ما استدركه الحاكم من أحاديث هي في الصحيحين، أو في أحدهما
نتعرَّض لصنف آخَر من الأحاديث… وليس هناك خطورة كبيرة في إيراد الحاكم لهذه الأحاديث في كتابه؛ ذلك لأنَّها صحيحة، ولأنَّها في الصَّحيحيْن، ولكن لوهْم من الحاكم اعتبرها ليست من الصحيحيْن أو ليست من رواية أحدهما، فأتى بها.
وقد سرد الزَّركشيُّ في (نكته على ابن الصلاح) أحاديثَ من هذا النَّوع، أخرجها الحاكم في (المستدرك) وهي من الصَّحيحيْن أو من أحدهما؛ فبلغت عشرة أحاديث. ومن هذه الأحاديث:
الحديث الأول:
– حديث أبي قتادة: ((أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا عرَّس بليلٍ اضطجع على يمينه، وإذا عرَّس قبل الصبح نصب ذراعيه نصبًا، ووضع رأسه على كفِّه)).
ولعلَّه صلى الله عليه وسلم كان يفعلُ ذلك حتَّى يكونَ عنده نوعٌ من اليقظة يستيقظ بها لصلاة الصبح.
هذا الحديث رواه الحاكم في (المستدرك) (1/445)، وقال: “صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه”.
وتنبَّه الذهبي إلى أنَّه في (مسلم)، فقال: أخرجه مسلم أيضًا، وهو موجودٌ فيه. رواه في كتاب: المساجد، في باب: قضاء الصلاة الفائتة، في رقم (313).
والحديث رواه أحمد، والتِّرمذيُّ في (الشمائل)، كلاهما من طريق حمَّاد، عن حُميد الطويل، عن بكر بن عبد الله بن رباح، عن أبي قتادة.
و”التَّعريس” هو: نزول المسافر آخِر الليل نزلةً للنَّوم والاستراحة.
الحديث الثَّاني:
فهو حديث ابن عمر: ((أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو: اللهم إنِّي أعوذ بك من زوال نعمتك، ومن تحوُّل عافيتك، ومن فجأة نقمتك، ومن جميع سخطك)). هذا الحديث رواه الحاكم في (المستدرك) (1/531)، وقال: “صحيحٌ على شرط الشَّيخيْن، ولم يخرِّجاه”.
وقال الذَّهبي: “خرَّجه مسلم”؛ فتنبه الذَّهبي إلى أنَّه في (مسلم).
والحديث في (مسلم) فعلًا في كتاب: الرقاق، في باب: أكثر أهل الجنة الفقراء(4/2097)، طبعة الحلبي، رقم (96) في هذا الكتاب.
الحديث الثَّالث:
فهو حديث عمَّار بن ياسر: ((رأيتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم وما معه إلا خمسةُ أعبُد، وامرأتان، وأبو بكر)) أي: ذلك في بداية الإسلام.
هذا الحديث أخرجه الحاكم في (المستدرك) (3/393)، وقال: “صحيحٌ على شرط الشَّيخيْن”.
والحديث أخرجه البخاري في كتاب: فضائل الصَّحابة، باب: لو كنت متَّخذًا خليلًا، يعني: في فضائل أبي بكر، وأنَّه كان من أوائل الَّذين أسرعوا إلى الإسلام.
الحديث الرَّابع:
حديثٌ ذُكر عند جابر بن زيد، في تحريم الحُمُر الأهليَّة، فقال: “أبى ذلك البحر”، يعني: ابن عباس، وتَلا: {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيم} [الأنعام: 145].
فكأنَّ ابنَ عباس يرى أنَّ ما ذُكر في هذه الآية هو المحرَّم، وليس فيها تحريم الحُمُر الأهليَّة؛ وهكذا كان رأي ابن عباس -رحمه الله تعالى.
والحديث رواه الحاكم في (المستدرك) (2/317)، وقال: “هذا حديث صحيح على شرط الشَّيخيْن، ولم يُخرِّجاه بهذه السِّياقة”.
والحديث في (البخاريِّ) في كتاب: الذَّبائح والصَّيد، في باب: لحوم الحُمُر الإنسيَّة.
حديث أبي اليَسَر في التَّقاضي:
هذا الحديث، رواه الحاكم في (المستدرك) (2/29)، وقال: “هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه”.
وفيه: أنَّ النبَّيَّ صلى الله عليه وسلم قال: ((مَن أنظر مُعسرًا، أو وضعَ عنه، أظلَّهُ الله عز وجل في ظلِّه)).
هذا الحديث أخرجه مسلم في كتاب: الزُّهد والرقائق، في باب: حديث جابر الطَّويل، وقصَّة أبي اليَسَر(4/200، 301)، من طبعة الحلبي، ترقيم فؤاد عبد الباقي رقم (74) في هذا الكتاب.
حديث ابن عباس: ((نعمتانِ مغبونٌ فيهما كثيرٌ من النَّاس…)):
وحديث ابن عبَّاس: ((نعمتان مغبونٌ فيهما كثيرٌ من النَّاس: الصِّحة والفراغ)) رواه الحاكم في (المستدرك) (4/306)، وقال: “هذا حديثٌ صحيحٌ على شرط الشَّيخين، ولم يخرجاه”.
وتنبّه الذَّهبيُّ إلى أنَّ هذا الحديث في (البخاري)، فقال متعقِّبًا: ذا في (البخاريِّ)، في نفس الموضع، لأنَّ (التلخيص) موجود مع (المستدرك) في الطَّبعة الهنديَّة.
حديث أبي ذر: ((يا عبادي، إنِّي حرّمتُ الظلم على نفسي…)):
وحديثُ أبي ذر: ((يا عبادي، إنِّي حرََّمتُ الظُّلم على نفسي، وجعلتُه بينكم مُحرَّمًا؛ فلا تَظَّالموا…)) أخرجه الحاكم في (المستدرك) (4/241)، وقال: “صحيحٌ على شرط الشَّيخين، ولم يخرجاه بهذه السِّياقة”.
فالحديث أخرجه مسلم، في كتاب: البر والصِّلة والآداب، في باب: تحريم الظُّلم (4/1993)، برقم (2577).
حديث رافع بن خديج: ((كسب الحجَّام خبيث…)) الحديث:
وحديثُ رافع بن خَديج: ((كسْبُ الحجَّام خبيث، وثمن الكلب خبيث، ومهرُ البغيِّ خبيث)) هذا الحديث أخرجه الحاكم في (المستدرك) (2/42)، وقال: “صحيح على شرط الشَّيخيْن، ولم يخرجاه”، ووافقه الذهبي على ذلك.
قال الزَّركشي: وقد أخرجه البخاري ومسلم.
والحديث لم نقف عليه في (صحيح البخاري) كما قال الزَّركشيُّ بهذا اللفظ، بل بلفظ: ((إنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب، ومهر البغيِّ…)) الحديث. ورواه من حديث أبي مسعود الأنصاريّ، في كتاب: البيوع، في باب: ثمن الكلب (4/426).
حديث رافع بن خديج: ((كسبُ الحجَّام خبيث، وثمنُ الكلب خبيث، ومهرُ البغيِّ خبيث)) أخرجه مسلم في كتاب: المساقاة، في باب: تحريم ثمن الكلب (3/1199)، برقم (1568).
وهكذا وجدنا أنَّ الحاكم وهمَ في قوله: “لم يُخرجاه”، ووهمَ معه أيضًا الذَّهبيُّ، فلم يعترض عليه، كما اعترض على كثير من الأحاديث السَّابقة.
حديث ((لا تتمنوا لقاء العدو)):
وحديث ((لا تتمنوا لقاء العدو)) هذا الحديث أخرجه الحاكم في المستدرك، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه (2/78) وقد أخرجه البخاري في كتاب الجهاد في باب: “كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا لم يقاتل أول النهار أخَّر القتال حتى تزول الشمس”، وفي مسلم في كتاب الجهاد والسير في باب: كراهة تمني لقاء العدو، والأمر بالصبر عند اللقاء، (6/1362) برقم (1741).
وهذا الحديث يبين لنا مع ترجمة البخاري ومسلم أن الصحابة -رضوان الله عليهم- كان عندهم حماس شديد للقاء العدو، ولكن المعارك لها تبعاتها، ولذلك قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك: ((لا تتمنوا لقاء العدو، وسلوا الله العافية)) فقد وهم الحاكم عندما قال: أو عندما استدرك على الشيخين هذا الحديث وهما أخرجاه.
حديث أبي سعيد: ((لا تكتبوا عني شيئًا غير القرآن)):
وأما الحديث الأخير عند الزركشي: فهو حديث أبي سعيد الخدري قال: ((لا تكتبوا عني شيئًا غير القرآن)) أخرجه مسلم، هذا الحديث أخرجه الحاكم في (المستدرك) وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وقال الذهبي على شرطهما -يعني: كما وهم الحاكم وهم أيضا الذهبي، ووافقه على قوله- والحديث رواه مسلم في كتاب الزهد والرقائق، باب: التثبت في الحديث، وحكم كتابة العلم في (4/2298) برقم (3004).
وهذا الحديث هو الحديث الوحيد في الصحيحين الذي ينهى عن كتابة الحديث، أما أحاديث الإذن فهي كثيرة؛ حتى إن بعض العلماء قد أعله بأنه روي موقوفًا من كلام أبي سعيد.
قال السيوطي: وفيه أحاديث جمة غير هذه الأحاديث.
قال السيوطي في (البحر الذي زخر في شرح ألفية الأثر) و(الألفية) هي التي أيضًا ألفها السيوطي وشرحها في هذا الكتاب، قال: “وفيه أحاديث جمة غير ما ذكر”، يعني: هناك أحاديث أخرى زعم الحاكم أنها ليست في الصحيحين، أو ليست في أحدهما، ويتبين أنها في أحدهما أو في الصحيحين، والسيوطي يقول: هي أحاديث كثيرة غير ما ذكرها الزركشي، والزركشي في (النكت على ابن الصلاح) -ذلك الكتاب الذي ذكر الأحاديث فيه- لم يذكرها على طريق الحصر، وإنما قال: إن فيه أحاديث استدركها على الشيخين أو أحدهما وهي في الصحيحين أو في أحدهما من غير حصر ومن غير قصر.
من الأحاديث التي ذكرها السيوطي، وهي ثلاثة أحاديث:
الحديث الأول:
حديث فضالة بن عبيد الأنصاري قال: ((طوبى لمن هدي إلى الإسلام وكان عيشه كفافًا)) هذا الحديث أخرجه الحاكم في (المستدرك) (1/35)، وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم، قال السيوطي: أخرجه مسلم، والحديث لم نقف عليه عند مسلم بهذا اللفظ، ولا من حديث فضالة بن عبيد الأنصاري, ولكن وجدناه من حديث عبد الله بن عمرو بلفظ: ((قد أفلح من أسلم ورزق كفافًا وقنعه الله بما آتاه)) رواه مسلم في كتاب الزكاة، باب الكفاف والقناعة (2/730) برقم (4054)، أما حديث فضالة المذكور فرواه أحمد (3/19)، والترمذي في كتاب الزهد باب ما جاء في الكفاف والصبر، وقال: حديث حسن صحيح.
قلنا: إن حديث عبد الله بن عمرو ((قد أفلح من أسلم ورزق كفافًا وقنعه الله بما أتاه)) رواه مسلم، والترمذي وقال: حديث حسن صحيح، كلاهما من طريق حيوة بن شريح، قال: أخبرني أبو هانئ الخولاني أن أبا علي عمر بن مالك الجنبي حدثه أنه سمع فضالة بن عبيد يقول … الحديث، ورجاله ثقات سوى أبا هانئ، قال الحافظ: لا بأس به.
الحديث الثاني:
حديث أنس: ((لما خلق الله آدم صوره، وتركه في الجنة ما شاء الله أن يتركه، فجعل إبليس يطيف به)) يعني: من طاف يطيف ويطوف طيفًا وطوفًا فهو طائف، وأصل طيف: الجنون، ثم استعمل في الغضب، ومس الشيطان، أي: جعل الشيطان يمسه، ويوسوس له، في لسان العرب، وفي تاج العروس.
هذا الحديث أخرجه الحاكم في (المستدرك) (2/542) وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، والحديث في مسلم، يعني: وهم الحاكم ووهم الذهبي معه، فالحديث في مسلم في كتاب البر والصلة، باب خلق الإنسان خلقًا لا يتمالك، (4/2016).
الحديث الثالث:
حديث بلال بن الحارث: ((إن العبد ليتكلم بالكلمة…)) الحديث أخرجه الحاكم في (المستدرك) (1/45)، وقال: هذا حديث صحيح، وهذا الحديث في صحيح مسلم ولكن ليس من رواية بلال بن حارث، بل من رواية محمد بن إبراهيم عن عيسى بن طلحة عن أبي هريرة، وهو في كتاب الزهد والرقائق، باب: التكلم بالكلمة يهوي بها في النار (4/2290) برقم (49، 50)، وكذلك رواه البخاري في كتاب الرقاق في باب حفظ اللسان، أما حديث بلال بن الحارث بهذا اللفظ فرواه مالك في كتاب الكلام، في باب: ما يكره من الكلام، (2/985)، والترمذي في كتاب: الزهد، باب: في قلة الكلام، وقال: هذا حديث حسن صحيح، والنسائي في الكبرى، وابن ماجه في كتاب الفتن، في باب كف اللسان في الفتنة، كلهم من حديث محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص عن أبيه عن جده عن بلال بن الحارث وبعضهم لم يذكر عن جده، ومحمد بن عمرو بن علقمة صدوق له أوهام، وعمرو بن علقمة أبوه مقبول، ذكر ذلك الحافظ في (تقريبه).
ثم بين السيوطي فائدة: وهي أنه لم يقع للحاكم أنه وصف حديثًا بـ: “حسن” إلا حديثًا واحدًا، وهو حديث: ((اللهم اجعل أوسع رزقك عليّ عند كبر سني، وانقطاع عمري)) قال فيه: حسن غريب، والحديث في (المستدرك) (1/542)، ونص قوله: “هذا حديث حسن الإسناد والمتن غريب” قال الذهبي: عيسى متهم، قلت: يعني عيسى بن ميمون مولى القاسم.
قال السيوطي: وقال في كثير من الأحاديث مستقيم الإسناد، وقال في حديث أبي هريرة: ((من لقي الله تعالى بغير أثر من جهاد لقيه وفيه ثلمة)) وهذا الحديث رواه الحاكم في (المستدرك) (2/79)، وقال: هذا حديث كبير في الباب غير إن الشيخين لم يحتجَّا بإسماعيل بن رافع.
وقال الذهبي في (تلخيصه): إسماعيل ضعيف.
وهذا الحديث رواه الترمذي في كتاب فضائل الجهاد، في باب: ما جاء في فضل المرابط، وقال: هذا حديث غريب من حديث الوليد بن مسلم عن إسماعيل بن رافع. وإسماعيل بن رافع قد ضعّفه بعض أصحاب الحديث، ورواه ابن ماجه في كتاب الجهاد في باب التغليظ في ترك الجهاد، كلاهما من طريق الوليد بن مسلم عن هشام بن عمار، وفي رواية ابن ماجه قال: ثنا إسماعيل بن رافع؛ يعني: أن الوليد بن مسلم -صرح بالتحديث وهو مدلس- عن إسماعيل بن رافع عن سمي عن أبي صالح عن أبي هريرة… الحديث، وإسماعيل بن رافع ضعيف كما نقل الترمذي عن بعض الحفاظ منهم أحمد ويحيي بن معين وغيرهما، وبقية رجال السند ثقات، والحديث رمز له السيوطي بالحسن، وضعفه غيره.
والثلمة: معناها الخلل.