كتابه (السنن) لم يبين ما فيه من وهنٍ؛ اعتمادًا على أنه ذكره قبل ذلك، ومعنى ذلك أنه لا يذكر ما في الإسناد من وهنٍ إلا مرة واحدة، وإن تكرر ذلك في كتابه (السنن).