Top
Image Alt

كيفية كتابة مسودة البحث، وشروط الكتابة الجيدة

  /  كيفية كتابة مسودة البحث، وشروط الكتابة الجيدة

كيفية كتابة مسودة البحث، وشروط الكتابة الجيدة

نُشير هنا إلى أنّ الكتابة الجيّدة التي تُقبل من المُشرف، ربما لا تتأتّى لكثير من الباحثين من أوّل مَرة، ومن ثَمَّ فسنتحدث أيضًا عن كَيفية إجادة هذه الكِتابة؛ بحيث يَتقدّم بها وهو على ثِقة من قَبول عَمله. كيف يكتب مُسوّدة البحث؟ كيف يَتقدّم بها إلى أستاذه ومُشرفه؟

هذا هو الذي نَودّ الآن أن نَهتمّ به، وهي مسألة دقيقة ومهمّة، وتحتاج منّا إلى مَزيد من العِناية. وفيها نَقول: يُمكن أن نَضع العُنوان “مُسوَّدة البحث وشروط الكتابة الجيِّدة”.

نَقول: قدْ لا يتأتّى لكثير من الباحثِين أن يُجيدوا كِتابة البحث على نَحو مُكْتمل من أوّل مَرة، وربما لا يتسنّى ذلك إلَّا للقليل منهم؛ ولهذا لم يكن مُستغرَبًا أن يُكتب البحث أكثر من مَرّة حتى يأتيَ على النحو المَطلوب المُستوفِي، الذي يرضى عنه الأستاذ المُشرِف، ويرضى عنه أعضاء المُناقشة. والوضع الغالب المُعتاد، الكَثير الشائع، هو: أن يقوم الباحث بكِتابة البَحث في صورته الأولى، أو في المُسوّدة التي تكون بمثابة تَجْربة عَملية يقوم فيها بتطبيق ما تَعلَّمه من القَواعد والمعارف النَّظرية التي تحدثنا عنها فيما سَبق، والتي تُبيِّن شُروط الكتابة الجَيّدة لموضوعه، من حَيث الأسلوب واللغة، وما تَتطلّبه من صِياغة عِلمية لبحثه، بعد أن يكون قد قام في مرحلة سابقة بتصنيف المادة العِلمية وفَرزها، ثم تَوزيعها على الأبواب والفصول.

ومن الممكن -من باب التَّسهيل والتَّيسير- أن يَبدأ الباحث كِتابته لبحثه بكِتابةٍ أوّلية لأحد فُصول البحث، أو بكتابة جُزء من فَصل لكن يكون هذه الجُزء له صِفة استقلاليّة، أو صفة التَّكامُل، ثم يقوم بتَركه بعض الوقت، مُنشَغِلًا عنه بجَمع مادة عِلمية لفصل آخر، أو بالقِراءة العَامّة في مَوضوع التَّخصص، ثم بعد ذلك يَعود هو نَفسُه لقِراءة ما كَتَبه، بروح نَقدية لكي يكون هو حَكمًا على بحثه وعلى جُهده.

وقد يتمكّن بعض الباحثين مِن إدراك بعض القُصور في التعبير -يعني يقول: هنا غَلطة نَحوية، هنا غَلطة لُغوية، هنا غَلطة تَعبيرية في الأسلوب، هنا خَطأ في هامش، هنا فِكرة تحتاج إلى وفاء، هنا خَطأ ينبغي أن يَعْدل عنه، هنا فَجوة ينبغي أن يَتجاوزها وأن يَملأها بعِلم بحيث لا يكون هناك فَجوة في عَرْض الأفكار؛ لأنها لو تُركت هكذا سوف يكون البحث غير مُترابط من الناحية المَنطقيّة.

وربما يَكتَشف الباحث نَفسه في الحقيقة إذا كان باحثًا ناضِجًا، أنّ هناك أفكارًا ينبغي إضافتها إلى هذا الذي كَتبه، أو أنّ هناك أفكارًا ليست ذات صِلة جَوهرية بالبحث، ومن ثَمَّ يُمكن الاستغناء عنها. وهو في هذا كله يَنقُد نَفسه نَقدًا ذاتيًّا -هو نَفسه الذي يَنْقد نَفسه- بعد أن يكون كَتبه وتَركه فَترة، يعني يتركه شهرًا مثلًا، أو ثلاثة أسابيع، ثم يَعود إليه ويَقرؤه بروح جديدة، وبعَين جديدة، فعند ذلك ربما يَكتشف هو نَفسه أن البحث فيه بعض الأخطاء، أو بعض القُصور، أو بعض الزيادات، أو بعض الاستطرادات، أو نقص في المراجع، أو نحو ذلك.

كل عمل يقوم به في المرحلة النَّقدية هذه، سيجعله في غِنًى عن كَثير من النقد الذي لولا قيامه هو به لقام به المُشرف فيما بعد. بمعنى أنه كلَّما يُنظّم عَمله ويُتقِنه ويُحْسنه سوف يَتخَفّف من كَثير من التوجيهات التي يتوجّه بها المُشرف إليه. إذا قدَّم عَمله ناضجًا كاملًا مُكتَملًا اطَّلع عليه بعَين الناقِد؛ فإنه سيَحذف كلّ الشوائب ويُقدِّم البحث جَيِّدًا مُتقَنًا إلى مُشرفه، وعندئذٍ سيقلّل الجُهد الذي يقوم به المُشرف، أو التعديلات التي يَطلبها منه المُشرف.

وعلى الباحث أن يتحلّى هنا -وفي البحث كلّه بصِفة عَامة- بروح الصَّبْر، والمُثابَرة، وقوة العَزيمة، والاستعلاء على اليأس والقُنوط الذي قد يُصيب بعض الباحثين لإحساسهم بالعَجز عن البَدء في الكتابة -هذه مرحلة كلنا مررنا بها- أو لأنّ ما كتبوه لا يُعبِّر تَمامًا عما يُريدون تَسجيله في بُحوثهم؛ يَحُسّ أن الذي كَتبه أقلّ ممّا يُريد، وربما يَكتب ثم يُمزّق ما يَكتب، ثم يَكتب، ثم يُمزق ما يَكتب؛ وهذا أمر طبيعي لأن الكتابة العِلمية مهارة، وأنا لا أستطيع أن أقود السيارة من أوّل مَرة، ولا أستطيع أن أكتب على “الكمبيوتر” من أول مرة، ولا أستطيع أن أكتب حتى حُروف الهجاء من أوّل مرة. والكتابة في البحث العلمي هي على هذا النحو أيضًا؛ ومن ثَمَّ تَحتاج إلى رُوح الصبر، والمُثابرة، والعزيمة، والرَّغبة في الكمال، وسيحصِّلها -إن شاء الله تعالى.

والكتابة -إذًا- مهارة تُكْتَسب بالتجربة والممارسة، والمحاولة الجادّة، والعَزيمة الصادقة، واستنفار المَلَكات النفسية والعقلية، والاقتداء بالباحثين الكِبار ممّن سَلكوا هذا الطريق من قَبله، ثم بلغوا فيه مَراتب عُليا. ولْيَعْلم الباحث أنّ هؤلاء الكِبار مرّوا بنفس الحالة التي يَمرّ بها الآن، ولكنهم لم يَستَسلموا لها، بل تغلّبوا عليها.

وكَم جرَّبوا وأخطئوا! وكم كتبوا ثم لم يَرضَوْا عمّا كَتبوا! ولكنّهم ألزموا أنفسهم الصَّبر والمُجاهدة، وكَرّروا المحاولات حتى استقاموا على الطَّريقة وأجادوها، وأصبحوا رُوَّادًا يَلجأ الناس إليهم؛ ليقْتَبسوا من عِلْمهم، وليَنسجوا على مِنوالِهم. ومن ثَمَّ فلا ينبغي للباحث إذا ألمَّت به بعْض المشاعر السّلبية أن يَستجيب لها، بل عَليه أن يُزيحها عن طَريقه.

ولْيتمسك بكلّ ما يُعينه على النَّجاح، ولْيأخذ بالأسباب، ولْيَطلب العَون من اللهعز وجل فإنه نِعْم المَولى ونِعْم النَّصير؛ وسيجد من عون الله عز وجل ما يُعاونه على اجتياز تلك المرحلة الحسّاسة والدقيقة، والتي قد تكون مُفْترق طُرق بالنسبة لبعض الباحثين؛ لأن بعض الباحثين ممّن ليس لديهم العَزيمة، ربما ييأس ويقول: هذا طَريق صَعب، وأنا لا أستطيعه، فلْأذهبْ إلى شيء آخر أسهل. لكن عليه أن يَجتاز هذا المَوقف، ولْيَتقدم بثَبات وعَزيمة لأنه سينال مثلما نال الآخرون بسَبب الصَّبر، والتَّوكل على الله، والاستعانة به في مثل هذه الأمور العِلمية الجادة.

ويُمكن للباحث في بداية المُحاولات، أن يَكتب فصلًا مثلًا، أو جزءًا من فصل، ثم هو بنفسه يُراجعه؛ هذه طَريقة من طُرق التَّمرّس على الكِتابة، والتَّعوّد على هذه الكتابة.

وهناك طريقة ثانية: يُمكن له في بداية المُحاولات أن يَقتنع وأن يَقنع بتَسجيل الأفكار وتَدوينها، تاركًا مَسألة التَّجويد والتَّحسين إلى وقت آخر. ويكفيه في هذه المَرحلة الأوّلية للكتابة أن يُخْرج الأفكار من ذِهنه إلى حيِّز الوجود على الوَرق. ولْيجتهد في صِياغة العناصِر وبيان المَضمون، وسيكون بإمكانه فيما بَعد أن يُحقِّق لها مُستوىً أفضل من البيان والكَمال. هذه أيضًا وسيلة من الوسائل.

والباحث الجيد يَعْرف أنسب الأوقات للكتابة؛ فالبعض قدْ يَكتب بعد صلاة الفجر، ينام نَومًا هادئًا ومُستريحًا، ويقوم من النوم فيصلِّي الفجر قبل العَمل. والبعض الآخر يَبدأ في ذلك الوَقت تكون نَفسه مُشرقة وعَقله وذِهنه صافيًا، ويكون جَوّه والمُحيط به ساكِنًا، وليس هناك ما يَشغَله من حَركة في البيت، أو أولاد يتصايحون، أو جيران تَصدر عنهم حركات … إلخ. يختار الوقت المناسب، ونحن بما أننا باحثون في نِطاق العَمل الإسلامي، فإننا نقول: إنه كلما اقترب الإنسان من الله عز وجل وكلما اتقى الله سبحانه وتعالى فإن الله سبحانه وتعالى سيُمده بمَدد وفَيض من عِنده؛ لأن الله عز وجل يقول: { يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} [الأنفال: 29]، يُعطيكم الفُرقان، والفُرقان يُفرّق به بين الحق والباطل، ويُعْطيكم نُورًا كما قال في آية أخرى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ } [الحديد : 28]، وقال جل  جلاله: { وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ } [البقرة: 282]. فهذه كلها من الوسائل على تحصيل العلْم، وكان الإمام الشافعيرضي الله  عنه يقول: 282

شَكوتُ إلى وَكيعٍ سوءَ حِفظي

*فأرشدني إلى تَرك المعاصي

وأخبرني بأن العِلْم نُور

*ونُور الله لا يُهدَى لعاصي

فهذه مسائل نستعين الله عز وجل عليها، ونجد في فضله ومَدده خَير عَون لنا على أن نجتاز تلك المراحل الدقيقة من مراحل البحث العِلمي؛ حتى لا نَقع في اليأس أو القُنوط إذا تأبّى العِلْم عَلينا، أو تَمرَّد على أذهاننا، وسيَكتب الله لنا التوفيق -بإذن الله.

فهذه أيضًا طُرق ووسائل من الوسائل التي يُمكن بها أن نَكتب البحوث العلمية. نَكتب فصلًا، ثم نُراجِعه ونَنقُده، أو نَكتب مجموعة من الأفكار نُسجّلها ونُدوّنها، ثم نَترك التَّجويد إلى مَرحلة ثانية. وإذا عُدنا إلى هذه الأفكار نَفسها فيُمكن لنا أن نُحسن صياغتها وكِتابتها. وكلما اكتمَلت عدّة الباحث وزَادت خِبرته؛ استطاع أن يَصل إلى درجة عُليا من الإتقان، ولعله يُحسّ هو نفسه أنّ خِبرته تَزداد كلّما تقدّم في كتابة البحث، وأنّ خِبرته في الباب الثاني مَثلًا أكثر وأوسع وأعمق من خِبرته في الباب الأوّل، وأنّ الكتابة قد صارت أكثر سلاسة ويُسرًا، وأنّ قُدرته على صِياغة الأفكار وإدراك العَلاقات بينها قد صارت أكثر قُوّة ووضوحًا، وأنّ الرُّوح النَّقدية لديه تَدفعه إلى مَزيد من التَّجويد والإتقان.

وعليه أن يقوم بالتَّطبيق العَملي لسائر الأفكار النظرية التي تحدثنا عنها من كلّ الوَسائل، من ناحية الأسلوب، من ناحية المَنهج، من ناحية مُراجَعة المَراجِع، من ناحية كَيفية الاقتباس. فإذا قام بالاقتباس فليُطبّق القَواعِد التي تعلّمها على الاقتباس، إمّا أن يكون اقتباسًا كاملًا، وإمّا أن يكون اقتباسًا فيه حَذف، وإمّا أن يكون عرْضًا للفكرة، وإمّا أن يكون تلخيصًا للفكرة، وإمّا أن يكون اختصارًا للفكرة إلى آخر هذا الكلام الذي تَحدثنا عنه.

وإذا أحال إلى الهوامش، فليُطبّق عليها كذلك ما تَعلّمه. وهكذا يَستمر في بَذل الجُهد إلى أن يُتمَّ كتابة البحث. وعليه في النهاية أن يتأكّد أنه طبَّق عددًا آخر من الشروط؛ التي يجب أن نتعلّمها في أناة، ونطبِّقها في دِقّة؛ لأن هذا سيؤدّي بالفعل إلى اختصار وقت كبير، وإلى مزيد من الثقة في الأعمال التي نقوم بها، وإلى مزيد من الثقة ونحن نتوجه بأعمالنا إلى المُشرف، أو إلى لجنة المناقشة، إذا كنَّا قد طبّقنا هذه المسائل بصفة عامة.

المسائل القادمة كثيرة، ونَعْرفها بأناة وبدِقّة وبصَبر، ونَستَمع إليها بهُدوء ويَقظة؛ لأنها أمور مهمّة. وهي تَشمل الكتابة في جَميع جَوانبها، من أوّل المَنهج، إلى اللغة، إلى التَّعبير، إلى القَواعد، إلى التَرابط …إلخ. فنقول:

أولًا: عَرض الموضوعات بصورة دَقيقة وواضِحة، وبأسلوب سَهل، يتلاءم والمادة العِلمية. وعلى الباحث أن يَتحرّى في ذلك كلّه تَسلسل الأفكار وتَرابطها، مع التأكُّد من السلامة اللُغوية والصحة النَّحوية. وإذا لم يَكن قادرًا -للأسف الشديد كما هو حادث الآن في كثير من القِطاعات والكُليات والجامعات، أصبح الحديث باللغة العربية والكتابة باللغة العربية من الأمور الصّعبة، مع أنها لغة القرآن الكريم، واللغة التي دَرج عليها أسلافنا القُدامى، وهي اللغة الشريفة التي اختارها الله عز وجل لكي تكون لُغة كتابه الكريم، ولُغة نبيه الكريم صلى الله عليه  وسلمفنحن مُكلفون شَرعًا بإجادتها وإتقانها- على تَطبيق مستوى لائق أو مَعقول؛ فإنّ عليه أن يستعين بمن يُصحِّح له حتى تكون كتابته جَيدة ودَقيقة، من المُتخصِّصين. وقد يكون من غير العرب مثلًا واحد من إندونيسيا، واحد من ماليزيا، واحد من النيجر … إلخ، فأمثال هؤلاء يحتاجون إلى مَن يُعينهم إلى تَدقيق وتَصويب الأسلوب اللّغوي على نِطاق البحث كلّه.

ثانيًا: على الباحث أن يقوم بتَنقيح عناوين البحث، بما فيه مِن أبواب، وفُصول، وأفكار رئيسة أو فرعية، مع تَحري الترابط والاتّصال بين هذه الأفكار، وبين الأبواب والفصول.

ثالثًا: الحرص على إيجاد تَوازن مَنطقي وتَوازن شَكلي بين المَوضوعات وبين الأبواب بعضِها مع بعض؛ بحيث لا يكون مَقبولًا من الباحث أن يَكتب بعض الفُصول طَويلة جدًّا، وأن يَكتب بعض الفُصول قَصيرة جدًّا، مثلًا: فصل مائة صفحة، والفصل الذي بعده عشر صفحات، أو باب مائتا صفحة، والباب الذي بعده خمسمائة صفحة … فهذا لا يكون مَقبولًا من الناحية الشَّكلية، وسيكون بمثابة من يمشي على رجل واحدة، لن يكون مُتزنًا في مِشيته، أو الذي يحاول أن يَطير بجناح واحد لا يُمكن له أن يَطير. والمشرف سيقول له: اعمل تَوازنًا بين هذه الأبواب والفصول. لا يُعْقل أن يكون واحد مائة، والآخر خمسمائة، أو فصل مائة، والثاني عشرة، أو سبعة أو ثمانية. وهذا يحدث أحيانًا، وتُردّ الرسائل لأصحابها من أجل هذا الأمر.

لكن لا بدَّ من التوازن. وربما نسأل: إذا كانت المادة العِلمية لا تَسمح إلَّا بهذا، مثلًا أحد الباحثين أعد بحثًا عن العقيدة؛ فنجده في باب الإيمان بوجود الله تعالى قد أسهَب في هذا الموضوع، ثم تحدث عن النُبوات، أسهب أيضًا في هذا المَوضوع، ثم نأتي إلى الإيمان بالغَيب، فنجده قد تَحدّث أقلَّ القَليل، أو كَتب سُطورًا قَليلة حول هذا الموضوع، فماذا يفعل؟!

عندئذٍ كان لا بدَّ من التنازل عن بعض الأشياء، فلا أستطيع أن أجعل بابًا مكوّنًا من مائتيْ صفحة، وبابًا من ثلاثين صفحة، أو من فَصليْن كل فصل عشر صفحات؛ فهذا يشوِّه مَنظر البحث، ولا بدَّ من التصرف في هذا الأمر من حَيث المَنهج، لا بدَّ أن أضع مَنهجًا دَقيقًا يُساعدني على أن أتفادى مثل هذه التَّشوهات، التي تُؤدي إلى نتوء بعض الأجزاء على حِساب البعض الآخر، أو ضخامة بعض الأبواب على حِساب البعض الآخر … إلخ. فإذا كان الباحث مضطرًّا، فلا بدَّ من التَّعديل في المَنهج الذي يَتبعه حتى يُمكن له أن يُقيم تَوازنًا شَكليًّا فيما يُقدّمه.

رابعًا: ينبغي عَرض الأمثلة والشواهد التي يَرجِع إليها في البحث بصورة مُقنِعة، ودون إسراف أو إيجاز مُخلّ؛ حيث يَكون هناك توازن في العَرض، مثلًا: مسألة يأتي لها بعشرة شواهد وأمثلة، ومَسألة أخرى يأتي لها بشاهد واحد! لا بدَّ من التَّوازن؛ فإمّا أن يُقلَّل الكَثير، وإمّا أن يُكثّر القليل. ونلجأ إلى التوسط في الأمور؛ لأن هذا يؤدّي إلى التوازن في البحث، ولا بدَّ من أن يتأكد من سَلامة مَوقفه من الآراء المُعارضة، بأن يَستخدم أسلوبًا مُعْتدلًا في عَرضها وفي نَقْدها دون تعالٍ ودون تَكبّر، ودون هُجوم، ودون استعمال ألفاظ خَشنة؛ لأن هذا لا يَليق بالباحثين في مجال البحث العلمي. وأحيانًا يجد الإنسان بعض الباحثين يستعمل ألفاظًا صعبة جدًّا، ولو راجعوا أنفسهم لاستخدموا ألفاظًا أقل؛ لأن هذا من الأدب الإسلامي في التعبير، والله تعالى يقول في القرآن الكريم: { ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيم} [فُصِّلَت: 34]، ويقول الله عز وجل: { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } [المائدة: 8]؛ فلا بدَّ من الاعتدال في مثل هذه المسائل، واستخدام أسلوب مُهذّب رَقيق، فيُشير ولا يُصرِّح في بعض الأحيان، إلا إذا كانت المسألة مُرتبطة بعقائد ومسائل مهمة وفيها مُفترق طُرق، فلا بدَّ من أن يُصرِّح، ولكن بأسلوب مُهذّب.

ولنا في القرآن الكريم خير قدوة وخير أسوة: الله تعالى يقول في القرآن الكريم على لسان الرسول صلى الله عليه  وسلمفي حديثه إلى المشركين:{ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِين }  [سبأ: 24]، والرسول صلى الله عليه  وسلميعلم أنه على الهدى، ويعلم أنهم هم الذين في ضَلال مُبين وعلى ضَلال مبين، لكن انظروا إلى القرآن الكريم في أدبه في التعبير: { وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِين}؛ هذا هو الغاية في الأدب في الأسلوب؛ والباحث عليه أن يتحرى هذا لأننا نبحث في نِطاق البحث الإسلامي، وفي نِطاق الحضارة الإسلامية، والعَقيدة الإسلامية، والشريعة الإسلامية، والتاريخ الإسلامي إلى آخر هذه المَوضوعات التي نَتخصّص فيها حتى المُجتمع يصبح المجتمع الإسلامي، علْم النفس الذي يَنطلق من مُنطلقات إسلامية، علوم التربية التي تَهتدي بهَدي الإسلام … إلخ. فلا بدَّ أن يكون لَفظنا حَسنًا في التَّعبير عن آراء الآخرين. هذه مَوازين يَزن بها الباحث بحثه الذي يُقدِّمه للآخرين، عَليه أن يكون واضِحًا جدًّا، وواعٍ لكي يَكتب ويُقدّمه للآخرين.

خامسًا: ضَرورة العِناية بتَوثيق النُصوص المُقتبَسة بالطُّرق العِلمية المُعْتمَدة، كما أنّ عليه أن يَستخدم العَلامات الإملائية بطَريقة صَحيحة، مثلًا: النُّقطة أين تُوضَع؟ والفاصِلة أين تُوضَع؟ والفاصلة المنقوطة أين تُوضَع؟ وعلامة التّعجّب، وعلامة الاستفهام، والشَّرطة الوَاحِدة والشرطتان اللتان على السطر، والنقطتان الرأسيتان … إلخ. يُعوِّد نَفسه على ذلك ويَستدرك على نَفسه، ويُراجِع نفسه، ويُدقق ويَتعوَّد حتى تكون طَبيعة فيه وهو يَكتب، فلا يَكون في كلّ مرة مُحتاجًا إلى مُراجَعة الكتاب … هنا ماذا أضع؟ هنا ماذا أضع؟ أضع هنا نقطة أو فاصلة؟ … إلخ. فعليه أن يَفهم المعنى ويَضع العلامة المُناسبة؛ لأن هذا يُساعد على وضوح المَعنى، ويُساعِد على حُسن قراءة القارئ مثل هذه المَوضوعات.

سادسًا: تَجنّب التَّكرار في العِبارات والأفكار؛ بحيث لا يلجأ إلى التَّكرار إلَّا عِند الضَّرورة، كأن يكون يُحلِّل نصًّا من جَوانب مُتعدّدة، يعني يُحلِّله لُغويًّا، يُحلِّله نَحويًّا، يُحلِّله بلاغِيًّا، يَستخرج ما فيه من وجوه البيان، ووجوه البَيان قد تكون مُتعدّدة، فيذكر النص لكي يكون أمام القارئ وهو يُحلّل … إلخ. فلا يصح التَّكرار إلَّا عِند الضَّرورة، والتَّكرار عند كل مناسبة ومن غير ضَرورة يكون عَيبًا كَبيرًا، ويَجْعل المُشرف يَشطب بالقلم الأحمر أو الأخضر أو أي قلم على هذا الكلام المُكرّر، ويَقول: لا داعي لكلّ هذا الأمر.

سابعًا: التَّأكد من تَطبيقه للمَنهج الذي وَضعه للبحث، ومن تَرابُط كلّ أفكار البحث بالعُنوان الذي وَضعه له؛ بحيث يَستَبعد كلّ ما فيه خُروج أو شُرود عَنه؛ وهنا مِعيار مُهمّ جدًّا: أن يَنظر في كل ما يَكتب إلى عُنوان البحث. عُنوان البحث يكون أشبه بالعَلَم الذي يَحمله الجُنود، أو بالمِحور الذي تَدور حَوله الدائرة في وسط الدائرة، لا بدَّ أن يَخرج الخَط مُستقيمًا من أطراف الدَّائرة إلى وَسطها دون التواءات. فعَليه في بحثه أن يَنظر هكذا دائمًا، هذه الفِكرة مُتّصلة بالمَوضوع، ومتّصلة بالعُنوان أو لا؟ فإذا كانت مُتّصلة يَضعها في سِياقها، إذا لم تَكن مُتّصلة، فإنها تُحْذَف، ولا كَرامة لأمثال هذه الكَلمات التي تُضاف للبحث دون أن يكون لها صِلة بالعُنوان، أو صِلة بالمَوضوع العَام الذي فيه البحث.

ثامنًا: الحِرص على بُروز الشَّخصية العِلمية للباحث، فلا يَكفي أن يَكون الباحِث مُجرّد جامِع، أو ناقِل، وهذا كلام قُلته مِن أوّل مُحاضرة؛ لأن البحث لا بدَّ فيه من إضافة الجَديد، ولا تتأتى إضافة الجَديد إلًا إذا كان الباحِث له شخصية عِلمية مُتميزة وحاضرة. ويَجب أن تَكون ظاهِرة في العَرض والمُقارنة، والعَرض والاستنباط، والاقتراحات والتَّوصِيات، وهذه كُلها مُتعَلِّقة بالبحث. وليس معنى ذلك -كما قُلت أكثر من مَرة- أن يَغْترّ الباحِث بما تَوصَّل إليه، بل يَجب أن يتمّ ذلك كُلّه في تَواضُع ودون غُرور؛ لأن التَّواضُع صِفة من صِفات الباحِثين العِلميِّين، خصوصًا إذا كانوا في حَقل الثقافة الإسلامية.

تاسعًا: الحِرص على استعمال العلامة الإملائية، وعلامات التَّرقيم استعمالًا صحيحًا.

عاشرًا: إعطاء عِناية كافية لنَقل الآيات القُرآنية، وكذلك عند نَقل الأحاديث النَّبوية وتَخريجها. هذه مسائل شَديدة الأهمية، وما يزال لها بَقية سَوف نَستوفيها في الدرس القادِم -إن شاء الله.

error: النص محمي !!