كيفية إثبات الشرب الموجب للحد
لكن ماذا عن كيفية إثبات الشرب الموجب للحد؟ وهل وجود الرائحة كافٍ في إقامة الحد على من وجد منه رائحة الخمر؟ وماذا عن أهمية التقادم في الإقرار والبينة؟.
ولبيان ذلك نقول: اتفقت كلمة الفقهاء على أنه لا يجب حد الشرب إلا إذا ثبت الشرب بكل من الإقرار، والبينة، وذلك ما لا خلاف فيه من أحد، لكن بم يتحقق الإقرار؟
يتحقق الإقرار، بأن يقر الجاني بحصول الشرب أو السكر، ولو مرة واحدة، ومن ثم فإنه لا يشترط الإقرار بأكثر من مرة، كما هو الشأن بالنسبة للزنا، لماذا؟
قالوا: لأن الحد في الشرب لا يتضمن إزهاقًا للنفس، ومن ثم يختلف الأمر فيه عن الإقرار في الزنا، الذي قد يتضمن إقامة الحد فيه إزهاق النفس في حالة ما إذا كان الجاني أو الزاني محصنًا، وإذا قلنا يكتفى بالإقرار ولو مرة واحدة، إلا أن الإمام أبا يوسف من فقهاء الحنفية، اشترط الإقرار مرتين.
هل يشترط في الإقرار بقاؤه حتى يقام الحد على الشارب؟ وهل إذا رجع المقر بالشرب عن إقراره، يقبل رجوعه، أو لا؟
لبيان ذلك نقول: يشترط في الإقرار بقاؤه، أي: بقاء المقر على إقراره حتى يقام عليه الحد، ومن ثم فإن رجع المقر بالشرب عن إقراره قُبِل رجوعه، ولا حد عليه في تلك الحالة، ووجه ذلك: أن الحدود يقبل فيها الرجوع من المقر؛ لأنها لله سبحانه وتعالى، هذا هو الأمر الأول الذي يثبت به الشرب، وهو الإقرار.
أما الأمر الثاني: فهو البينة، فكيف تتحقق البينة؟
تتحقق البينة، بأن يشهد اثنان مسلمان عدلان على حصول السكر أو الشرب على فلان ما، فلو شهد أنه سكر، أو أنه شرب شيئًا من مسكر ولو قطرة واحدة وجب الحد، مع مراعاة ما ذهب إليه فقهاء الحنفية، وهو أن ما سوى المتخذ من العنب، لا ينبغي فيه الحد إلا لحصول الإسكار كما بيناه.
هذا فيما يتعلق بالبينة، وأنها تقوم بشهادة اثنان مسلمان، إلا أن فقهاء المالكية قد توسعوا في هذا الأمر؛ حيث قالوا: بالاكتفاء بشهادة الواحد، وقالوا: يجب الحد إذا شهد على الشارب واحد من الناس، وشهد آخر بأنه تقَايَأ الخمر، أو المسكر، بمعنى: أنهم قالوا: يكفي في الشهادة على الشرب شاهد واحد، ويكفي أن يشهد آخر بأنه تقَايَأ الخمر أو المسكر، هذا فيما يتعلق بإثبات الشرب، والسكر.
وهنا نقول: هل يجب الحد بشم الرائحة؟
ولبيان ذلك نقول: ذهب جمهور أهل العلم، وفيهم الحنفية، والشافعية، والحنابلة، إلى أن شم ريح الخمر ليست شرطًا لوجوب الحد، فإن الحد إنما يجب عند الجمهور إذا ثبت بأحد الطريقين، وهما الإقرار، والبينة فقط، ومن ثم إذا لم يكن ثمة إقرار، ولا بينة، فلا حد عليه في تلك الحالة، لكن لماذا؟
قالوا: لاحتمال أن يكون ريح الخمر في فمه لسبب من الأسباب المحتملة، كما لو كان مكرهًا على الشرب فشرب، أو كما لو تمضمض بها من غير شرب، أو كما لو شربها لغصة، أو في حالة المخمصة، أو اشتبه عليه الأمر، فشربها على أنها ماء وهو لا يعلم، كما لو شرب شرابًا مباحًا كالمتخذ من التفاح، ثم يكون منه في فيه ريح كريح الخمر، ونحو ذلك من الاحتمالات التي يندرئ بها الحد؛ لأنها من جملة الشبهات.
وقد حثت الشريعة الإسلامية على الأخذ بالشبهات، لاسيما في الحدود، وفي هذا المعنى نجد: ((ادرءوا الحدود ما استطعتم)) فالحدود تدرأ بالشبهات، ولا شك أن من يشتم منه رائحة الخمر ينتابه شك، هل شرب بالفعل؟ هل كان مكرهًا؟ هل كان مضطرًا؟ هل اشتبه عليه الأمر؟ طالما تطرقت الشبهة في الموضوع، فما علينا إلا أن نقول بإسقاط الحد؛ امتثالًا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((ادرءوا الحدود ما استطعتم)).
إلا أننا مع ذلك وجدنا لفقهاء المالكية رأيًا آخر؛ حيث اعتبروا رائحة الخمر أو المسكر سببًا لوجوب الحد، وهو سبب مضاف إلى السببين المتفق عليهما، وهما الإقرار، والشهادة على الشرب، وعلى هذا فلو شهد رجلان مسلمان عدلان بشم الخمر أو المسكر في فيه، أي: في فم شخصٍ ما، ثبت في حقه الشرب، واستحق الحد.
واستدلوا على ذلك، بما روي عن عبد الله بن مسعود أنه جلد رجلًا وجد فيه رائحة الخمر.
إذن، ماذا عن التقادم في الإقرار والبينة؟ هل يعتبر التقادم؟ بمعنى: أن المقر بالشرب لو جاء إقراره بعد مدة من الزمن، هل يعتد بهذا الإقرار أو لا؟
جمهور المالكية، والشافعية، والحنابلة لا يعتبرون أيَّ أهمية للتقادم في الإقرار؛ بمعنى: أن المقر بالشرب لو جاء إقراره بعد مدة من الزمن، وقد ذهبت فيها ريح الخمر من الفم، فإنه يجب في حقه الحد، ولا يشترط في ذلك أن يكون الإقرار عقب الشرب أو على الفور من الشرب، وكذلك الأمر فيما يتعلق بالبينة، فلا يشترط فيها الفورية فور حصول الشرب أو السكر، أو الريح في الفم، بل يجب الحد بالرغم من تقادم العهد على ذلك ثم ذهاب الرائحة من الفم.
لكن فقهاء الحنفية، خالفوا الجمهور في ذلك؛ إذ اشترطوا عدم تقادم العهد على الإقرار، أو على حصول الشرب الذي كشفت عنه الشهادة؛ وذلك لوجوب الحد.
ولبيان ذلك نقول: أن من أقر بالشرب، أو ثبت الشرب عليه بالبينة، فإنه يقام عليه الحد، شريطة أن تكون ريح الخمر ما زالت في فمه وعلى ذلك، فإن من شرب الخمر فأخذ للحاكم وريحها في فمه، أو جاءوا به سكرانًا فشهدوا عليه بذلك، فقد وجب عليه الحد؛ لأن جناية الشرب قد ظهرت منه، ولم يتقادم عليه العهد، هذا هو الذي اتفق عليه فقهاء الحنفية.
إلا أن التقادم عند أبي حنيفة، وأبي يوسف، يقدر بذهاب الرائحة فقط، أما عند محمد، فهو مقدر بالزمان؛ اعتبارًا بحد الزنا.
وكذلك المقر، فإنه إذا أقر وريح الخمر في فمه حُد، أما إن أقر بعد ذهاب رائحة الخمر، فلا يجب في حقه الحد، ولو أُخذ الشارب، وفي فمه ريح الخمر، فلما وصل إلى الحاكم انقطعت الرائحة من فمه؛ لبعد المسافة، وجب في حقه الحد بالاتفاق؛ ذلك لأن الشارب غير معذور في مثل هذه الحالة.
ونسأل سؤالًا: ماذا لو وُجد شخص سكرانًا، أو يَتقيأُ الخمر، فهل يجب في حقه الحد؟ جمهور الفقهاء إلى عدم وجوب الحد على السكران، أو المتقيئ للخمر إلا أن يثبت ذلك بالإقرار، أو البينة، فإذا أقر بالشرب، أو شهد عليه اثنان عدلان من الرجال، وجب عليه الحد.