كُتب غَريب الحديث
أولًا: التّعريف بكُتب غَريب الحديث:
هذا النوع مِن التأليف ظهَر مُبكّرًا -من مَطْلع القرن الثالث- ونظرًا لأنه منذ ظهرتْ كُتبُ الغريب لمْ يخْل قرْن من التأليف فيها -كما يُلاحظ ذلك في وفيّات مؤلِّفيها- والتأليف فيها لم يزَل ينمو ويتطوّر، ولم يبلغ نُضوجَه إلاّ بعد القرن الخامس الهجريّ.
والمُراد بكتب الغريب: تلك التي تَجْمع الكلمات الغريبة أو الغامِضة المعنى، سواء من القرآن أو من الحديث، لتفسيرها وشرح المُشْكل من معانيها.
قال أبو سليمان الخطابيّ: “الغَريبُ مِن الكلام إنما هو الغَامِض البعيد من الفهْم، كالغريب من الناس إنما هو البعيد عن الوطن المُنقطع عن الأهل، ومنه قولك للرجل إذا نَحّيْته أو أقصَيْته: اغْربْ عنّي!، أي: ابعدْ!… ثم إنّ الغريب من الكلام على وجهيْن:
الأول:
أنْ يُراد به بعيدُ المعنى وغامضُه، لا يتنَاوله الفَهم إلاّ عن بُعْد ومعاناة فِكْر.
الثاني:
أنْ يُراد به كلام مَن بَعُدت به الدار ونأى به المحلّ، من شواذّ قبائل العرب؛ فإذا وقعت إلينا الكلمة من لغاتهم استغربناها، وإنما هو كلام القوم وبيانُهم. وعلى هذا: ما جاء عن بعضِهم وقال له قائل: أسألك عن حرف من الغريب، فقال: هو كلام القوْم، إنّما الغريب أنتّ وأمثالُك مِن الدُّخَلاء فيه”.
وقال الحافظ ابن الصلاح: “غريب الحديث: هو عبارة عمّا وقعَ في مُتون الأحاديث مِن الألفاظ الغَامضة البَعيدة من الفهْم لقِلّة استعمالها”.
ثم قال: “هذا فنّ مُهمّ يَقْبُح جهْلُه بأهل الحديث خاصّة، ثم بأهل العِلْم عامّة، والخَوض فيه ليس بالهيِّن، والخائض فيه حَقيق بالتَّحري جَدير بالتوقّي”.
وقال الحافظ السيوطي: “وقد أكثَر العُلماء التّصنيفَ فيه، قِيل: أوّل مَن صَنّفه: النَّضر، ثم الأصمعيّ؛ وكتبهم صغيرة قليلة. وألّف بعدَهم: أبو عُبيد القاسم بن سلَّام كتابه المشهور، فاستقصى وأجاد”.
ثانيًا: مِن أشهر المُصنَّفات في غريب الحديث:
- 1. (غريب الحديث) لأبي عُبيد القاسم بن سلَّام (ت 224هـ)، مطبوع في أربع مجلّدات.
- 2. (غريب الحديث) لمحمد بن زياد، المعروف بابن الأعرابي (ت 231هـ).
- 3. (غريب الحديث) لأبي محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة (ت 276هـ)، وهو ذيل واستدراك على كتاب أبي عُبيد القاسم بن سلَّام، طُبع في ثلاثة مجلّدات.
- 4. (غريب الحديث) لأبي إسحاق إبراهيم بن إسحاق الحربي (ت 285هـ)، طُبع منه المجلّد الخامس فقط، والباقي مفقود فيما قيل.
- قال الكتاني: “وهو كتاب حافل، أطاله بالأسانيد وسِياق المتون بتمامِها، ولو لم يكن في المتْن الغريب إلاّ كلمة واحدة، فهُجِر لذلك كتابه، مع كثرة فوائده وجلالة مؤلِّفه”.
- 6. (غريب الحديث) لأبي سليمان حمْد – بسكون الميم- الخطابي (ت 388 هـ)، مطبوع في ثلاث مجلّدات، وهو ذيل على أبي عُبيد وابن قتيبة، تتبّع ما فاتهما، ونبَّه على أغاليط لهما.
- 7. “الغريبيْن” -غريب القرآن والحديث- لأبي عُبيد أحمد بن محمد الهروي (ت 401هـ)، طُبع منه المجلّد الأوّل، وهو مُرتّب على حروف المُعجَم ترتيبًا دقيقًا. استفاد فيه كثيرًا من كتاب شيخه أبي المنصور الأزهري: (تهذيب اللغة).
- ولأبي موسى محمد بن أبي بكر المديني الأصبهاني (ت 581هـ) ذيْل عليه، سمّاه: (المجموع المُغيث في غريبَيِ القرآن والحديث)، وهو مطبوع.
- 9. (الفَائق في غريب الحديث) لأبي القاسم جار الله محمود بن عمر الزمخشري المعتزليّ (ت 538هـ)، وهو مطبوع.
10.(غريب الحديث) لأبي الفرج ابن الجَوزي (ت 597هـ)، مطبوع.
11.(النِّهاية في غريب الحديث) لمجد الدِّين المبارك بن محمد الجَزري، المعروف بابن الأثير (ت 606هـ)، طُبع في خمس مجلدات، بتحقيق الدكتور محمد الطناحي.
وهناك كتب أخرى في الغريب، كـ(الدّلائل) لأبي محمد القاسم بن ثابت السرقُسطي، الفقِيه المُحدِّث، وغيره…
ثالثًا: نماذج مِن كُتب الغريب:
سنكتفي بعرْض موجَز لكتابيْن مِن أهمّ كُتب الغريب: أولهما يُمثّل منْهَج المتقدِّمِين في التصنيف في هذا الفن، وهو: (غريب الحديث) لأبي عُبيد القاسم بن سلَّام. وثانِيها: يُمثل منْهَج المتأخِّرين، وكيف تَطَوّر التدوين في هذا الفنّ، وهو كتاب: (النِّهاية في غريب الحديث) لابن الأثير -رحم الله الجميع-.
الأوّل: كتاب أبي عُبيد: (غريب الحديث):
أ. المؤلِّف:
أبو عُبيد القاسم بن سلَّام بن عبد الله، الحافظ الإمام المُجتهد، ولد سنة (156هـ)، وتوفّي بمكة سنة (224هـ).
ب. موضوعه:
شرْح الكلمات الغَريبة المعنى، الغَامِضة الفَهم، الواردة في الأحاديث النبويّة.
ج. منهج أبي عُبيد في كتاب (الغريب):
- رتَّب كتابه على المَسانيد، وساق الأحاديث بأسانيده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم عقَّب على كلّ حديث بشرْح غَريبه، موضِّحًا المعنى مع الاستشهاد لِمَا فسَّرها به مِن القرآن والحديث ومن كلام العرب وشِعْرهم.
- قال الخطَّابيّ – بعد أنْ ذكَر كُتب الغريب-: “ثم إنه ليس لواحد مِن هذه الكتب التي ذكرناها أنّ يكون شيء منها على مِنهاج كتاب أبي عُبيد، في بيان اللفظ، وصِحّة المعنى، وجَودة الاستنباط، وكَثْرة الفقه”.
- على الرّغم مِن جَودة كتاب أبي عُبيد، وسِعة معلوماته، وكَثرة فوائده، إلاّ أنّ في الوقوف على الفائدة منه عُسْر ومَشقة، نظرًا لترتيبه على المَسانيد؛ وفي المَسانيد من صُعوبة الوقوف على الحديث ما فيها.
- طُبع كتاب أبي عُبيد في حيدر آباد، في أربع مجلّدات. وقد حَصَل في هذه الطبعة خَلل مِن جهتيْن:
الأولى: أنه طُبع على نُسخة غيرِ مُسنَدة، وهذا فوَّت فوائد كثيرة تحصُل بمعرفة أسانيد المؤلِّف رحمه الله.
الثانية: أنّ هذه الطبعة كانت غُفْلًا من أية فهارس لتيسير الاستفادة من الكتاب، مع عُسْر ومَشقّة ترتيبه. لكن الله تعالى يسَّر للدكتور محمود الطناحي أنْ وضَع فهارس علْمية مُفيدة لهذه الطبعة؛ وقد نُشِرت هذه الفهارس في العدد الرابع مِن مجلة البحث العلمي بجامعة أم القرى لعام (1401هـ).
د. مكانة كتاب أبي عُبيد:
قال أبو عُبيد: “كُنت في تصنيف هذا الكتاب أربعين سنة، وربّما أستفيد الفائدة مِن أفواه الرجال فأضعها في الكتاب، فأبِيتُ ساهرًا فَرَحًا مني بتلك الفائدة…”.
قال الخطابي: “فكان أوّل مَن سبق إليه -الغريب- ودلَّ مَن بَعْده عليه: أبو عُبيد بن سلَّام؛ فإنه قد انتظم بتصنيفه عامّة ما يحتاج إلى تفسير من مشاهير غريب الحديث، فصار كتابه إمامًا لأهل الحديث، به يتذاكرون وإليه يتحاكمون”.
وقال أحمد بن يوسف: “لمّا عمِل أبو عُبيد كتابه: (الغريب)، عرَضَه على عبد الله بن طاهر، فاستحْسَنه.
وقال: إنّ عقلًا بعَثَ صاحبَه على عمَلِ مِثْل هذا الكتاب لحقيقٌ ألا يُحْوَج إلى طلبِ المعاش؛ فأجرى له عشرة آلاف دِرهم في الشهر”.
الثاني: كتاب (النِّهاية في غَريب الحديث) لابن الأثير:
أ. طبعاته:
طُبع الكتاب مِرارًا، وقد كانت أُولاها بطهْران سنة (1269هـ)، طبْع حَجَر في مجلد واحد… وآخرها: تلك التي قام بتحقيقها: طاهِر الزواوي، ومحمود الطناحي، في خمس مجلدات؛ وهي أحسنُها، ولكنها لم تَخْل من أخطاء.
ب. مَنهَج ابن الأثير في كتابه:
بدأ بمقدّمة بيّن فيها أهمِّيّة الأحاديث والآثار، ثم ذكَر أقسام الألفاظ، وبيَّن أنها تنقسم إلى مُفرَدة ومُركّبة… إلخ… ثم تناول مراحل طُروء الغريب، وعدَم فَهْم الناس له، ابتداءً من عصْر النبي صلى الله عليه وسلم إلى عصْر التابعين.
– ثم تناول بداية التّصنيف: فبدأ بأبي عُبيدة معْمَر بن المُثنّى، حتى عصْره، واصِفًا مؤلَّفاتهم، ذاكِرًا محاسِنها، وعيوبها.
– ثم ذكر طريقَته فيه، ومصادرَه. ثم ذكَر بعد ذلك الألفاظ الغريبة، مرتِّبًا إياها على حروف المعجم.
ج. مصادره في الكتاب: اعتمد في تأليف كتابه على مصدريْن مُهمَّيْن، هما:
الأول:
- (الغريبيْن) للهروي.
ب.و(المجْموع المُغيث) لأبي موسى المدني الأصفهاني (ت 581هـ).
الثاني: استدراك لما فات الأوّل. حيث جَمع بينها ابن الأثير فيما يتعلّق بالحديث فقط، وزاد عليهما الكثير مما فاتهما.
د. طريقته في الكتاب:
- رتَّب كتابه على حروف المعجم، بالتزام الحرف الأوّل والثاني والثالث في كلّ كلمة.
- الكلمات التي في أوّلها حروف زائدة، أثبتها في الحرف الذي هو في أوّلها وإن لمْ يكُن أصليًّا؛ حتى لا يلتبس موضعُها الأصلي على طالبها، ونبّه عليها في بابها الأصليّ، لئلاّ يُنسَب المُؤلِّف إلى الجَهْل والخطأ.
- جعَل علامةَ ما أخذَه مِن كتاب الهروي: حرف (هـ)، وعلامة ما أخذَه من أبي موسى المديني: حرف (س)، للتّميِيز.
- أمّا ما أضافه مِن غيْرهما، فقد جعَله مُهمَلًا بدون علامة.
- ما كان غير مضاف إلى مُسمًّى، فهو غالبًا من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم إلاّ القليل الذي لا يُدرى هل هو مِن كلامه أم ِمن كلام غيره؟ وقد نبَّه عليه في مواضعه.
- ما كان مضافًا إلى مُسمًّى، فلا يخْلو منْ أنْ يكون المُسمَّى صاحِبَ الحديث واللفظ له، أو راويًا للحديث، أو سببًا في ذِكر الحديث، أو عُرف به الحديث.
هـ. أهمِّيَّة الكتاب:
نال الكتاب شُهرة كبيرة، حتى إنّ التأليف في هذا الباب قد توقَّف بعدَه، إلاّ مِن ناظِم له، أو مُسْتدرِك عليه، أو مُهْذِّب له.
كما أنه أحد المصادر الخمسة التي اعتمدها ابن منْظور في تأليف كتابه: (لسان العرب). هذا وبالله التوفيق.