Top
Image Alt

ما جاء في التمني، تمنّي الخير، وتمنّي الموت

  /  ما جاء في التمني، تمنّي الخير، وتمنّي الموت

ما جاء في التمني، تمنّي الخير، وتمنّي الموت

كتاب التّمنِّي:

1. “باب: مَا جَاءَ فِي التَّمَنِّي وَمَنْ تَمَنَّى الشَّهَادَةَ”:

هذا الكتاب عقَده الإمام البخاري ليُبَيِّن فيه التّمنِّي الجائز، كما جاء في الأحاديث التي أتى بها في هذا الكتاب.

حديث أبي هريرة رضي الله  عنه: ((والذي نفسي بيده…)).

قال البخاري: حدثنا سعيد بن عُفير، قال: حدثني الليث، قال: حدثني عبد الرحمن بن خالد، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة وسعيد بن المسيّب، أن أبا هريرة رضي الله  عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه  وسلم يقول: ((والذي نفسي بيده، لولا أن رجالًا يكرهون أن يَتخلّفوا بعدي ولا أجِد ما أحمِلهم، ما تَخلّفتُ، لودِدت أنِّي أُقتَلُ في سبيل الله، ثم أحيا ثم أُقتَل، ثم أحيا ثم أُقتَل، ثم أحيا ثم أُقتَل)).

قوله صلى الله عليه  وسلم: ((لودِدْتُ أني أُقتَل في سبيل الله، ثم أحيا ثم أُقتل)).

أتت هذه الجملة مِن كلام رسول الله صلى الله عليه  وسلم عَقِب ما قَبلَها، تسلية للخارجين في الجهاد عن مرافقته لهم، وكأنه قال: الوجه الذي يسيرون له فيه مِن الفضل ما أتمنّى لأجْله أني أُقتل مرات، فمهما فاتَكم مِن مُرافقتي والقعودِ معي من الفضل يَحصُل لكم مثلُه أو فوقَه من فضل الجهاد؛ فراعَى خواطر الجميع.

وقوله صلى الله عليه  وسلم: ((أُقتَل في سبيل الله))، استَشكل بعض الشُّرّاح صدورَ هذا التّمنِّي مِن النبي صلى الله عليه  وسلم مع علمه أنه لا يُقتل، وأجاب بعض العلماء على ذلك بأنه لعله كان ذلك قَبل نزول قوله عز وجل: {وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67]، وهو متعقَّب؛ فإن نزولَها كان في أوائل ما قَدِم المدينة، وهذا الحديث صَرّح أبو هريرة: بأنه سمِعه مِن النبي صلى الله عليه  وسلم، وإنما قدِم أبو هريرة في أوائل سنة سَبع من الهجرة.

والذي يَظهَر في الجواب: أنّ تمنِّي الفضل والخير لا يَستلزِم الوقوع، وكأنه صلى الله عليه  وسلم أراد المبالغة في بيان فضل الجهاد، وتحريضِ المسلمين عليه.

قال النووي: في هذا الحديث: الحض على حُسن النِّيّة، وبيان شِدّة شفقة النبيصلى الله عليه  وسلم على أمّته ورأفته بهم.

وفيه: استحباب طلبِ القتل في سبيل الله.

وفيه: أنّ الجهاد على الكفاية؛ إذ لو كان على الأعيان ما تَخلّف عنه أحد، وخاصة رسول الله صلى الله عليه  وسلم.

2. “باب: تَمَنِّي الْخَيْرِ، وَقَوْلِ النَّبيِّ صلى الله عليه  وسلم: ((لَوْ كَانَ لِي أُحُدٌ ذَهَبًا…))”

حديث أبي هريرة رضي الله  عنه : ((لو كان لي أُحُدٌ ذهبًا…)).

قال الإمام البخاري رحمه الله: حدَّثني إسحاق بن نصر، قال: حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن همّام: سمِع أبا هريرة، عن النبي صلى الله عليه  وسلم قال: ((لو كان عندي أُحُدٌ ذهبًا لأَحببتُ أن لا يأتيَ عليّ ثلاثٌ وعندي مِنه دِينار، ليس شيءٌ أَرْصُده في دَيْن عليّ أجِدُ مَن يَقبَله)).

قوله صلى الله عليه  وسلم: ((لو كان عندي أُحُدٌ ذهبًا))، ورد في حديث أبي ذر عند البخاري وغيرِه، ما يُبيّن سبَب ذكْر أُحُد، قال أبو ذر: كنتُ أمشي مع النبي صلى الله عليه  وسلم في حَرّة المدينة، فاستَقبلَنا أُحُد. فقال: ((يا أبا ذر))، قلتُ: لبّيك يا رسولَ الله، قال: ((ما يَسرُّني أنّ عندي مِثل أُحُد هذا ذهبًا ….  )) الحديث،

وقوله صلى الله عليه  وسلم: ((لو كان عندي أُحدٌ ذهبًا)) يَحتمل أنّ تقديرَه: مِثل أُحُد؛ ففيه مُضاف حُذف، وأُقيم المضاف إليه مَقامَه ويُحتمل أن يكونَ المرادُ: انقلابُ أُحُدٍ نفسِه وصيرورتُه ذَهبًا، ويدل للاحتمال الأوّل: حديث أبي هريرة مرفوعًا: ((لو كان لي مِثْل أُحُد…)).

ويدلّ للاحتمال الثاني: قولُه في حديث أبي ذر في الصحيح: فلمّا أَبصَرَ -يعني أُحدًا- قال: ((ما أُحِبّ أنْ تُحوَّل لي ذهبًا يَمكُث عندي مِنه دِينار…)) الحديث.

وفي هذا الحديث: استحبابُ التّمنِّي في الخير.

وقوله صلى الله عليه  وسلم: ((أنْ لا يأتيَ عليّ ثلاثٌ وعندي منه دينار))، قَيّد بالثلاث؛ لأنه قد لا يَتهيّأ تفريقُ قَدْرِ أحُد مِن الذهب في أقلّ منها غالبًا.

وفي هذا الحديث: الحثّ على الصّدقة والإنفاقِ في القُرُبات، وأنّ النبيّ صلى الله عليه  وسلم كان في أعلى درجات الزُّهد، يُحبّ أن لا يبقى عنده مِن جبلٍ ذهبٌ بعْد ثلاثة أيام شيء.

وقوله صلى الله عليه  وسلم: ((ليس شيء أَرصُده في دَيْن عليّ، أجدُ مَن يَقبلُه))، فالإنفاق إنّما يكون عند وُجود القابلِين له، فأمّا مع فَقدِهم فلا يتأتّى الإِنفاق؛ لأنّ الآخِذ أَحَد رُكنَيْه.

وقد استَدَلّ به بعض العلماء على: أنه إذا لم يَجِدْ مَن يَقبَل صدَقتَه فلا حَرَجَ علَيه؛ لأنه صلى الله عليه  وسلم شَرَط في تَمنِّيه الإنفاق فِي ثلاث: وُجودَ القابل؛ وهذا استدلال واضِح.

وقوله صلى الله عليه  وسلم: ((ليس شيء أَرصُده في دَيْن علَيّ))، أي: أَعُدُّه وأَحفَظه، لا أتمنّى أن أدّخر مِن هذا الذهب الكثير، إلّا دينارًا أدّخِره لسَداد دَيْن علَيّ، وفي هذا دليل على تقديم وَفاء الدَّين على الصّدقة.

وفيه أيضًا جَواز الاستقراض والاستزادة، اقتداء بالنبي صلى الله عليه  وسلم في إِرصادِه دِينارًا لدَيْنه.

فبان بهذا الحديث: أنه ينبغي للمؤمن أن لا يَستغرِق في كثرة الدَّيْن خشْيةَ الاهتمام به والعَجزِ عن أدائه، فالرسول صلى الله عليه  وسلم يريد أن يَرصُد مِن المال ما به وَفاءُ الدَّين، قليلًا كان أو كثيرًا.

وفي الحديث كذلك: الاهتمامُ بأمْرِ وَفاء الدَّيْن، وأنه أصل في أداء الأمانات، والله تعالى أعلم.

3. “باب: مَا يُكْرَهُ مِنَ التَّمَنِّي”:

حديث خباب بن الأرت رضي الله  عنه :

قال الإمام البخاري: باب: ما يُكرَه مِن التمني، {وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُواْ اللّهَ مِن فَضْلِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [النساء: 32].

ثم قال البخاري: حدثَنا محمد، قال: حدثنا عَبْدَة ،عن ابن أبي خالد، عن قيس، قال: أتينا خبّابَ بنَ الأرَتّ نعُودُه -وقد اكتوى سبعًا- فقال: “لولا أنّ رسول الله صلى الله عليه  وسلم نهانا أن ندعوَ بالمَوت لدعوْتُ به”.

قول الإمام البخاري: “باب ما يُكرَه مِن التمنّي”، قال ابن عطية: يجُوز تمنّي ما لا يَتعلّق بالغَير، أي: ممّا يُباح؛ وعلى هذا، فالنهي عن التّمنِّي مخصوص بما يكُون داعية إلى الحَسد والتباغُض.

ونزيد على هذا: أنّ ما يُكرَه من التّمنِّي، هو: تمنِّي الموتِ، كما جاء في هذا الحديث.

وقول البخاري في الآية الكريمة: { وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} إلى قوله: { إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [النساء: 32]، وذَكرََ فيه الحديث الذي معنا في الزّجْر عن تمنِّي الموت، وفي مُناسبته للآية غموض، إلّا إنْ كان أراد: أنّ المكروه من التّمنِّي، هو: جنس ما دلّت عليه الآية، وما دلّ عليه الحديث.

وحاصل ما في الآية: الزجرُ عن الحَسد، وحاصل ما في الحديث: الحثُّ على الصبر؛ لأنّ تمنِّي الموتِ غالبًا يَنشَأ عن وقوع أمْرٍ يَختار الذي يَقع به الموتَ على الحياة؛ فإذا نُهي عن تمنِّي الموت كأنه أُمِر بالصبر على ما نَزل به.

وفي سند الحديث محمد هو: ابن سلام، وعَبدَة هو: ابن سليمان، وابنُ أبي خالد هو: إسماعيل، وقيس هو: ابنُ أبي حازم.

وحِكمةُ النهي عن ذلك: أنّ في طلبِ الموت قبْل حُلولِه نوْعَ اعتَراض ومراغَمَةٍ للقَدَر، وإن كانت الآجالُ لا تَزيد ولا تَنقُص؛ فإنّ تمنّي الموتِ لا يؤَثِّر في زيادتها ولا نقصِها، ولكنه أمْرٌ قد غُيِّب عنه.

error: النص محمي !!