Top
Image Alt

كلام الأئمة على الضمير في قوله: ((على صورته))، إلى مَن يعود؟

  /  كلام الأئمة على الضمير في قوله: ((على صورته))، إلى مَن يعود؟

كلام الأئمة على الضمير في قوله: ((على صورته))، إلى مَن يعود؟

اختُلف في ذلك على ثلاثة أقوال:

القول الأول: أن الضمير يعود على المضروب:

وإلى هذا ذهب ابن خزيمة -رحمه- الله في كتاب (التوحيد)، حيث قال: توهم بعض مَن لم يتحرَّ العلم أن قوله: ((على صورته)) يريد صورة الرحمن عز وجل عن أن يكون هذا معنى الخبر، بل معنى قوله: ((خلق آدم على صورته)) الهاء في هذا الموضع كناية عن اسم المضروب والمشتوم، أراد صلى الله عليه وسلم أن الله خلق آدم على صورة هذا المضروب، الذي أمر الضارب باجتناب وجهه بالضرب، والذي قبح وجهه، فزجر صلى الله عليه وسلم أن يقول: ووجه من أشبه وجهك، لأن وجه آدم شبيه وجوه بنيه، فإذا قال الشاتم لبعض بني آدم: قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك، كان مقبحًا وجه آدم صلى الله عليه وسلم  الذي وجوه بنيه شبيهة بوجه أبيهم، فتفهموا -رحمكم الله- معنى الخبر، لا تغلطوا، فتضلوا عن سواء السبيل، وتحملوا على القول بالتشبيه الذي هو ضلال. اهـ.

ومثله قال أبو حاتم ابن حبان حيث قال -بعد تخريج هذا الحديث: يريد به صورة المضروب؛ لأن الضارب إذا ضرب وجه أخيه المسلم ضرب وجهًا خلق الله آدم على صورته.

قال ابن حجر: واختلف في الضمير على مَن يعود؟ فالأكثر على أنه يعود على المضروب؛ لما تقدم من الأمر بإكرام وجهه، ولولا أن المراد التعليل بذلك لم يكن لهذه الجملة ارتباط بما قبلها.

وقد ردَّ هذا القول:

قال ابن قتيبة في (تأويل مختلف الحديث) في سرد لأقوال الأئمة في تأويل هذا الحديث. ومنها: أن المراد أن الله خلق آدم على صورة الوجه، قال: وهذا لا فائدة فيه، والناس يعلمون أن الله تبارك وتعالى خلق آدم على خلق ولده، وجهه على وجوههم، وزاد قوم في الحديث أنه صلى الله عليه وسلممر برجل يضرب وجه رجل آخر، فقال: “لا تضربه، فإن الله تعالى خلق آدم صلى الله عليه وسلم على صورته” أي: صورة المضروب، وفي هذا القول من الخلل ما في الأول.

وهذه الزيادة التي ذكرها ابن قتيبة في حديث الصورة وهي “أن النبي صلى الله عليه وسلم مرَّ برجل يضرب رجلًا آخر، فقال: لا تضربه” قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- عنها: هذا شيء لا أصل له، ولا يعرف في شيء من كتب الحديث.

وقد قال الطبراني في كتاب (السنة): حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: قال رجل لأبي: إن رجلًا قال: خلق الله آدم على صورته، أي: صورة الرجل، فقال: كذب، هذا قول الجهمية، وأي فائدة في هذا.

وقد نقل شيخ الإسلام ابن تيمية عن الشيخ محمد الكرخي الشافعي أنه قال في كتابه (الفصول في الأصول عن الأئمة الفحول إلزامًا لذوي البدع والفضول) ما نصه: فأما تأويل من لم يتابعه عليه الأئمة فغير مقبول.

وإن صدر ذلك عن إمام معروف غير مجهول، نحو ما ينسب إلى أبي بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة في تأويل الحديث: ((خلق آدم على صورته)) فإنه يفسر ذلك بذلك التأويل، ولم يتابعه عليه من قبله من أئمة الحديث، لما رويناه عن أحمد -رحمه الله- ولم يتابعه أيضًا من بعد.

ثم قال شيخ الإسلام: قلت: فقد ذكر الحافظ أبو موسى المديني فيما جمعه من مناقب الإمام الملقب بقوام السنة أبي القاسم إسماعيل بن محمد التميمي صاحب كتاب (الترغيب والترهيب)، قال: سمعته يقول: أخطأ محمد بن إسحاق بن خزيمة في حديث الصورة، ولا يطعن عليه بذلك، بل لا يؤخذ عنه فحسب.

قال أبو موسى: أشار بذلك إلى أنه قلَّ من إمام إلا وله زلة، فإذا ترك ذلك الإمام لأجل زلته، ترك كثير من الأئمة، وهذا لا ينبغي أن يفعل.

وقال الذهبي -رحمه الله- في السير في ترجمة محمد بن إسحاق بن خزيمة: وكتابه في (التوحيد) مجلد كبير، وقد تأول في ذلك حديث الصورة، فليعذر من تأول بعض الصفات, وأما السلف فما خاضوا في التأويل بل آمنوا وكفوا, وفوضوا علم ذلك إلى الله ورسوله, ولو أن كل من أخطأ في اجتهاده -مع صحة إيمانه، وتوخيه لاتباع الحق- أهدرناه، وبدَّعناه, لقل مَن يسلم من الأئمة معنا, رحم الله الجميع بمنه وكرمه.

وقد ساق شيخ الإسلام ابن تيمية في نقض التأسيس ثلاثة عشر وجهًا لإبطال هذا القول، منها:

الوجه الأول: أنه في مثل هذا لا يصلح إفراد الضمير، فإن الله خلق آدم على صورة بنيه كلهم، فتخصيص واحد لم يتقدم له ذكر بأن الله خلق آدم على صورته في غاية البعد، لا سيما وقوله: ((وإذا قاتل أحدكم))، ((وإذا ضرب أحدكم)) عامٌّ في كل مضروب، والله خلق آدم على صورهم جميعهم، فلا معنى لإفراد الضمير، وكذلك قوله: ((لا يقولن أحدكم قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك)) عام في كل مخاطب، والله قد خلقهم كلهم على صورة آدم.

الوجه الثاني: أن ذرية آدم خلقوا على صورة آدم، لم يخلق آدم على صورهم، فإن مثل هذا الخطاب إنما يقال فيه: خلق الثاني المتأخر في الوجود على صورة الأول المتقدم وجوده، لا يقال: إنه خلق الأول على صورة الثاني المتأخر في الوجود، كما يقال: خلق الخلق على غير مثال ونسيج هذا على منوال هذا.

الوجه الثالث: أنه إذا أريد مجرد المشابهة لآدم وذريته لم يحتج إلى لفظ خلق على كذا، فإن هذه العبارة إنما تستعمل فيما فطر على مثال غيره، بل يقال: إن وجهه يشبه وجه آدم، وإن صورته تشبه صورة آدم.

الوجه الرابع: أنه لو كانت علة النهي عن شتم الوجه وتقبيحه أنه يشبه وجه آدم؛ لنَهى أيضًا عن الشتم والتقبيح وسائر الأعضاء، لا يقولن أحدكم: قطع الله يدك ويد من أشبه يدك… إلخ ما ذكره..

القول الثاني: أن الضمير يعود إلى آدم:

وهو مروي عن أبي ثور إبراهيم بن خالد الكلبي، ذكره القاضي أبو الحسين في (طبقات الحنابلة) في ترجمة محمد بن علي الجرجاني، المعروف بحمدان أنه قال: سألت أبا ثور عن قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله خلق آدم على صورته)) فقال: على صورة آدم.

ونقله الإمام أحمد عن بعض محدثي البصرة، كما في (نقض التأسيس) لشيخ الإسلام ابن تيمية. وسياق الحديث يدل على هذا المعنى ويقويه، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: ((خلق الله آدم على صورته وطوله ستون ذراعًا, ثم قال: اذهب فسلم على أولئك النفر، وهم نفر من الملائكة جلوس، فاستمع ما يحيونك، فإنها تحيتك وتحية ذريتك، فذهب فقال: السلام عليكم، فقالوا: السلام عليك ورحمة الله، فزادوه: ورحمة الله، فكل مَن يدخل الجنة على صورة آدم في طوله ستون ذراعًا، فلم تزل الخلق تنقص بعده حتى الآن)). صححه الألباني في (صحيح الجامع).

فقوله: ((فكل من يدخل الجنة على صورة آدم في طوله ستون ذراعًا)) نصٌّ قاطع في أن الصورة مقصود بها صورة آدم وليست صورة الله، وذكر البيهقي في (الأسماء والصفات) في كون الضمير يعود إلى آدم عن أبي سليمان الخطابي وأقرَّه.

ونسبه ابن قتيبة إلى أهل الكلام، فقال: فقال قوم من أصحاب الكلام: أراد خلق آدم على صورة آدم لم يزد على ذلك. وإليه ذهب العراقي في (طرح التثريب).

وقد رد الأئمة هذا القول وأبطلوه وبدَّعوا قائله:

فقد قال الإمام أحمد – لما ذكر له قول أبي ثور المتقدم: من قال: إن الله خلق آدم على صورة آدم، فهو جهمي، وأيُّ صورة كانت لآدم قبل أن يخلقه؟ وقال ابن قتيبة -بعد ذكره لهذا القول: ولو كان المراد هذا، ما كان في الكلام فائدة، ومن يشك في أن الله تعالى خلق الإنسان على صورته، والسباع على صورها، والأنعام على صورها.

وقد ساق شيخ الإسلام ابن تيمية لفساد هذا القول تسعة أوجه في كتابه (نقض التأسيس)، من هذه الأوجه:

الوجه الأول: أنه إذا قيل: “إذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه، فإن الله خلق آدم على صورة آدم، أو لا تقبحوا الوجه، ولا يقل أحدكم قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك، فإن الله خلق آدم على صورة آدم”، كان هذا من أفسد الكلام، فإنه لا يكون بين العلة والحكم مناسبة أصلًا، فإن كون آدم مخلوقًا على صورة آدم، فأي تفسير فسر به فليس في ذلك مناسبة للنهي عن ضرب وجوه بَنِيه، ولا عن تقبيحها وتقبيح ما يشبهها، وإنما دخل التلبيس بهذا التأويل، حيث فرق الحديث المروي: ((إذا قاتل أحدكم فليتق الوجه)) مفردًا، وروي قوله: ((إن الله خلق آدم على صورته)) مفردًا، أما مع أداء الحديث على وجهه، فإن عَوْد الضمير إلى آدم يمنع فيه، وذلك أن خلق آدم على صورة آدم سواء كان فيه تشريف لآدم، وكان فيه إخبار مجرد بالواقع، فلا يناسب هذا الحكم.

الوجه الثاني: أن الله خلق سائر أعضاء آدم على صورة آدم، فلو كان مانعًا من ضرب الوجه وتقبيحه؛ لوجب أن يكون مانعًا من ضرب سائر الوجوه وتقبيح سائر الصور، وهذا معلوم الفساد في العقل والدين، وتعليل الحكم الخاص بالعلة المشتركة من أقبح الكلام، وإضافة ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم لا يصدر إلا عن جهل عظيم ونفاق شديد؛ إذ لا خلافَ في علمه وحكمته وحسن كلامه وبيانه.

الوجه الثالث: أن هذا تعليل للحكم بما يوجب نفيه، وهذا من أعظم التناقض، وذلك أنهم تأولوا الحديث على أن آدم لم يخلق من نطفة وعلقة ومضغة، وعلى أنه لم يتكون في مدة طويلة بواسطة العناصر، بَنوه قد خُلقوا من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة، وخلقوا في مدة عناصر الأرض، فإن كانت العلة المانعة من ضرب الوجه وتقبيحه كونه خلق على ذلك الوجه، وهذه العلة منتفية في بينه، فينبغي أن يجوز ضرب وجوه بنيه وتقبيحها؛ لانتفاء العلة فيها أن آدم هو الذي خلق على صورة دونهم، إذ هم لم يخلقوا كما خلق آدم على صورهم التي هم عليها، بل نقلوا من نطفة إلى علقة إلى مضغة.. إلخ.

والعجب أن ابن حجر في (الفتح) قال: وزعم بعضهم أن الضمير يعود على آدم، أي: على صفته، أي: خلقه موصوفًا بالعلم الذي فضل به الحيوان، وهذا محتمل. قال الشيخ التويجري -رحمه الله: وما أبعده من الاحتمال، وإنما هو قول باطل مردود بالنص على أن الله خلق آدم على صورة الرحمن.

وقد ذكر الإمام أحمد هذا القول فيما أملاه على بعض أصحابه من أقوال أهل السنة والجماعة, قال القاضي أبو الحسين في (طبقات الحنابلة) في ترجمة أبي جعفر محمد بن عوف بن سفيان الطائي الحمصي: نقلت من خط أحمد الشنجي بإسناده، قال: سمعت محمد بن عوف يقول: أملى عليَّ أحمد بن حنبل -فذكر جملة من المسائل التي أملاها عليه مما يعتقده أهل السنة والجماعة، ومنها: أن آدم صلى الله عليه وسلم خُلق على صورة الرحمن كما جاء الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحكاه شيخ الإسلام ابن تيمية عن جمهور السلف.

وقال ابن جحر: وقال القرطبي: أعاد بعضهم الضمير على الله متمسكًا بما ورد في بعض طرقه: “إن الله خلق آدم على صورة الرحمن”.

وبكل حال لا يلزم من إثبات الصورة مماثلة الخالق بالمخلوق، فإن الله: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِير} [الشورى: 11].

واختلاف أهل السنة أئمة السلف في كون هذا الحديث دليلًا على إثبات الصورة لله تعالى، وأما إثباتها في الجملة لله تعالى فلا شك ولا ريب فيه بنصوص أخرى غير هذا الحديث.

قال ابن قتيبة -رحمه الله: “والذي عندي -والله تعالى أعلم- أن الصورة ليست بأعجب من اليدين، والأصابع، والعين، وإنما وقع الإلف لتلك؛ لمجيئها في القرآن، ووقعت الوحشة من هذه لأنها لم تأتِ في القرآن، ونحن نؤمن بالجميع، ولا نقول في شيء منه بكيفية ولا حد”. وقد انتصر لهذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية في (نقض التأسيس). وقد ذهب بعض أهل السنة والجماعة إلى أن إضافة الصورة إلى الله من باب التشريف والتكريم, كقوله: تعالى: {نَاقَةُ اللّهِ} [الأعراف: 73] وكما يقال في الكعبة: بيت الله، ونحو ذلك. إلا أن إجراء النص على ظاهره، وما اشتهر من معناه مع نفي التمثيل أولى، كما هو مذهب جمهور السلف.

error: النص محمي !!