Top
Image Alt

كلام الحفاظ: ابن الصلاح، والعراقي، وابن حجر عن معلقات الصحيحين

  /  كلام الحفاظ: ابن الصلاح، والعراقي، وابن حجر عن معلقات الصحيحين

كلام الحفاظ: ابن الصلاح، والعراقي، وابن حجر عن معلقات الصحيحين

قال الحافظ ابن الصلاح:

“وما ادّعاه بعض أهل المغرب على البخاري مخالفٌ لِما قاله مَن هو أقدمُ منهم وأعرف بالبخاري، وهو: أبو جعفر بن حمدان النيسابوري؛ فقد قال: “كلّ ما قال البخاري: “قال لي فلان”، فهو عرْض ومُناولة، ولم أجدْ لفظ “التعليق” مستعملًا فيما سقط فيه بعض رجال الإسناد من وسَطه أو من آخِره، ولا في مثْلِ: “يُروى عن فلان”، و”يُذكَر عن فلان”، وما أشبهه ممّا ليس فيه جَزْم بأنه قاله. وكأنّ هذا “التعليق” مأخوذ مِن: تعليق الجدار والطّلاق، لاشتراكهما في قطْع الاتّصال”.

قال الحافظ العراقي:

“وقد سمّى غير واحد من المتأخِّرين ما ليس بمجزوم: تعليقًا، منهم الحافظ أبو الحجاج المزّي، كقول البخاري في باب: “مسّ الحرير من غير لُبس”: “ويُروى فيه عن الزبيدي عن الزهري، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم”، فذَكَره المزّي في الأطراف، وعلّم عليه علامة “التعليق” للبخاري. وكذا فعَل غيرُ واحد من الحُفّاظ، يقولون: ذكَره البخاري تعليقًا مجزومًا، أو تعليقًا غيرَ مجزوم به، إلّا أنه يجوز أنّ هذا الاصطلاح متجدّد، فلا لوْم على ابن الصلاح في قوله إنه لم يجدْه.

وينبغي أن يقال: ما كان من ذلك ونحوه بلفظ فيه جزْم، وحَكَم به على مَن علّقه عنه، فقد حكم بصحّته عنه. ومثاله قد سبق ذكْره. وقد قال ابن الصلاح مِن ضِمن الأمثلة: “قال القعنبي كذا”، “روى أبو هريرة كذا”، وما أشبه ذلك من العبارات؛ فكلّ ذلك حُكم منه على مَن ذَكَره عنه بأنه قد قال ذلك ورواه. فلن يستجيز البخاري إطلاق ذلك إلّا إذا صحّ عنده ذلك عنه. ثم إذا كان الذي علّق الحديث عنه دون الصحابة، فالحُكم بصحّته يتوقّف على اتّصال الإسناد بيْنه وبين الصحابي. وأمّا ما لم يكن في لفْظه جزْم وحُكْم، مثل: “رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا”، “ورُوي عن فلان كذا”، “وفي الباب عن النبي صلى الله عليه وسلم كذا وكذا”، وما أشبهَه من الألفاظ، ليس منه حُكمًا بصحّة ذلك على مَن ذَكَره عنه، لأنّ مثل هذه العبارات تُستعمل في الحديث الضعيف أيضًا، ومع ذلك فإيراده له في أثناء الصحيح مُشعِرٌ بصحّة أصْلِه إشعارًا يُؤنَس به ويُركَن إليه.

ثم إنّ قول الحافظ ابن الصلاح: “وهو في مسلم قليل جدًّا”، فهو كما ذكَر؛ فقد قال الحافظ العراقي: “ولكني رأيت أن أبيِّن موضع ذلك القليل، ليُضبَط. فمن ذلك قول مسلم في التيمم: “وروى الليث بن سعد قال: حدثني جعفر بن ربيعة، عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج، عن عمير مولى ابن عباس، أنه سمِعه يقول: “أقبلتُ أنا وعبد الله بن يسار مولى ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم حتى دخلنا على أبي الجُهيْن بن الحارث بن الصِّمّة الأنصاري، فقال أبو الجهين: ((أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من نحو بير جمل…)) الحديث”.

وقال مسلم في البيوع: “وروى الليث بن سعد قال: حدثني جعفر بن ربيعة، عن عبد الرحمن بن هرمز، عن عبد الله بن كعب بن مالك، عن كعب بن مالك: أنه كان له مال على عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي… الحديث”.

وقال مسلم في الحدود: “وروى الليث أيضًا، عن عبد الرحمن بن خالد بن مسافر، عن ابن شهاب، بهذا الإسناد مثله. وهذان الحديثان الأخيران قد رواهما مسلم قبل هذيْن الطريقيْن متصلًا، ثم عقّبهما بهذيْن الإسناديْن المعلّقيْن؛ فعلى هذا، ليس في كتاب مسلم بعد المقدّمة حديث معلّق لم يُوصلْه، إلا حديث أبي الجهين المذكور. وفيه بقيّة أربعة عشر موضعًا رواه متّصلًا، ثم عقّبه بقوله: “ورواه فلان”. وقد جمعها الرشيد العطار في “الغرر المجموعة”.

قال الحافظ العراقي: “وقد بيّنتُ ذلك كلّه في كتاب جمعتُه فيما تُكلِّم فيه من أحاديث “الصحيحيْن” بضعف أو انقطاع، والله أعلم”.

قال الحافظ ابن حجر:

“وفي هذا أمور:

الأوّل: فيه بقيّة أربعة عشر ليس فيه عند الرشيد إلّا ثلاثة عشر، والذي أوقع الشيخ في ذلك: أن أبا علي الجياني، وتبعه المازري ذكر أنها أربعة عشر، لكن لمّا سردها أورد منها حديثًا مكرّرًا، وهو حديث ابن عمر: “أرأيتَكم ليلتكم هذه”، هذا الذي كُرِّر، فصارت العُدّة ثلاثة عشر، كما سأذكرها مفصّلة. وقد نبّه على الموضع ابن الصلاح في مقدّمة (شرح مسلم)، وتبعه النووي.

الثاني: قوله: “إنه يرويه متصلًا”، ثم عقّبه بقوله: “ورواه فلان”، ليس ذلك في جميع الأحاديث المذكورة، وإنما وقع ذلك منه في ستّة أحاديث:

الأول: في حديث أبي جُهين، كما ذكره الشيخ.

والثاني والثالث: في حديثَي الليث -كما ذكرهما الشيخ- وأنّ مسلمًا وصَلهما من طريق أخرى.

والرابع: في حديث أبي هريرة  في قصة ماعز، قال: “ورواه الليث عن عبد الرحمن بن خالد”، بعد أن أورده من طريق غيره.

والخامس: في حديث البراء بن عازب  في الصلاة الوسطى، قال: “ورواه الأشجعي عن سفيان، عن الأسود بن قيس”، بعد أن أورده من طريق أخرى عن البراء بن عازب.

والسادس: في حديث عوف بن مالك، حديث: ((خيارُ أئمّتِكم الذين تُحبُّونهم))، قال: “ورواه معاوية بن صالح”.

وأما السبْعة الثانية:

فأحدها: في الجنائز، في حديث عائشة, في خروجه صلى الله عليه وسلم إلى البقيع، قال فيه: “حدثني من سمِع حجاجًا الأعور، قال: حدثنا ابن جريج”، أورده عقِب حديث ابن وهب عن ابن جريج.

ثانيها: في صفة النبي صلى الله عليه وسلم: “حُدِّثتُ عن أبي أسامة، وممّن روى ذلك عنه: إبراهيم بن سعيد الجوهري”. وهذا وصَلَه الجلودي صاحب ابن سفيان، قال: “حدثنا محمد بن المسيّب قال: حدّثنا إبراهيم بن السعيد”.

ثالثها: في باب السكوت بين التكبير والقراءة، حديث أبي هريرة، قال: “حُدِّثْتُ عن يحيى بن حسّان ويونس بن محمد وغيرهما، قالوا: حدّثنا عبد الواحد”، أورده عقب حديث أبي كامل الجحدري، عن عبد الواحد.

رابعها: في باب وضْع الجوائح، من حديث عمرة عن عائشة، قالت: ((سمِع النبي صلى الله عليه وسلم صوتَ خصوم بالباب…)) الحديث، قال فيه: “حدّثني غير واحد من أصحابنا، قالوا: حدثنا إسماعيل بن أبي أُوَيس”، وهذا لم يورده إلّا من طريق عمرة.

خامسها: في باب احتكار الطعام، في حديث معمر العدوي أنه قال: “حدثني بعض أصحابنا عن عمرو بن عون”، وقد وصَلَه من طريق أخرى عن سعيد بن المسيّب.

سادسها: في آخِر كتاب النّذر، في حديث أبي سعيد:((لَتَركَبُنّ سُنَن مَن كان قبْلَكم))، قال: “حدّثني عدّة من أصحابنا، عن سعيد بن أبي مريم، عن أبي غسّان، عن زيد بن أسلم”، وقد وصَله من طريق حفص بن ميسرة، عن زيد بن أسلم.

سابعها: في كتاب الصلاة، في حديث كعب بن عجرة أنه قال فيه: “حدثنا صاحبٌ لنا قال: حدّثنا إسماعيل بن زكريا”، كذا ذكر الجياني أنه وقع في روايتهم. وأمّا الذي في رواية الجلودي عند المشارقة، فقال مسلم فيه: “حدّثنا محمد بن بكار قال: حدثنا إسماعيل بن زكريا…”. والحديث المذكور عنده من طُرُق أخرى من غير هذا الوجه.

فعلى هذا، فهي اثنا عشر حديثًا فقط: ستّة منها بصيغة التعليق، وستّة منها بصيغة الاتصال، لكن أُبْهم في كلّ واحد منها اسمُ مَن حدّثه. فإن كان الشيخ يرى أنها منقطعة كما يقول الجياني ومَن تَبِعه، فكان حقّ العبارة أن يقول: “وفيه بقية ثلاثة عشر موضعًا منقطعًا”، لا كما قال: “إنه يقول: “ورواه فلان”. وإن كان يرى أنها متّصلة، كما هو المعروف عن جمهور أهل الحديث، وكما صرّح هو به في موضع آخَر، فكان حقّ العبارة أن يقول: “وفيه بقيّة ستّة مواضع رواه متصلًا، ثم عقّبه بقوله: “ورواه فلان”، وفيه مواضع أخرى قيل إنها منقطعة، وليست بمنقطعة”.

قوله: “إنه ليس في مسلم بعد المقدّمة حديثٌ معلّق لم يوصله من طريق أخرى، إلّا حديث أبي الجهين”، قال الحافظ ابن حجر: “هذا صحيح بقيْد “التعليق”، لكن قد بيّنّا أن الذي بصيغة “التعليق”، إنما هو: ستّة لا أكثر. أمّا على رأي الجياني ومَن تَبِعه في تسمية المُبهم “منقطعًا”، فإنّ فيها حديثيْن آخَريْن لم يوصلهما في مكان آخر.

الحديث الأول: حديث عمرة عن عائشة,في الجوائح-كما بيّنّاه سابقًا- فإنه ما أوروده إلّا في تلك الطريق.

الحديث الثاني: حديث أبي موسى الأشعري  الذي قال فيه: “حُدِّثتُ عن أبي أسامة “، وقد تقدّم أنّ الجلودي وصَلَه”. قال: “وعندي: أنه ملتحِق بما صُورَته “التعليق”، وهو موصول على رأي ابن الصلاح؛ فإن مسلمًا قال: “حُدِّثْت عن أبي أسامة”، فلو اقتصر على هذا، لكان متّصلًا في إسناد مُبهم -على ما قرّرناه- منقطع على رأي الجياني. لكن زاد بعد ذلك، فقال: “وممّن روى ذلك عنه: إبراهيم بن سعيد الجوهري”، وإبراهيم هذا من شيوخ مسلم، قد سمع منه غير هذا، وأخرج عنه ممّا سمعه في “صحيحه” غيرَ هذا مُصرِّحًا به”.

وقد قرّر ابن الصلاح: أنّ المعلِّق إذا سمّى بعضَ شيوخه، وكان غيرَ مدلِّس، حُمِل على أنه سمِعه منه، كما ذكر ذلك في حديث هشام بن عمار الذي أخرجه البخاري في تحريم المعازف. ولا فرْق بين أن يقول المعلِّق: “قال”، أو “روى”، أو “ذكر”، وما أشبه ذلك من الصّيَغ التي ليست بصريحة؛ فهذا منها.

قال الحافظ ابن حجر: “وقد عثرتُ في (صحيح مسلم) على شيء غير هذا ممّا يلتحق بهذا، وبيّنتُه فيما كتبتُه من (النّكت على شرح مسلم) للنّووي.

وأكثرُ ما في البخاري من ذلك موصول في موضع آخَر من كتابه، وإنما أورده معلَّقًا اختصارًا ومجانبةً للتّكرار. والذي لم يُوصله البخاري في موضع آخَر: مائة وستّون حديثًا، وصلَها شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر في تأليف لطيف سمّاه: (التوفيق). وله في جميع التعليق والمتابعات والموقوفات كتاب جليل بالأسانيد، سمّاه: (تغليق التعليق). واختصره بلا أسانيد في آخَر سمّاه: (التشويق إلى وصْل المُهمّ من التعليق). وما كان من المعلّق بصيغة الجزم، كـ”قال”، و”فعَل”، و”أمَر”، و”رَوى”، و”ذَكَر فلان”، فهو حُكم بصحّته عن المضاف إليه؛ لأنه لا يستجيز أن يَجزم بذلك عنه إلّا وقد صحّ عنده عنه. لكن لا يُحكم بصحّة الحديث مطلقًا، بل يتوقّف على النّظر فيمن أبرز من رجاله، وذلك أقسام:

القسم الأول: ما يلتحق بشرْطه، والسبب في عدم إيصاله: إمّا الاستغناء بغيره عنه، مع إفادة الإشارة إليه، وعدم إهماله بإيراده معلّقًا اختصارًا، وإمّا كونه لم يسمعه من شيخه، أو سمعه مذاكرة، أو شكّ في سماعه، فما رأى أنه يسوقه مساق الأصول. ومن أمثله ذلك: قوله في الوكالة: “قال عثمان بن الهيثم: حدثنا عوْن قال: حدثنا محمد بن سيرين، عن أبي هريرة, أنه قال: ((وكلَني رسول الله صلى الله عليه وسلم بزكاة رمضان…)) الحديث، وأورده في فضائل القرآن، وذكر إبليس، ولم يقل في موضع منها: “حدثنا عثمان”؛ فالظاهر: عدم سماعه له منه”.

قال الحافظ ابن حجر: “وقد استعمل هذه الصيغة فيما لم يسمعه من مشايخه في عدّة أحاديث، فيوردها منهم بصيغة: “قال فلان”، ثم يوردها في موضع آخَر بواسطة بيْنه وبيْنهم، كما قال في التاريخ: “قال إبراهيم بن موسى قال: حدثنا هشام بن يوسف”، فذكر حديثًا، ثم يقول: “حدّثوني بهذا عن إبراهيم قال”، ولكن ليس ذلك مطردًا في كلّ ما أورده وبهذه الصيغة؛ لكن مع هذا الاحتمال لا يجمل حَمْل ما أورده بهذه الصيغة على أنه سمِعه من شيوخه. وبهذا القول يندفع اعتراض العراقي على ابن الصلاح في تمثيله بقوله: “قال عفّان”، و”قال القعنبي”، كونهما من شيوخه، وأنّ الرواية عنهم ولو بصيغة لا تصرِّح بالسماع محمولةٌ على الاتّصال.

إذًا هو ما يلتحق بشرْطه ولم يقلْ أنه على شرْطه؛ لأنه وإن صحّ فليس من نمط الصحيح المسنَد فيه؛ نبّه على هذا الحافظ ابن كثير.

القسم الثاني: ما لا يلتحق بشرْطه، ولكنه صحيح على شرْط غيره، كقوله في الطهارة: “وقالت عائشة: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كلّ أحيانه)) أخرجه مسلم في (صحيحه).

القسم الثالث: ما هو حسَن صالح للحجّة، كقوله فيه: “وقال بهز بن حكيم عن أبيه، عن جّده: ((الله أحقّ أن يُستحَى منه))، وهو حديث حسَن مشهور، أخرجه أصحاب “السُّنن”.

القسم الرابع: ما هو ضعيف، لا من جهة قدْحٍ في رجاله، بل من جهة انقطاع يسيرٍ في إسناده. قال الإسماعيلي: “قد يصنع البخاري ذلك، إمّا لأنه سمِعه من ذلك الشيخ بواسطة من يَثِق به عنه، وهو معروف مشهور عن ذلك الشيخ، أو لأنه سمِعه ممّن ليس على شرط الكتاب؛ فنبّه على ذلك الحديث بتسمية مَن حدّث به، لا على التحديث به عنه، كقوله في الزكاة: “وقال طاوس: قال معاذ بن جبل لأهل اليَمن: ائتوني بعَرض ثياب” الحديث. فإسناده إلى طاوس صحيح، إلا أنّ طاوسًا لم يسمع من معاذ.

وأمّا ما اعترض به بعضُ المتأخِّرين مِن نقْض هذا الحُكم بكونه جزْمًا في معلّق، وليس بصحيح. وذلك قوله في التوحيد: “وقال الماجشون عن عبد الله بن الفضل، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تُفاضِلوا بين الأنبياء)) الحديث، فإنّ أبا مسعود الدمشقي جزَم بأنّ هذا ليس بصحيح، لأنّ عبد الله بن الفضل إنما رواه عن الأعرج عن أبي هريرة، لا عن أبي سلمة. وقوّى ذلك: بأن أخرجه في موضع آخَر كذلك. فهو اعتراض مردود، ولا ينقض القاعدة. ولا مانع من أن يكون لعبد الله بن الفضل شيخان. وكذلك أورده عن أبي سلمة: الطيالسي في (مسنده)؛ فبَطل ما ادّعاه.

وقول ابن الصلاح: “وما ليس فيه جزم، فـ”يُروى”، و”يُذكَر”، و”يُحكَى”، و”يُقال”، و”رُوي”، و”حُكِي عن فلان كذا”، قال ابن الصلاح: “أو “في الباب عن النبي صلى الله عليه وسلم كذا”، فليس فيه حُكمٌ بصحّته عن المضاف إليه، لأنّ مثْل هذه العبارات تُستَعمل في الحديث الضعيف أيضًا”، فأشار بقوله: “أيضًا” إلى أنه ربما يورد ذلك في ما هو صحيح، إمّا لكونه رواه بالمعنى، كقوله في الطب: “ويُذكر عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم في الرّقَى بـ(فاتحة الكتاب)”، فإنّه أسنده في موضع آخَر بلفظ: “أنّ نفرًا من الصحابة مرّوا بحيٍّ فيه لديغ”، فذكر الحديث في رُقْيَتِهم للرّجل بـ(فاتحة) الكتاب، وفيه: ((إنّ أحقّ ما أخذْتُم عليه أجرًا: كتابُ الله))”.

أو ليس على شرْطه كقوله في الصلاة: “ويُذكَر عن عبد الله بن السائب أنه قال: ((قرأ النبي صلى الله عليه وسلم “المؤمنون” في صلاة الصبح، حتى إذا ذكَر موسى وهارون، أخذتْه سَعلة فركَع))، وهو صحيح، أخرجه مسلم، إلّا أنّ البخاري لم يُخرج لبعض رواته، أو لكونه ضمّ إليه ما لم يصحّ فأتى بصيغة تُستعمل فيهما معًا، كقوله في الطلاق: “ويُذكَر عن علي بن أبي طالب وابن المسيّب”، وذكر نحو من ثلاثة وعشرين تابعيًّا. وقد يورده أيضًا في الحسَن، كقوله في البيوع: “ويُذْكر عن عثمان بن عفان، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا بِعْتَ فَكِلْ، وإذا ابْتَعْتَ فاكْتَلْ)). فهذا الحديث رواه الدارقطني مِن طريق عبيد الله بن المغيرة -وهو صدوق- عن منقذ مولى عثمان -وقد وُثِّق- عن عثمان، وتابّعه سعيد بن المسيّب. ومن طريقه أخرجه أحمد في (المسند)، إلّا أنّ في إسناده ابن لهيعة. ورواه أيضًا ابن أبي شيبة في (مصنّفه) من حديث عطاء عن عثمان، وفيه انقطاع، والحديث حسَن لِما عضّده من ذلك. ومن أمثلة ما أورده من ذلك وهو ضعيف: قوله في الوصايا: “ويُذكَر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه قضى بالدَّيْن قبل الوصيّة”. وقد رواه الترمذي موصولًا من طريق الحارث عن علي، والحارث ضعيف.

وقوله في الصلاة: “ويذكر عن أبي هريرة رفعَه: ((لا يَتطوّعِ الإمامُ في مكانه))، وقال عقِبه: “ولم يصحّ”؛ وهذه عادته في ضعيف لا عاضد له مِن موافقة إجماع أو نحوه، على أنه فيه قليل جدًّا. والحديث أخرجه أبو داود من طريق الليث بن أبي سليم، عن الحجاج بن عبيد، عن إبراهيم بن إسماعيل، عن أبي هريرة؛ وليث ضعيف، وإبراهيم لا يُعرف. وقد اختُلِف عليه فيه.

قوله: “ثم إذا كان الذي علّق عنه الحديث دون الصحابة، فالحكم بصحّته يتوقّف على اتّصال الإسناد بيْنه وبين الصحابي” فيه نقص لا بد منه، وهو: أنه يشترط مع اتّصاله ثقة من أبرزه من رجاله، ويُحترز بذلك عن مثل قول البخاري: “وقال بهز بن حكيم عن أبيه، عن جدّه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((الله أحقّ أن يُستَحَيا منه))”. وقد ذكر المصنّف بعد هذا: أنّ هذا ليس من شرط البخاري قطعًا، قال: “ولذلك لم يورده الحميدي في “جمْعه بين الصحيحيْن”.

اعترض على ابن الصلاح فيما قاله مِن أنّ من كان مجزومًا به، فقد حكم بصحّته عَمّن علّقه عنه، وما لم يكن مجزومًا به فليس فيه حُكم بصحّته؛ وذلك لأن البخاري يُورد الشيء بصيغة التمريض، ثم يُخرجه في “صحيحه” مسنَدًا، ويجزم بالشيء وقد يكون لا يصحّ. ثم استدل المعترِض بذلك بأنّ البخاري قال في كتاب الصلاة: “وُيذكَر عن أبي موسى: ((كنّا نتناوب النبي صلى الله عليه وسلم عند صلاة العشاء))، ثم أسنده في باب فضل العشاء، وقال في كتاب الطِّب: “ويُذكَر عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم في الرُّقى بـ(فاتحة الكتاب)”، وهو مذكور عنده هكذا، قال: “حدثنا سيدان بن مضارب، حدثنا أبو معشر البراء، حدثني عبد الله بن الأخنس، عن ابن أبي مليكة، عن ابن عباس، به”، أي: بهذا الحديث.

وقال في كتاب الأشخاص أيضًا: “ويُذكر عن جابر: ((أنّ النبي صلى الله عليه وسلم ردّ على المتصدِّق صدَقَتَه))”. قال: “وهو حديث صحيح عنده: ((دبّر رجل عبدًا ليس له مال غيرَه، فباعه النبي صلى الله عليه وسلم من نعيم بن النحام))”.

وقال في كتاب الطلاق: “ويذكَر عن علي بن أبي طالب وابن المسيّب”، وذكَر نحوًا من ثلاثة وعشرين تابعيًّا -كذا قال- وفيها ما هو صحيح عنده، وفيها ما هو ضعيف أيضًا”.

ثم استدلّ على الثاني بأن البخاري قال في كتاب التوحيد، في باب: وكان عرشه على الماء، إثر حديث أبي سعيد: ((الناس يُصعَقون يوم القيامة، فإذا أنا بموسى))”. قال: “وقال الماجشون: “وعن عبد الله بن الفضل، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة: ((فأكون أوّل من بُعث))”. فذكر في أحاديث الأنبياء حديث الماجشون هذا، عن عبد الله بن الفضل، عن الأعرج، عن أبي هريرة. وكذا أيضًا رواه مسلم والنسائي، ثم قال: “قال أبو مسعود: “إنما يُعرف عن الماجشون، عن ابن الفضل، عن الأعرج”. انتهى ما اعتُرض به على ابن الصلاح.

error: النص محمي !!