كيف يُعرف الحديث الموضوع
الضوابط التي يُعرف بها الحديث الموضوع:
سبق أن ذكرنا في التقدمة لهذا البحث، أنه لا يجوز أن يُحكم على الحديث بالوضع لمجرد أن بإسناده راويًا كذابًا؛ لاحتمال أن يأتي الحديث من طريق آخر ليس فيه هذا الكذاب، ولأن الكذاب قد يصدق، فليس هناك كذاب يكذب بدرجة مائة في المائة؛ بل في كلام الكذاب نسبة من الصدق لا محالة، فقد يصدق الكاذب، كما يصيب كثير الخطأ؛ لذلك كان لا بد للحكم على الحديث بالوضع أن يقوم بذلك إمام متضلع من السنة وعلومها، له مَلكة قوية ومعرفة بكلام النبوة، فيستطيع بهذه الملكة القوية والدراية التامة أن يميز الموضوع من غيره.
قال الإمام النووي رحمه الله : رواية الراوي الضعيف يكون فيها الصحيح والضعيف والباطل، فيكتبونها ثم يميز أهل الحديث والإتقان بعضَ ذلك من بعضٍ، وذلك سهل عليهم معروف عندهم.
قال الإمام الُبلقيني: إن لأئمة الحديث مَلكة يعرفون بها الموضوع، وشاهده أن إنسانًا لو خدم إنسانًا سنين، وعرف ما يحب وما يكره، فجاءه إنسان ادعى أنه يكره شيئًا يعلم ذلك أنه يحبه، فبمجرد سماعه يبادر إلى تكذيب من قال: إنه يكرهه.
ولما كان الأمر من الخطورة بمكان، وأن كل أحد لا يقوى على معرفة الحديث الموضوع، فقد وضع الأئمة الأثبات ضوابط عامة يعرف بها الحديث الموضوع، ولكن هذا ليس لكل أحد؛ فقد يكون الحديث معارضًا لآية من القرآن الكريم، أو للسنة الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم غير أن هذا التعارض من حيث الظاهر فقط، والأئمة يعرفون كيف يُجمع بين هذه النصوص التي ظاهرها التعارض بوجه من وجوه الجمع.
من هذه الضوابط:
الضابط الأول: إقرار الواضع:
وذلك بأن يقر الواضع بأنه وضع حديثًا بعينه، أو أحاديثَ بعينها، كإقرار أبي عصمة نوح بن أبي مريم بأنه وضع أحاديث في فضائل سور القرآن الكريم. قال ابن دقيق العيد: لكن لا يقطع بذلك؛ لاحتمال أن يكون كذب في ذلك الإقرار.
الضابط الثاني: ما يتنزل منزلةَ الإقرار:
وقد مثَّل الحافظ ابن حجر لما يتنزل منزلة الإقرار بما رواه البيهقي في (المدخل) بسنده الصحيح، أنهم اختلفوا بحضور أحمد بن عبد الله الجويباري في سماع الحسن من أبي هريرة رضي الله عنه فروى لهم حديثًا بسنده إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: سمع الحسن من أبي هريرة رضي الله عنه فهذا الرجل إنما أراد أن يفض النزاع القائم، ولم يفطن إلى ما قال، فإن ما قاله عينُ الجهل، فالحسن البِصري وُلد في السنة الثانية والعشرين من الهجرة؛ فأين رأى النبي صلى الله عليه وسلم الحسن يسمع من أبي هريرة حتى يشهد بذلك؟ وهذا يدل على رقة دين أحمد بن عبد الله الجويباري الوضَّاع الكذَّاب، فإنه لا يبالي بما يقول.
الضابط الثالث: أن توجد قرينة في الراوي تدل على أنه كذاب، وأن ما رواه موضوع لا أصل له.
الضابط الرابع: معرفة التواريخ:
من الوسائل التي استعان بها المحدثون على معرفة الحديث الموضوع -بعد استعانتهم بالله تعالى-: تواريخ مواليد الرواة، والسماع، والرحلة إلى البُلدان، وتواريخ الوفيات، فإن علماء الحديث قد اهتموا بذلك اهتمامًا كبيرًا لم يُسبقوا إليه، ولم يدانِهم أحد فيه؛ لما يترتب على ذلك من معرفة هل الإسناد متصلًا أم لا؟ وكذا إذا قال الراوي: سمعت فلانًا يقول كذا، وتبين أن الراوي وُلِد بعد وفاة من حدث عنه، دل ذلك على كذب الراوي، وهذه قرينة في الراوي تدل على كذبه.
قال الإمام السيوطي: قال سفيان الثوري: لما استعمل الرواة الكذب، استعملنا لهم التاريخ.
الضابط الخامس: أن توجد قرينة في المروي تدل على أن الحديث موضوع، وأنه ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم
فمن ذلك:
أولًا: أن يكون الحديث مخالفًا لصريح القرآن الكريم مخالفة جَلية، مثال ذلك: حديث: “لو أحسن أحدكم ظنه بحجر لنفعه”؛ فهذا القول لا يصدر إلا عن كافر يريد أن يحرِّف عقيدةَ المسلمين، وأن يرد الناس إلى الشرك والوثنية بعد أن منّ الله عليهم بالتوحيد، وآيات القرآن الكريم، ونصوص السنة الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم قطعية في أنه لا نافع ولا ضار إلا الله تعالى، وهي من الظهور بحيث لا تكاد تخفى على أحد، وهذا معلوم من دين الإسلام بالضرورة. قال الإمام ابن القيم: وهو من وضع المشركين عُبَّاد الأوثان.
ثانيًا: أن يكون الحديث مناقضًا للسنة المتواترة، أو مناقضًا للأحاديث الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم مناقضةً بينةً، بحيث لا يمكن الجمع بينهما بوجه من وجوه الجمع، أما مع إمكان الجمع فلا يحكم بالوضع، أو يكون الحديث مناقضًا للإجماع القطعي. قال ابن القيم: فكل حديث يشتمل على فساد، أو ظلم، أو عبث، أو مدح باطل، أو ذم حق، أو نحو ذلك؛ فرسول الله صلى الله عليه وسلم منه بريء.
من هذا الباب: مدح من اسمه أحمد أو محمد، وأن كل من يسمى بهذه الأسماء لا يدخل النار. وهذا مناقض لما هو معلوم من دينه صلى الله عليه وسلم أن النار لا يجار منها بالأسماء والألقاب؛ وإنما النجاة منها بالإيمان والأعمال الصالحة.
ثالثًا: أن يعد الحديث بثواب عظيم على عمل يسير لا يستوجب ذلك الثواب العظيم، مثال ذلك: ما ورد من الوعد العظيم على فعل بعض السنن، مثل: “من صلى الضحى كذا وكذا ركعة؛ أعطي ثواب سبعين نبيًّا”. وصلاة الضحى سنة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن لا يصل ثوابها إلى هذه الدرجة، بل هذه مجازفة عظيمة، تدل على أن الحديث موضوع.
رابعًا: الوعيد الشديد على فعل ذنب من صغائر الذنوب لا يستوجب هذا العقاب الشديد.
خامسًا: أن يكون كلام الحديث لا يشبه كلام الأنبياء، فضلًا عن كلام رسول اللهصلى الله عليه وسلم الذي هو وحي يوحى، كما قال الله تعالى: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} (النجم: 3، 4) أي: ما نطقه إلا وحي يوحَى، فيكون الحديث مما لا يشبه الوحي، بل لا يشبه كلام الصحابة، مثال ذلك: حديث: “إن الله طهر قومًا من الذنوب بالصلع في رءوسهم، وإن عليًّا أولهم”؛ فما علاقة الصلع بالتطهير من الذنوب؟ وهل للإنسان دخل في ذلك حتى يؤجر أو يعاقب؟ ثم إن بعض المصابين بالصلع فسقة متمردون على الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم بل بعضهم كفار، وإنما يطهر المسلم من الذنوب بالتوبة الصادقة والأعمال الصالحة، كما أخبر بذلك القرآن الكريم والسنة المطهرة؛ قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [التحريم: 8].
سادسًا: أن يدعي على النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعل أمرًا ظاهرًا بمحضر من الصحابة كلهم، وأنهم اتفقوا على كتمانه ولم ينقلوه، كما َيْزعُمُ أَكْذَبُ الْخَلْقِ عَلَى اللَّهِ ورَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم وهم الشِّيعَةُ الرَّافِضَةُ الإِمَامِيَّةُ، أنه صلى الله عليه وسلم أخذ بيد علي بن أبي طالب رضي الله عنه بمحضر من الصحابة كلهم، وهو راجع من حَجة الوداع، فأقامه بينهم حتى عرفه الجميع، ثم قال: “هذا وصيِّي وأخي والخليفة من بعدي، فاسمعوا له وأطيعوا”. ثم اتفق الكل على كتمان ذلك وتغيره ومخالفته، فلعنةُ اللهِ على الكاذِبينَ الكافرينَ.
سابعًا: أن يكون الحديث باطلًا في نفسه، فيدل بُطلانه على أنه ليس من كلام الرسول، صلى الله عليه وسلم .
ثامنًا: رَكاكة لفظ الحديث ومعناه، أو معناه فقط: فقد وضعت أحاديث طويلة يشهد بوضعها ركاكة لفظها ومعانيها. قال ابن الجوزي: واعلم أن الحديث المنكر يقشعر له جِلدُ طالب العلم وقلبه في الغالب. قال الأوزاعي: كنا نسمع الحديث فنعرضه على أصحابه كما يعرض الدرهم الزائف، فما عرفوا منه أخذنا، وما أنكروا منه تركنا. قال الربيعُ: إن للحديث ضَوْءًا كضوء النهار تعرفه، وظلمة كظلمة الليل تنكره.
تاسعًا: مخالفة الحديث لصريح المعقول، بحيث لا يقبل التأويل. قال ابن الجوزي: كل حديث رأيته يخالف المعقول أو يناقض الأصول؛ فاعلم أنه موضوع، فلا تتكلف اعتباره، ألا ترى أنه لو اجتمع خلق من الثقات فأخبروا أن الجَمل قد دخل في سَمِّ الخياط، لما نفعتنا ثقتهم، ولا أثرت في خبرهم؛ لأنهم أُخبروا بمستحيل، والمستحيل لو صدر عن الثقات رد ونسب إليهم الخطأ.
ملحوظة:
ينبغي أن نفرق بين ما يحكم العقل باستحالته، وبين ما يعجز العقل عن إدراك حقيقته؛ فالإسلام ليس فيه شيء يحكم العقل باستحالته، ولكن قد يعجز العقل عن إدراك حقيقة بعض أمور الإسلام.
عاشرًا: أن يكون الحديث بوصف الأطباء والطرقية أشبه وأليق.
الحادي عشر: أن يكون في الحديث تاريخ يتعلق بالمستقبل، مثل قوله: “إذا كانت سَنَة كذا وكذا؛ وقع كذا وكذا، وإذا كان شهر كذا؛ وقع كذا وكذا”، مثال ذلك حديث: “عند رأس مائة يبعث الله ريحًا باردة، يقبض الله فيها روح كل مؤمن”.
الثاني عشر: ألا يكون الحديث موجودًا في الكتب بعد أن دُونت السنة المطهرة؛ فإذا جاء أحد بحديث ولم يوجد هذا الحديث في الكتب المدونة؛ دل ذلك على أنه موضوع. قال العلائي: وهذا إنما يقوم به -أي: بالتفتيش عليه- الحافظ الكبير الذي أحاط حفظه بجميع الحديث أو بمعظمه، كالإمام أحمد، وعلي بن المديني، ويحيى بن معين، ومَن بعدهم كالبخاري، وأبي حاتم، وأبي زرعة، ومن دونهم كالنسائي، ثم الدارقطني؛ لأن المأخذ الذي يحكم به غالبًا على الحديث بأنه موضوع، إنما هي الملكة النفسانية الناشئة عن جمع الطرق والاطلاع على غالب المروي في البلدان المتنائية؛ بحيث يعرف بذلك ما هو من حديث الرواة، مما ليس من حديثهم، وأما من لم يصل إلى هذه المرتبة؛ فكيف يقضي بعدم وجدانه للحديث بأنه موضوع؟ هذا ما يأباه تصرفهم.