ما تستوجبه القسامة
تستوجب القسامة -متى تمت بالكيفية السابقة- القصاص، أو الدية مخففة، أو مغلَّظة، فما هي شروط العمل بالقسامة؟ وما الذي يعد لوثًا في القسامة؟ وما الذي لا يعد؟
ولبيان ذلك، نقول: إن الأيمان الخمسين، إذا تمت في حق من وجبت عليه أيًّا كان المدعي، أو المدعى عليه، فما الذي يستحقه أولياء القتيل بعد ذلك؟ هل القود، أو الدية؟
خلاف بين الفقهاء على ثلاثة أقوال:
القول الأول: وهو لفقهاء الحنفية، وقد ذهبوا فيه إلى أن أولياء الدم يستحقون الدية فقط، وهذا الرأي -أيضًا- قال به الشافعي في الجديد، واستدل لهذا القول، بما روي: ((أن رجلًا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني وجدت أخي قتيلًا في بني فلان، فقال صلى الله عليه وسلم: اجمع منهم خمسين فيحلفون بالله ما قتلوه، ولا علموا له قاتلًا، فقال: يا رسول الله، ليس لي من أخي إلا هذا، فقال صلى الله عليه وسلم: بل لك مائة من الإبل)).
يتبين من خلال هذا الحديث، وجوب القسامة، والدية على المدعى عليهم، المتمثلة في مائة من الإبل، كما استدلوا أيضًا، بما قرره رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتيل من الأنصار وجد في حي لليهود، فألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود بالدية، والقسامة، وورد عن ابن عباس: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل خيبر: إن هذا قتيل وجد بين أظهركم، فما الذي يخرجه عنكم؟ فكتبوا إليه: أن مثل هذه الحادثة وقعت في بني إسرائيل، فأنزل الله على موسى عليه السلام أمرًا، فإن كنت نبيًّا فاسأل الله مثل ذلك، فكتب إليهم: إن الله تعالى أراني أن أختار منكم خمسين رجلًا فيحلفون بالله ما قتلناه، ولا علمنا له قاتلًا، ثم يغرمون الدية، قالوا: لقد قضيت فينا بالناموس))، يعني: الوحي، فكان هذا أيضًا دليلًا على أن القسامة تستوجب الدية.
القول الثاني: فقد ذهب إليه الإمام مالك، وأحمد، وأبي ثور، وابن المنذر، وآخرين، حيث قال أصحاب هذا القول بوجوب القود في القتل العمد، وهو: القصاص، وفي هذه الحال، ليس للأولياء أن يقسموا على أكثر من واحد، فهم بذلك لا يستحقون بالقسامة أكثر من قتل رجل واحد.
وقال بعضهم: يستحق بها، أي: بالقسامة قتل الجماعة؛ لأنها بينة موجبة للقود، كأن أصحاب هذا الرأي، يرون أنه لا يستحق بالقسامة إلا قتل رجل واحد فقط، ولكن هناك في هذا الرأي أيضًا من يرى أنه قد يستحق بها قتل الجماعة، لكن لعل الراجح، هو الرأي الأول، الذي يرى أن القسامة لا يستحق بها أكثر من قتل واحد، غير أن المالكية، لهم في ذلك أيضًا تفصيل مؤدَّاه: أنه لا يقتل بالقسامة إلا واحد يعينه أولياء القتيل، ويقسمون على أن المجني عليه مات من ضربه لا من ضربهم، ثم يجلد كل من الباقين مائة جلدة، ويحبس سنة، وفي حالة ما لو استوى الجناة في القتل، كما لو حملوا صخرة، ورموه بها، أو ألقوه من شاهق فمات، فإنهم يقسمون على الجميع، أي: فإن أولياء القتيل يقسمون على الجميع أنهم قتلوه، ثم يختارون واحدًا للقتل تعيينًا، ولا شيء على غيره، سوى ضرب مائة، وحبس سنة، واستدل أصحاب هذا القول، بما أخرجه مسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يقسم خمسون منكم على رجل منهم، فيدفع إليكم برمته)).
كما استدلوا أيضًا بما ورد من حديث سهل: ((أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم؟))، وكذلك، حديث بشير بن بشار: ((أتحلفون خمسين يمينًا، وتستحقون دم صاحبكم؟))، والمراد: هو دم القاتل، وردت الحنفية بالاستدلال بالحديث: ((أتحلفون، وتستحقون دم صاحبكم؟)) بأن المقصود بالدم هنا: الدية، وليس القود، والذي يدل على أنه أراد الدية دون القود، ما جاء في الحديث السابق ذكره: ((إما الدية، وإما الإذن بالحرب)).
القول الثالث: وهو للشافعية في موجب القسامة، ولهم تفصيل في ذلك، حيث قالوا: أن القسامة في القتل الخطأ، وشبه العمد فيها الدية، وهي مخففة في الأول، وهو القتل الخطأ، ومغلظة في الثاني الذي هو شبه العمد، وليس في ذلك من خلاف أصلًا، أما القتل العمد، ففي موجب القسامة فيه من المدعى عليه قولان: الأول: القديم، وفيه القصاص على المدعى عليه؛ لما جاء في الصحيحين: ((أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم؟))، أي: دم القاتل، قالوا أيضًا: ولأن القسامة في القتل حجة يثبت بها العمد بالاتفاق، ومن ثم، يثبت بها القصاص، كما لو كانت شهادة من رجلين عدلين.
الثاني –أي: القول الثاني عند فقهاء الشافعية فيما يتعلق بالقتل العمد-: أنهم قالوا فيه: لا قصاص فيه على المدعى عليه؛ لما ورد في الحديث السابق ذكره، إما الدية، وإما الإذن بالحق، ففيه أطلق النبي صلى الله عليه وسلم إيجاب الدية، ولم يفصل بين ما إذا كان القتل عمدًا، أو خطئًا، أو شبه عمد، ولو كانت الأيمان صالحة للقصاص؛ لذكر صلى الله عليه وسلم ذلك، أيضًا احتجوا لعدم وجوب القصاص في تلك الحالة، وقالوا: إن القسامة حجة ضعيفة، ومن ثم، فلا توجب القصاص؛ احتياطًا لأمر الدماء، وذلك، كالشاهد، واليمين فإنهما لا يُجزِئان في إباحة الدماء.
هذا فيما يتعلق بما تستوجبه القسامة، وبينا أن القسامة، هناك من يرى أنها تستوجب الدية، وهناك من يفصل ويرى وجوب الدية المخففة، وهناك من يفصل بين أنواع القتل كفقهاء الشافعية، حيث فرقوا بين القتل العمد وغيره، فقالوا بوجوب القصاص في القتل العمد، على الرأي القديم عندهم، وفي الجديد أنه لا قصاص بل الدية فقط.