Top
Image Alt

ما المراد بقولهم: “متفق عليه”؟

  /  ما المراد بقولهم: “متفق عليه”؟

ما المراد بقولهم: “متفق عليه”؟

انتقل السيوطي إلى مسألةٍ تتعلّقُ بطبيعة أحاديث الشَّيخيْن، وبشرطهما، وهي: إطلاق لفظ “متفقٌ عليه” على ما اتّفق عليه البخاري ومسلم. وبيَّن ابنُ الصَّلاح والنَّووي أنَّ مرادَهم: اتِّفاقُ الشَّيخيْن البخاري ومسلم، لا اتِّفاق الأمّة.

قال ابن الصَّلاح:

لكن يلزم من اتّفاقهما اتّفاقُ الأمَّة عليه، لتلقِّيهم له بالقَبول.

وذكر ابن الصلاح: أنَّ ما روياه أو أحدُهما فهو مقطوعٌ بصحَّته، والعلمُ القطعيُّ حاصلٌ فيه. قال: خلافًا لمن نفى ذلك، محتجًَّا بأنَّه لا يُفيد إلا الظَّنَّ. وإنما تلقَّته الأمة بالقبول؛ لأنه يجب عليهم العمل بالظن، والظن قد يخطئ؛ فما دام الظن قد يخطئ فلا يُقطع بصحته.

وهنا تفرقةٌٌ بين إفادة العلْم ووجوب العمل؛ فمن نفى العلمَ القطعيَّ بحصوله لما رواه الشيخان أو أحدُهما، فإنه أثبت وجوب العمل بذلك.

قال ابن الصلاح: وقد كنتُ أميل إلى هذا وأحسبه قويًَّا، ثم بان لي: أنَّ الذي اخترناه أولًا هو الصَّحيح؛ لأنّ ظنَّ من هو معصومٌ من الخطأ لا يخطئ.

يعني: الأمّة في إجماعها معصومةٌ من الخطأ، وقد تلقَّت الأُمَّة ما رواه الشَّيخان أو أحدهما، واتفقت على صحته، فليس فيه خطأٌ؛ فيفيد العلمَ القطعيَّ.

هذا، وقد شبَّه ابن الصلاح إجماعَ الأمّة في تلقِّيها وفي حكمها بصحة ما في البخاري وما في مسلم على الجملة بطبيعة الحال، شبَّهه بالإجماع المبنيِّ على الاجتهاد، والاجتهاد قد يصيب ويخطئ، ولكنَّ الإجماع يجعل الأمر حجةً مقطوعًا بها؛ فكذلك الأحاديث التي قد يكون فيها خطأ، لكنَّ إجماع الأمَّة عليها يجعلُها تفيد العلم القطعيَّ.

قال إمامُ الحرميْن:

لو حلف إنسانٌ بطلاق امرأته: أنَّ ما في الصَّحيحيْن ممَّا حكما بصحته، من قول النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم لما ألزمته الطلاق، لإجماع علماء المسلمين على صحته. قال: وإن قال قائل إنَّه لا يحنث ولو لم يُجمع المسلمون على صحتهما، للشَّكِّ في الحنث، فإنه لو حلف بذلك في حديث ليس هذه صفته لم يحنث، وإن كان رواتُه فُسَّاقًا.

فالجواب: أنَّ المضاف إلى الإجماع هو: القطع بعدم الحنث ظاهرًا وباطنًا، وأمَّا عند الشَّك فعدم الحنث محكوم به ظاهرًا مع احتمال وجوده باطنًا حتى تُستحبَّ الرجعة؛ لأنّ الطَّلاق قد يكون قد وقع.

قال النووي:

وخالفه المحقِّقون والأكثرون -يعني خالف ابنَ الصَّلاح المحقِّقون والأكثرون- فقالوا: يفيد الظن ما لم يتواتر؛ لأنّ الأحاديث التي في الصَّحيحيْن فيها متواترٌ وفيها آحاد؛ فالمتواتر يُفيد العلم القطعيَّ، أما الآحاد -وهي الأكثر- فتفيد الظَّنَّ.

وقال النووي أيضًا في (شرح مسلم): لأنَّ ذلك شأن الآحاد، ولا فرق في ذلك  بين الشَّيخيْن وغيرهما. وتلقِّي الأمة بالقبول إنَّما أفاد وجوبَ العمل بما فيهما، من غير توقُّف على النَّظر فيه، بخلاف غيرهما فلا يُعمل به حتى يُنظرَ فيه، ويوجد فيه شروط الصَّحيح. ولا يلزم من إجماع الأمّة على العمل بما فيهما إجماعُهم على القطع بأنه كلام النبي صلى الله عليه وسلم.

فملخَّص كلام النَّوويِّ: أنَّه يفرِّق بين ما أجمعتْ عليه الأمَّة من العمل بما في الصَّحيحيْن، وأنَّ القطعَ بما في الصَّحيحيْن أو العلم القطعيَّ لم تُجمع عليه الأمَّة، ولم تقطع بأنَّه من كلام النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ولا يلزمُ من إجماع الأمَّة على العمل بما فيهما إجماعُهم على القطع بأنَّه كلامُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم.

قال: وقد عاب ابنُ عبد السَّلام على ابن الصَّلاح هذا القول، وقال: إنَّ بعض المعتزلة يروْن أنَّ الأمّة إذا عملت بحديث، اقتضى ذلك القطعَ بصحّته، قال: وهو مذهب رديء.

وقال البلقينيُّ:

ما قاله النَّوويُّ وابنُ عبد السَّلام ومَن تبعهما ممنوعٌ، فقد نََقَل بعضُ الحُفاظ المتأخِّرين مثلَ قول ابن الصلاح، عن جماعة من الشَّافعيَّة كأبي إسحاق، وأبي حامد الإسفراييني، والقاضي أبي الطيب، والشيخ أبي إسحاق الشيرازي، وغيرهم… وبه يقول أهل الحديث قاطبة. ومذهب السلف عامَّةً أنهم يقطعون بالحديث الذي تلقَّته الأمَّة بالقَبول؛ بل بالغ ابنُ طاهر المقدسي في (صفة التصوف) فألحق به ما كان على شرطهما وإن لم يخرجاه.

وقال ابن حجر:

ما ذكره النووي في (شرح مسلم) من جهة الأكثرين، أمّا المحقِّقون فلا، يعني النَّووي قال: خالفه -أي: خالف ابن الصلاح- المحقِّقون والأكثرون.

فشيخُ الإسلام ابنُ حجر يوافق على قوله: إنَّه خالفه الأكثرون، ولكنَّه لم يوافقه في أنَّه قد خالفه المحقِّقون.

قال: فقد وافق ابنَ الصَّلاح أيضًا محقِّقون، وقد بيَّنهم البلقيني كما رأينا.

وقال في (شرح النُّخبة) -أي: ابن حجر-: الخبر المحتفُّ بالقرائن يُفيدُ العلم، خلافًا لمن أبى ذلك.

أنواع الخبر المحتفِّ بالقرائن:

قال: وهو أنواعٌ:

– منها: ما أخرجه الشَّيخان في (صحيحيْهما) ممَّا لم يبلغْ حدَّ التَّواتر، فإنَّه احتفَّت به قرائن، منها: جلالتُهما في هذا الشَّأن، وتقدُّمُهما في تمييز الصَّحيح على غيرِهما، وتلقِّي العلماء لكتابَيْهما بالقََبول.

وهذا التَّلقِّي وحده أقوى في إفادة العلْم من مجرَّد كثرة الطُّرق القاصرة عن التَّواتر، إلَّا أنَّ هذا مختصٌّ بما لا ينتقدُه أحدٌ من الحُفَّاظ ممَّا في الكتابيْن، وبما لم يقع التجاذب بين مدلوليْه ممَّا وقع في “الكتابيْن”، حيث لا ترجيح، لاستحالة أن يُفيد المتناقضان العلمَ بصدْقهما من غير ترجيحٍ لأحدهما على الآخَر، وماعدا ذلك فالإجماعُ حاصلٌ على تسليم صحته.

قال ابن حجر: وما قيل من أنَّهم إنَّما اتَّفقوا على وجوب العمل به لا على صحَّة معناه، أي: القطعُ بالعلم به ممنوعٌ، لأنَّهم اتَّفقوا على وجوب العمل بكلِّ ما صحَّ ولو لم يُخَرِّجاه، فلم يبقَ للصَّحيحيْن في هذا مزيَّة، والإجماعُ حاصلٌ على أنَّ لهما مزيَّةً، فيما يرجع إلى نفس الصِّحَّة.

قال: ويُحتمل أن يُقال: المزيَّةُ المذكورة كونُ أحاديثهما أصحُّ الصَّحيح، قال: أي الأحاديث المفيدة للعلم.

– ومنها: المشهور، إذا كانت له طُرق متباينة، سالمة من ضعف الرُّواة والعلل. وممَّن صرح بإفادته العلمَ النَّظريَّ: الأستاذُ أبو منصور البغدادي، قال:.

– ومنها: المسلسل بالأئمَّة الحُفَّاظ المُتقنين؛ حيث لا يكون غريبًا، كحديثٍ يرويه أحمد مثلًا، ويشاركه فيه غيرُه عن الشَّافعي، ويشارك فيه غيرُه عن مالك، فإنَّه يُفيد العلم عند سماعه، بالاستدلال من جهة جلال رواته.

قال: وهذه الأنواع الَّتي ذكرناها، لا يحصل العلْم بصدق الخبر منها إلا للعالِم المتبحِّر في الحديث، العارف بأحوال الرُّواة والعلل.

وكون غيره لا يحصل له العلم بصدق ذلك لقصوره عن الأوصاف المذكورة، لا ينفي حصول العلم للمتبحِّر المذكور.

وقال ابن كثير:

وأنا مع ابن الصلاح، فيما عوَّل عليه وأرشد إليه.

قال السُّيوطيُّ:

وهو الذي أختاره ولا أعتقدُ سواهُ. نعم يبقى الكلامُ في التَّوفيق بينه وبين ما ذكره أولًا، من أنَّ المراد بقولهم: هذا حديثٌ صحيح، أنَّه وُجدت فيه شروط الصحة، لا أنه مقطوع به في نفس الأمر، فإنَّه مخالف لما هنا، فليُنظر للجمع بينهما، فإنَّه عَسِرٌ ولم أرَ من تنبَّه له.

يريد السيوطي بذلك أن يبيِّن أنَّ ابنَ الصَّلاح إذا كان قد رأى أنَّ العلم القطعيَّ يُستفاد ممَّا في الصَّحيحيْن، فقد قال قبل ذلك ما يتعارضُ مع هذا حين قال: إنَّ هذه الأحاديثَ ليس مقطوعًا بها في نفس الأمر، وينبغي على كلامه أن يكون مقطوعًا بها في نفس الأمر.

error: النص محمي !!