ما جاء في النهي عن اختناث الأسقية
المراد بالأسقية: هي القربة التي يكون فيها الماء، وهي جمع سقاء، والاختناث من خنثت السقاء إذا أثنيت فمه إلى الخارج وشربت منه، وقبعته إذا أثنيته إلى داخل، فينهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك العمل، وهو أن يثني الرجل فم القربة ثم يشرب منها، وإنما المفروض أن يصب في إناء ثم يشرب.
والحديث يقول الترمذي: “حدثنا قتيبة -أي: ابن سعيد- حدثنا سفيان عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن أبي سعيد: رواية أنه نهى عن اختناث الأسقية، قال: وفي الباب عن جابر وابن عباس وأبي هريرة.
قال الترمذي: “هذا حديث حسن صحيح، ثم بعد ذلك كانت الرخصة في ذلك العمل، أو في الشرب بهذه الطريقة اختناث الأسقية؛ إذ قام النبي صلى الله عليه وسلم مرة بعدما قال ذلك الحديث- إلى قربة معلقة فخنثها ثم شرب منها، إذًا النهي عن اختناث الأسقية إما أن يكون للتنزيه، وإما أن يكون هذا أمر نُسخ وأبيح أن يختنث المسلم الأسقية، أي: يثني فم القربة ليشرب.
ما جاء في الرخصة في ذلك:
حدثنا يحيى بن موسى حدثنا عبد الرزاق أخبرنا عبد الله بن عمر عن عيسى بن عبد الله بن أنيس عن أبيه قال: ((رأيت النبي صلى الله عليه وسلم قام إلى قربة معلقة فخنثها ثم شرب من فيها))، أي: من فمها، قال أي: أبو عيسى: “وفي الباب عن أم سليم ثم قال الترمذي أيضًا: هذا حديث ليس إسناده صحيحًا، وعبد الله بن عمر العمري يُضعف في الحديث، ولا أدري سمع من عيسى أم لا”.
ثم قال: حدثنا ابن أبي عمر حدثنا سفيان عن يزيد بن جابر عن عبد الرحمن بن أبي عمرة عن جدته كبشة قال: قالت: ((دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فشرب من في قربة معلقة قائمًا، فقمت إلى فيها فقطعته))، أي: قطعت فم القربة.
يقول شارح الترمذي: لعلها قطعت فم القربة للتبرك به لوصول فم النبي صلى الله عليه وسلم إليه، واحتفظت به.
وأحاديث الباب تدل على جواز الشرب من فم القربة، وأحاديث الباب المتقدم تدل على خلافه.
قال الحافظ ابن حجر: قال شيخنا -يعني الحافظ العراقي في شرح الترمذي: لو فُرق بين ما يكون لعذر كأن تكون القربة معلقة، ولم يجد المحتاج إلى الشرب إناء متيسرًا ولم يتمكن من التناول بكفه، فلا كراهة حينئذٍ، وعلى ذلك تُحمل الأحاديث المذكورة يعني: أحاديث الإباحة، وبين ما يكون لغير عذرٍ فتُحمل عليه أحاديث النهي.
قال الحافظ ابن حجر: ويؤيده أن أحاديث الجواز كلها فيها أن القربة كانت معلقة، والشرب من القربة المعلقة أخص من مطلق القربة، ولا دلالة في أحاديث الجواز على الرخصة مطلقًا، بل على تلك الصورة وجدها، وحملها على الضرورة جمعًا بين الخبرين أولى من حملها على النسخ، أي: إن الأمر ليس فيه نسخ، وإنما نهى لمن يستطيع أن يشرب بيده أو من يجد إناءً، أما إذا كانت القربة معلقة ولا يوجد إناء، ولا يستطيع أن يشرب بكفه، فله أن يشرب من فم القربة، ولا داعي للقول بالنسخ.
وقد سبق ابن العربي إلى نحو ما أشار إليه شيخنا العراقي فقال: “يُحتمل أن يكون شربه صلى الله عليه وسلم في حال ضرورة؛ إما عند الحرب، وإما عند عدم الإناء، أو مع وجوده، لكن لم يتمكن لشغله من التفريغ من السقاء في الإناء”. انتهى كلام الحافظ.
ثم قال الشارح: “قلت: قد ردّ القاضي الشوكاني على ما جمع به الحافظ العراقي بما فيه كلام، ثم قال: فالأولى الجمع بين الأحاديث بحمل الكراهة على التنزيه، ويكون شربه صلى الله عليه وسلم بيانًا للجواز، أي: إن النهي نهي تنزيه، فيكون الشرب من فم القربة مكروهًا لا حرامًا، ويكون شربه صلى الله عليه وسلم بيانًا للجواز”.
ثم قال الترمذي: “هذا حديث حسن صحيح، أخرجه أيضًا الإمام أحمد وابن ماجه -رحمهما الله تعالى”.
أما عن العلة في النهي عن الشرب من فم السقاء أو عن اختناث الأسقية، فقد قال شارح الترمذي: إنما نهى عنه صلى الله عليه وسلم لأنه ينتنها؛ فإن إدامة الشرب هكذا مما يغير ريحها، وقيل: لا يؤمن أن يكون فيها هامة، أي: في داخل القربة أشياء، لم يرها فيشرب مباشرة من القربة؛ فيكون فيها أضرار فتصيبه، أما لو صب في كفه، أو في إناء فسيظهر ما في داخل القربة، وقيل: لئلا يترشرش الماء على الشارب لسعة فم السقاء، وقد جاء في حديث آخر إباحته، ويُحتمل أن يكون النهي خاصًّا بالسقاء الكبير دون الإداوة- أي: القربة الصغيرة- أو هذا للضرورة والحاجة، والنهي عن الاعتياد، يعني: المنهي عنه أن يعتاد الإنسان أن يشرب دائمًا من فم القربة.
وعندما قال الترمذي: وفي الباب عن جابر وابن عباس وأبي هريرة- أشار الشارح إلى هذه الأحاديث فقال: أما حديث جابر فليُنظر من أخرجه، وأما حديث ابن عباس فأخرجه الجماعة إلا مسلمًا فإنه قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشرب من في السقاء)).
وأما حديث أبي هريرة، فأخرجه أحمد، وقال الترمذي في حديث النهي عن اختناث الأسقية: “هذا حديث حسن صحيح”. قال الشارح: “أخرجه أحمد والشيخان وأبو داود وابن ماجه رحمهم الله جميعًا”.
وهذا الحديث يدل على مدى اعتناء الإسلام بصحة الإنسان، وأنه يشرع ما يراه لصالح الجسد كما يشرع ما يراه لصالح الدين، فالإسلام حريص على صحة الإنسان؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍّ خير))، فالشرب من فم القربة يجعل الماء متغيرًا لمن اعتاد الشرب منها؛ لِما يكون هناك من فضلات في فمه من طعام أو غيره فيدخل في القربة، فينتن الماء ويتغير. هذا أولًا.
ثانيًا: قد يكون في القربة هوام فيشرب الإنسان، فتدخل في فمه من غير أن يشعر وتصل إلى بطنه، أما إذا صب في إناء أو صب في كفه، فإنه يدري حال الماء، وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم شرب مرة؛ فهذا لأنها كانت معلقة، ولم يكن هناك إناء، ولم يستطع أن يصب في كفه، كما أنه صلى الله عليه وسلم فعل ذلك ليبين الجواز عند الضرورة والله أعلم”.