Top
Image Alt

ماهية الحركة الصهيونية

  /  ماهية الحركة الصهيونية

ماهية الحركة الصهيونية

نأتي الآن إلى دراسة الحركة الصهيونية من حيث هي، ما طبيعة هذه الحركة؟ هل هي حركة دينية خالصة؟ كما يدعي البعض ويحاول أن يتصيّد لها النصوص الدينية من التلمود ومن التوراة، وهي نصوص زائفة كما قلت.

هل هي حركة قومية تنادي بأفضلية الجنس اليهودي، وأنّ ما عداه خُلق لخدمة الجنس اليهودي؟ وقد يؤيدون هذا القول بنصوص أيضًا من التوراة ومن التلمود توضِّح: أن اليهود هم “شعب الله المختار”، وأنّ ما غير اليهود هم من سلالة حصان نجس، وأنهم أمميُّون خُلقوا لخدمة اليهود، وأنهم لا يستحقون أن ينتسبوا ولا يصاهروا ولا يتزوجوا ولا يزوّجوا أحدًا من اليهود؛ فتكون الحركة عنصرية قومية.

هل هي حركة سياسية لها أهداف سياسية تبغي من ورائها تأسيس حكومة عالمية تحكم العالم كلّه، وتستأثر بخيراته، وتستولي على مصادر ثروته تحت سمع وبصر مجموعة من النصوص التي تتولّى تنفيذها شركات عالمية تخصّصت في صناعة الأسلحة، واستخراج معادن وخيرات الأرض من باطنها، وجمع الثروات العالمية في أيديهم، ثم تحاول السيطرة على العالم من خلال حكومة واحدة تحكم العالم؟

ما طبيعة هذه الحركة؟

لا شك أن هذه المحاور الثلاثة: كوْنها حركة دينيّة، كونها حركة قومية عنصرية، كونها حركة سياسية، هذه الأبعاد الثلاثة -كما قلنا- لها من يؤيِّدها ويدافع عنها، خاصة إذا وجدنا أنّ من الصهاينة أنفسهم مفكِّرين يتبنّون هذه القضية أو تلك ويحاولون أن يوظِّفوا لخدمتها بعض نصوص من الأسفار التوراتية، وبعض نصوص من التلمود، ويحاولون أن يُزوِّروا التاريخ ويُطوِّعوه لتفسير وتأييد وجهة نظرهم من أنها حركة دينية أو قومية أو سياسية.

وإذا أردنا أن نوضِّح القول حول هذه المحاور الثلاثة عن طبيعة هذه الحركة الصهيونية، نجد أنّ الكلام فيها قد يتداخل؛ بحيث نجد أن آراء المفكِّرين الذين يفضِّلون القول بأنها قومية ينصّون أيضًا على أنها لا تخلو من أهدف سياسية. كذلك الذين ينُصّون على أنّ الحركة الصهيونية حركة سياسية يقولون إنها لا تخلو من أهداف قومية دينية. فهناك تداخل؛ لكن المعلَم الأساسي للحركة بعد “هرتزل” يأخذ بُعدًا سياسيًّا قوميًّا عنصريًّا.

ومن هنا نستطيع أن نوضّح أو نلقي الضوء على كلّ رأي من هذه الآراء بشيء من الإيجاز؛ لأن الأيديولوجية الصهيونية التي تميل إلى القول بأن الحركة هي في أصلها حركة قومية، يعتمدون على نصوص وضعوا أيديهم عليها في “سفر التكوين”. مثلًا: يقولون معتمدين على هذا النص في أن الأرض حق لإسرائيل، وأنّ الجنس جنس إسرائيل، وأنّ الذي يسكن القطعة هم من بني إسرائيل وليس من غير بني إسرائيل: جاء في “سفر التكوين” ما يلي: “في ذلك اليوم، قطع الرب مع إبرام -سيدنا إبراهيم عليه السلام ميثاقًا قائلًا له: لنَسْلِك أُعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير -نهر الفرات”.

فمن هذا المنطلق الديني، أعلن الزعماء الصهاينة: أن فلسطين قد أُعْطِيَت لنا من الرب؛ وذلك دون أن يسألوا أنفسهم عن مضمون هذا العهد، وعمّا إذا كان الاختيار غير مشروط، أو له شروط، وبصَرْف النظر عن أنّ العرب من نسل إبراهيم، أم ليسوا من نسل إبراهيم. ثم يؤيِّدون هذا بنصوص أخرى: فإنّ بعضهم يستدل بقوله أو بما جاء في نصوص التوراة أيضًا: “إن هذه الأرض أعطيَتْ لنا وعدًا من الرب، ولنا عليها حق”.

فبدأت الحركة الصهيونية تقرأ الكتاب المقدس -كما يقول بعض المؤرِّخين- قراءة انتقائيَّة، يضعون أيديهم على نص ويَبْتُرونه من السياق العام، ويستدلّون به على ما يريدونه من أفضليّتهم كجنس، ومن أحقِّيّتهم بالأرض دون غيرهم. ولذلك نجد مثلًا على سبيل المثال: أن الرجوع إلى الكتاب المقدس عند “حزب العمل” أو عند “الليكود” إنما يراد منه تدعيم سياسةٍ مؤدّاها: أن فلسطين خاصة بالصهيونيِّين وحْدهم بموجب منحة موقّع عليها من الرب؛ فأيّ جنس غير صهيوني غير يهوديّ يدخل هذه الأرض يكون معارضًا لإرادة الرب.

لقد قال الرب لموسى في نص “سِفر العدد”: “كلِّمْ بني إسرائيل وقُل لهم: إنكم عابرون الأردن إلى أرض كنعان، فتَطردون كلّ سكان الأرض من أمامكم، وتمحون جميع تصاويرهم، وتُبيدون كل أصنامهم المسبوكة، وتخربون جميع مرتفعاتهم. وإن لم تطردوا سكان الأرض من أمامكم، يكون الذين تستبقون منهم أشواكًا في أعينكم، ومناخس في جوانبكم، ويضايقونكم على الأرض التي أنتم ساكنون فيها؛ فيكون أنِّي أفعل بكم كما هممْت أن أفعل بهم”.

لاحظ النص: طرْد، تخريب، قتْل أيِّ دم غير يهوديّ بنص التوراة عندهم التي حرّفوها. يقولون: إن القتل والتخريب وهدْم البيوت سياسة توراتية كلّفَهم بها الرب. هذه النصوص -أيها الإخوة- موجودة في “سِفر العدد”.

أمّا “سِفر التثنية” فلا تقتصر النصوص على أن تطلب من الصهاينة اغتصاب الأرض فقط، ولا طرد أصحابها فقط؛ بل إنها تطلب منهم: المذبحة. يقول النص: “متى أتى بك الرب إلهك إلى الأرض التي أنت داخل إليها لتمتلكها، وعليك أن تطرد شعوبًا كبيرة من أمامك، ودفَعهم الرب إلهك أمامك، وضربتهم، فإنك تحرمهم الإقامة في الأرض. لا تقطع لهم عهدًا، ولا تُشفق عليهم، ويدفع ملوكهم إلى يدك فتمحو اسمهم من تحت السماء”.

هل هذا نص إلهي؟! هذا من “سفر التثنية”!

و”سِفر يشوع” وهو “سفر المذابح” لا يؤخذ على أنه نص كلاسيكي عندما يدرس في المدارس الإسرائيلية، ولكن هو كذلك وسيلة إلى الإعداد النفسي للمجنّدين في الجيش. هذا السِّفْر الذي يسمّى عندهم: “سِفر المذابح”، يدرِّبون الجنود في الجيش على قراءة وحفظ وتنفيذ ما جاء في هذا السِّفر. والوعاظ العسكريّون الربانيّون منذ غزو لبنان يدعون إلى الحرب المقدسة، وقد حدّد لهم موضوع الأساس أحد الكهنة الربانيّين برتبة “كابتن” بقوله: “إننا لا ينبغي أن ننْسَى المنابع الكتابية التي تُبرِّر هذه الحروب، والتي تُبرِّر وجودنا هنا. إننا نؤدِّي وجودنا الديني اليهودي بوجودنا هنا. لقد كُتب علينا أداء هذا الواجب الدِّيني التعبوي وهو: أن نغزو الأرض ونحارب العدو”.

ونجد أنّ التلاعب بالنصوص ابتداءً من مجال علم الآثار، حتى الكتب المدرسية هي القضية التي يتنافس فيها الأحبار، والمفكّرون الصهاينة، التلاعب بالنصوص العقائدية إما من التلمود أحيانًا، أو من أسفار التوراة أحيانًا أخرى.

هنا نستطيع أن نقول: إنّ الذين يفسِّرون الحركة على أنها حركة قومية يجدون لذلك مبرّرًا في نصوص التوراة التي تنادي بأفضلية الجنس، وأحقية الأرض، وتنادي في نفس الوقت بعدم جواز إقامة أي فرد غير يهودي على أرض فلسطين؛ فيجعلون هذه الحركة حركة قومية تنادي بأفضلية الجنس اليهودي، وأحقية الجنس الصهيوني أو اليهودي بالإقامة في هذه الأرض بمقتضى وعْد الرب. وهي أسطورة -كما قلنا- أو إحدى الأساطير التي أسّس عليها اليهود قضيّتهم أمام العالَم.

بينما يرى البعض الآخَر: أنّ هذه الحركة هي حركة دينية نابعة من الفكر الديني اليهودي الخالص، بمقتضى النصوص التي نجدها أحيانًا تحت دعاة القائلين بأنها حركة قومية، والنصوص التي نجدها تحت أيدي القائلين بأنها حركة سياسية. هؤلاء معهم نصوص وأولئك معهم نصوص. فوجدنا فريقًا من المحلِّلين يرى: أن هذه الحركة حركة دينية نابعة من الفكر الديني اليهودي التوراتي الزائف، وما يتضمّنه هذا الفكر من نظريات وعقائد يأتي في مقدمة هذه العقيدة: فكْرتهم عن المسيح المخلِّص الذي سيأتي في آخر الزمان، أو في الألفية الثالثة ليُنقذ اليهود من الاضطهاد الذي وقع عليهم، ويحرِّرهم من الشتات.

ثم تأتي بعض الأفكار الأخرى التي ترتقي عندهم إلى مستوى العقائد، كاعتقادهم بأنهم شعْب الله المختار. والنصوص في التوراة موجودة، والاعتقاد بالأرض والعودة إلى الأرض، والنصوص موجودة. ويشكِّل هذا كلّه مزيجًا يفعل فعْله في وجود ونشاط هذه الحركة الصهيونية عند أصحاب هذا الرأي القائلين بأنها حركة دينية. القائلون بأنها حركة قومية معهم نصوص، والقائلون بأنها حركة دينية معهم أيضًا نصوص.

لكنّ التحليل الأخير لهذه الحركة يرى: أنها حركة سياسية، وإن كانت لا تخلو من أهداف ونوازع، أو مستندات ووثائق دينية، لكن أهدافها أهداف سياسية بالدرجة الأولى، سعى أصحابها إلى تنفيذ فكْرهم السياسي. ولا مانع أن يستغلُّوا المواقف العلمانية ليستفيدوا بالفكر العلماني في تنفيذ مخططاتهم؛ فيعملوا على استغلال الظُّروف السياسية، ويحاولوا إقناع اليهود بأنهم أمّة لها حق تقرير المصير. ولكنهم استندوا في التنفيذ إلى أفكار دينيّة مستقاة من التراث الديني اليهودي، لِما للفكر الديني من تأثير في إثارة المشاعر، وحشْد القوى، وإثارة الطاقات الكامنة في النفوس، لتنفيذ وعْد الرب بالأرض وبأفضلية الشعب.

ويتلخَّص رأي هؤلاء القائلين بأنها حركة سياسية في: أن الحركة الصهيونية هي في جوهرها حركة علمانية لا تستند إلى أي فكر ديني عند الحاجة؛ لكنها في وسائلها، وتخطيطها، ومؤتمراتها، ووسائلها العملية علمانية مائة في المائة، أضافت على هذا النشاط العلماني طابعًا دينيًّا لما له من تأثير في النفوس كما قلنا من قبل.

ويستدل أصحاب هذا الرأي على: أن الحركة الصهيونية حركة سياسية: بأن تاريخ الزعماء كلّه تاريخ علماني. ولعل من أوضح الأدلة على صحة هذا الرأي: أقوال زعماء الحركة الصهيونية أنفسهم التي تدل على هذا الطابع العلماني دلالة واضحة؛ حتى إن “هرتزل” أكبر مؤسسي هذه الحركة قد قال: “إنني لا أنقاد لأي دافع دينيّ”. ونقرأ في كتابه (الدَّولة اليهوديَّة) الذي يُنظر إليه على أنه أحد الكتب المقدسة لهذه الحركة لمّا تحدث عن شكل الحكومة التي ستحكم الدولة عند قيامها، تساءل قائلًا: “هل سننتهي إلى حكومة دينيّة؟”، ثم أجاب قائلًا: “لا، بالتاكيد! إن العقيدة تجمعنا، والمعرفة تمنحنا الحرية؛ ولذلك سنمنع أيّة اتجاهات دينيّة تتصدّر قيادتنا من جانب الكهنوت بالذات. سوف نحصر كهنوتنا داخل المعابد، كما سينحصر الجيش داخل الثكنات، وسينال كلّ منهما ما يليق به من احترام رفيع، ولكن لن يسمح لهما بالتدخل في شئون الدولة؛ لأن ذلك سيجلب علينا صعوبات في الداخل والخارج”.

هذا النص صرّح به “تيودور هرتزل” كدستور للحركة الصهيونية ونشاطها -فيما بعد؛ وهذا ما جعل كثيرًا من المفكِّرين يرَوْن أنّ الحركة الصهيونية هي حركة سياسية في أهدافها ومقاصدها، وإن تستّرت أحيانًا ببعض النصوص الدينية. وعندما زار “هرتزل” القدس قبيل وفاته، انتهك العديد من الشعائر الدينية اليهودية، ليؤكِّد أن قضيّته منفصلة عن العقيدة الدينية تمامًا. وكان صديقه في هذه الزيارة “ماكسنوردو” في سنة 1923م، وهو أحد الزعماء الصهيونيين، وكان ملحدًا يُجاهر بالإلحاد. وقد وصل إلى حد القول: “بأنه سيأتي اليوم الذي يحتلّ فيه كتاب “هرتزل” مكانة تساوي مكانة الكتاب المقدس ذاته، حتى بالنسبة للمتديِّنين بالديانة اليهودية”.

ولا نعجب إذا وجدنا “حاييم وايزمان” أوّل رئيس لدولة إسرائيل يتلذّذ في بعض الأحيان بمضايقة الحاخامات -رجال الدِّين- بشأن الطعام المباح شرعًا وغير المباح. هذا كلّه يدلّ على: أنّ الحركة -كما أرادها “هرتزل”- هي حركة سياسية. ثم إن موقف رجال الدين اليهودي والمتديِّنين منهم -من هذه الدولة التي سعَت الحركة الصهيونية إلى إقامتها- قابلوها بالرفض المطلق منذ أن كانت مشروعًا في عقولهم، واستمرّوا على رفضها حتى بعد إقامتها.

وقد انعقد مؤتمر في مدينة “مونتريال” بكندا للحاخامات الأمريكيِّين بالذات في سنة 1897م وهو نفس العام الذي انعقد فيه المؤتمر الأوّل للحركة الصهيونية برئاسة “هرتزل”، وقد أصدر هؤلاء الحاخامات قرارًا برفض مشروع “هرتزل”، كما رفضوا أيّ مشروع لإقامة الدولة اليهودية. وعبّر بعضهم عن مخاوفهم من الأيديولوجية العلمانية التي تسعى الصهيونية لنشرها؛ بل إنّ بعضهم عبّر عن تخوفه قائلًا: “إن إقامة دولة يُعدّ اقتلاعًا لليهودية من جذورها”. بل إنه نظر إلى الصهيونية وإلى دولة إسرائيل بوصفهما من تعاليم الكفار التي نشرها المرتدّون أقطاب الفكر الصهيوني. لماذا؟ لأنهم من وجهة نظر الحاخامات: علمانيّون، وليسوا رجال دِين.

وزيادة على ذلك، فإن الحركة الصهيونية لا يمكن تصنيفها ضمن الحركات الدينية اليهودية؛ لأنها لا تملك رؤية دينية من جانب، كما أنها لا تمتلك برنامجًا دينيًّا تبتغي نشْره بين اليهود؛ ومن ثمّ نجد المؤرخين للحركات الدينية لا يذكرون هذه الحركة ضمن الحركات اليهودية الخالصة؛ بل إننا نلاحظ أنّ الحركة الصهيونية تؤكِّد على القيَم المادية، وتميل إلى ترجمة القيَم الدينية إلى مفاهيم مادية. فكل شيء روحي يُترجَم في إسرائيل إلى قيمة مادية، ممّا يدل على: أنّ الحركة حركة علمانية، وليست حركة دينية.

وإذا علمنا أنّ رواد هذه الحركة قد نشئوا في ربوع أوربا، نستطيع أن نقول إن الصهيونية قد ورثت هذا الطابع العلماني من البيئة الأوربية نفسها؛ لأن أقطاب الفكر الصهيوني تربّوْا في أوربا. وهذا لا يعني أن الحركة -وإن كانت علمانية- قد قطعت علاقتها التامة مع الموروث الديني؛ لا، هذا غير واقع وغير متوقع أيضًا؛ لأن الفصل بين الحركة السياسية القومية وبين الدِّين يُعدّ نوعًا من الغباء السياسي الذي يحرص زعماء الحركة الصهيونية على عدم الوقوع فيه؛ لأنهم بذلك سوف يستثيرون رجال الدين والمخلصين من اليهود في كل وقت ضدّهم.

لذلك فهُم أحيانًا يتستّرون بالستار الديني، وأحيانًا يعلنون شعارهم العلماني.

كان دعاة الحركة الصهيونية أيضًا على علْم بما للدِّين من قوة في تحريك الجماهير وجذْبها إلى ساحة الكفاح، وإخراجها من عزلتها إلى حيِّز العمل؛ ولذلك نجد أنّ هذه الحركة إذا وجدت في الاستعانة بالدِّين فائدة ونفعًا لجئوا إليه، وإذا لم يكن فيه نفع ولا فائدة بالنسبة للواقع التاريخي نفضوا أيديَهم منه. ولا تعجب أنّ جنود الحرب في حرب 1967م، وحرب 1948م، وحرب 1973م كان بين كلّ كتيبة يهودية بعض أحبار اليهود الذين يقرئونهم التوراة، ويعلّمونهم ما فيها من أوامر ربانية تأمرهم بقتل كلّ ما هو غير يهودي، أو تذبحه، أو تنفيه من الأرض.

هذا من حيث علاقة الحركة كحركة سياسية بالفكر الديني.

وإذا علمنا أنّ قادة الحركة أيضًا يتكوّن لديهم إحساس بأن الدِّين وحْده هو القادر على أن ينتزع اليهود من البلاد التي يعيشون فيها، ليتركوها ويهاجروا إلى أرض فلسطين، لجئوا إلى النصوص الدينية التي تدعو كل يهودي أن يترك مكانه ووطنه الذي يعيش فيه ويهاجر إلى أرض الميعاد.

فتلاحظ معي: مع أنها حركة علمانية سياسية كما يرى هؤلاء، إلا أنها تلجأ إلى الدِّين لتستفيد بما فيه من نصوص، إمّا لإثارة قضية العودة والإحساس بالحاجة إلى أرض الميعاد، أو لإثارة الجنود الصهيونيِّين واليهود ضدّ من هو غير يهودي، أو لإثارة قضية شعب الله المختار عندهم.

وأيضًا كان للدين أثر كبير في ربط هذه الحركة في الكتب المقدسة ليعطيهم بُعدًا تاريخيًّا؛ لأن الدِّين هو الذي يُعطي المواطن الذي يعيش فوق هذه الأرض قيمته المقدّسة المستمَدة من النصوص التي امتلأت بها التوراة، والتي تكررت في أسفار العهد القديم بالنبوءات الكثيرة التي كتَبها اليهود في فترات هزيمتهم وغربتهم وشتاتهم، والتي قد اكتسبت بمرور الزمن قوّة العقيدة، وأصبحت تحيا في وجدان اليهودي، وتحرِّكه لتحقيق كلّ ما هو أمْر للعودة إلى الأرض، ولمحاربة غير اليهودي، والاعتزاز بنفسه كواحد من أفراد شعب الله المختار.

فقضية استغلال الدِّين كانت قاسمًا مشتركًا بين مَن يُفسِّر الحركة بأنها حركة سياسية، ومن يُفسِّر الحركة بأنها حركة قومية. وقد سعى قادة الحركة الصهيونية إلى استثمار هذه الفكرة أكثر من غيرهم في أي وقت مضى خاصة في العصر الحديث؛ حتى إننا نجد واحدًا منهم يصرِّح بهذه العبارة: “لو ألغينا مفاهيم الشعب المختار الموجودة في نصوص الكتاب المقدس، ولو ألغينا قضية الوعد بالأرض الموجودة في نصوص الكتاب المقدس، لو ألغينا هذه وتلك لانهارت الصهيونية من أساسها”.

وعندما سأل “بلفور” صاحب الوعد المشهور، عندما سأل (وايزمان)، ومعروف من هو (وايزمان) أحد أكبر زعماء الحركة الصهيونية بعد “هرتزل” والرئيس الأوّل لإسرائيل بعد قيامها، سأله “بلفور” قائلًا: “لماذا لم تقبلوا إقامة الوطن القومي في أوغندا مثلًا؟”.

وكانت هذه فكرة مطروحة في مؤتمر “بال”: أن تقام الدولة في أوغندا أو في مكان آخر غير فلسطين، فأجابه (وايزمان): “إن الأمر الوحيد الذي يجمع كلّ شتات اليهود، ويُجمع عليه اليهود كأساس للحركة الصهيونية هو: فلسطين، وفلسطين وحدها”. وقلت: حتى لو أنّ موسى نفسه جاء يدعو لغيرها لما اتّبعه أحد. وإن أي ابتعاد عن فلسطين يشكِّل نوعًا من الكفر.

ونجد “موشي ديان” نفسه -وكان وزيرًا للحربية الإسرائيلية- كان يخاطب الجنود قائلًا: “إذا كنا نحن أصحاب التوراة، وإذا كنّا نعتبر أنفسنا شعب التوراة، فينبغي لنا أن نمتلك كذلك أرض التوراة”. لاحظوا معي: الربط بين الفكر الديني والمتمثل في نصوص التوراة، والفكر السياسي المتمثل في امتلاك الأرض.

ولم يكن مهمًّا بالنسبة لـ”بن جوريون” مثلًا -وهو أحد قادة إسرائيل المعاصرين: أن يكون الله قد أعطى لليهود أو لأنبيائهم عهدًا بإعطاء أرض فلسطين، لكن المهمّ في نظره: أن تظل هذه الأسطورة مغروسة في الوجدان اليهودي؛ ولذلك يجب أن تبقى سارية المفعول، حتى بعد أن يثبت أنَّ الوعد المقطوع به وهو الوعد بالأرض، والوعد بأنهم شعب الله المختار، أن يثبت أنَّه مجرّد أسطورة من الأساطير الشعبية التي ليس لها مصدر إلهيٌّ.

إلى هذا الحدّ يتشبّث قادة إسرائيل المعاصرين، كما تشبّث أجدادهم في الماضي بالنصوص الدينية لكي يؤكِّدوا قضيّتهم، ويجعلوا من باطلهم حقًّا في نظر العالَم. وعن طريق هذه النصوص، استطاعوا أن يقنعوا أوربا بأنهم أصحاب الأرض، وأن يقنعوا مفكِّري العالَم بأنهم شعب الله المختار، وأن يقنعوا العالم كلّه بأسطورة الأرض، وأسطورة الميعاد، وأسطورة عودة المسيح إلى أرض فلسطين، لِيحكم العالم في الألفية الثَّالثة التي تأسّس بها، والتي تأسّست عليها فكرة الصّهيونية الصليبية المعاصرة الَّتي تأسست في أمريكا لمناصرة الصهيونية في أرض فلسطين.

error: النص محمي !!