ما جاء في بيع النجاسة، وآلة المعصية، وما لا نفع فيه
أولًا: بيان تعريف البيع، والحكمة في شرعية البيع، وشروط البيع:
البيوع: جمع بيع، وجاء في كتاب (سبل السلام):
يقول الأمير الصنعاني: اعلم أن الحكمة في شرعية البيع -كما قال الإمام الحافظ في (فتح الباري): إن حاجة الإنسان تتعلق بما في يد صاحبه غالبًا، وصاحب الشيء لا يعطيه؛ ففي شرعية البيع وسيلةٌ إلى بلوغ الغرض من غير حرج، وإنما جمعه دلالة على اختلاف أنواعه، ولفظة البيع والشراء يطلق كل منهما على ما يطلق عليه الآخر، فهما من الألفاظ المشتركة بين المعاني المتضادة.
تعريف البيع:
البيع لغةً: تمليك مال بمال، وزاد فيه الشرع: قيد التراضي، يعني: شرعًا: تمليك مال بمال بشرط التراضي، وقيل: هو إيجاب وقبول في مالين ليس فيهما معنى التبرع، فتخرج المعاطاة، وقيل: مبادلة مال بمال لا على وجه التبرع، فتدخل فيه المعاطاة.
والدليل على اشتراط الإيجاب والقبول: أنه تعالى قال: {إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ} [النساء: 29] فلا بد من الرضا، وأخرج ابن حبان وابن ماجه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إنما البيع عن تراضٍ))، ولما كان الرضا أمرًا خفيًّا، لا يطلع عليه؛ وجب تعلق الحكم بسبب ظاهر يدل عليه وهو الصيغة، فالصيغة ركن من أركان البيع، ولا بد أن يكون على صيغة الجزم؛ يعني: بعتك؛ لتتم معرفة الرضا، واستثني من ذلك الشيء المحقر؛ أي: الذي لا قيمة له، فلا يحتاج إلى كل هذه الشروط.
ثانيًا: الأحاديث:
“ما جاء في بيع النجاسة وآلة المعصية وما لا نفع فيه” جاءت أحاديث تحت هذا العنوان رواها الإمام الشوكاني في كتابه القيم (نيل الأوطار):
الحديث الأول: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الله حرّم بيع الخمر، والميتة، والخنزير، والأصنام، فقيل: يا رسول الله، أرأيت شحوم الميتة –يعني: الدهون التي تكون في الميتة- فإنه يُطلى بها السفن ويُدهن بها الجلود، ويُستصبح بها الناس؟! –يعني: الناس يستضيئون بها- فقال صلى الله عليه وسلم: لا؛ هو حرام. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: قاتل الله اليهود؛ إن الله لما حرم شحومها جملوه -يعني أذابوه- ثم باعوه، فأكلوا ثمنه)) رواه الجماعة.
الحديث الثاني: عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لعن الله اليهود؛ حرمت عليهم الشحوم؛ فباعوها وأكلوا أثمانها، وإن الله إذا حرم على قوم أكل شيء حرّم عليهم ثمنه)) رواه أحمد وأبو داود. وهو حجة في تحريم بيع الدهن النجس.
ثالثًا: شرح الأحاديث:
الحديث الأول: من رواية سيدنا جابر بن عبد الله، وهو جابر بن عبد الله الأنصاري، صحابي جليل، وأبوه صحابي جليل رضي الله عنهما يقول لنا في معنى ذلك الحديث: إن النبي صلى الله عليه وسلم حرم بيع الخمر، الخمر نجسة ومضرة؛ فلا يجوز بيعها، كذلك الميتة حرامٌ بيعها وشراؤها، وكذلك الخنزير والأصنام، كل آلات المعصية يحرم بيعها، الصحابة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تقول يا رسول، في شحوم الميتة؟ يعني الميتة حرام؛ لكن إذا بعنا دُهنها؟ فأخبرهم صلى الله عليه وسلم أنه ما دام حرمت الميتة تحرم كلها، ويحرم ثمنها، وثمن أي شيء فيها، وبيَّن أن اليهود احتالوا لما حرّم الله سبحانه وتعالى عليهم الشحوم؛ لم يبيعوا الشحوم، وإنما أذابوها وباعوها ذائبة، فأكلوا ثمنها، وبيَّن أن الله سبحانه وتعالى إذا حرّم شيئًا حرم أكله وحرم ثمنه أيضًا.
هذه الأحاديث التي رواها الإمام الشوكاني أولها حديث جابر رضي الله عنه وثانيها حديث ابن عباس الذي لعن فيه الرسول صلى الله عليه وسلم اليهود، كما لعنهم الله تعالى.
يقول الشوكاني في حديث ابن عباس في التنفير عنها: وأما تحريم بيعها على أهل الذمة فمبنيٌّ على الخلاف في خطاب الكافر بالفروع، لا من ناحية الخمر.
قوله: ((والمَيتة)) بفتح الميم، وهي ما زالت عنه الحياة لا بذكاة شرعية؛ من غير تذكية، من غير ذبح، ونقل ابن المنذر أيضًا الإجماع على تحريم بيع الميتة، والظاهر أنه يحرم بيعها، ويحرم بيع جميع أجزائها، قيل: ويستثنى من الميتة: بيع السمك والجراد، وما لا تحله الحياة.
قوله: ((والخنزير)) فيه دليل على تحريم بيع الخنزير بجميع أجزائه، وقد حكى صاحب (الفتح) الإمام الحافظ ابن حجر العسقلاني الإجماع على ذلك؛ أي: على تحريم بيع الخنزير بجميع أجزائه، وحكى ابن المنذر عن الأوزاعي وأبي يوسف وبعض المالكية الترخيص في القليل من شعره، والعلة في تحريم بيعه -يعني: بيع الخنزير وبيع الميتة- هي النجاسة -عند جمهور العلماء- فيتعدى ذلك إلى كل نجاسة؛ يعني: لا يجوز بيع أي شيء نجس، ولكن المشهور عن مالك طهارة الخنزير.
قوله: ((والأصنام)) جمع صنم، قال الجوهري: هو الوثن، وقال غيره: الوثن: ما له جثة، والصنم: ما كان مصورًا، فبينهما على هذا عموم وخصوص من الوجه، ومادة اجتماعهما إذا كان الوثن مصورًا، والعلة في تحريم بيعها: عدم المنفعة المباحة، فإن كان ينتفع بها بعد الكسر جاز بيعها عند البعض، ومنعه الأكثر، يعني: لو كان الصنم من خشب فيُكسّر؛ يباع الخشب، قال بعضهم: يجوز ذلك، وقال الأكثر: لا يجوز.
قوله: ((أرأيت شحوم الميتة…)) إلخ؛ أي: فهل يجوز بيعها؟ يعني: بيع شحوم الميتة؛ لما فيها من المنافع: وهي أنهم يطلون بها السفن، ويستصبحون بها؛ يعني يستضيئون بها؟.
قوله: ((ويستصبح بها الناس)) الاستصباح الاستفعال من المصباح، وهو السراج الذي يشتعل منه الضوء.
قوله: ((لا، هو حرام)) الأكثر على أن الضمير راجع إلى البيع، وجعله بعض العلماء راجعًا إلى الانتفاع، فقال: يحرُم الانتفاع بها، وهو قول أكثر العلماء، فلا يُنتفع من الميتة بشيء إلا ما خصّه دليل كالجلد المدبوغ؛ لأن الجلد إذا دُبغ انتفع به، حتى وإن كان جلد ميتة.
والظاهر: أن مرجع الضمير للبيع؛ لأنه المذكور صريحًا والكلام فيه، ويؤيد ذلك في حديث آخر: ((فباعوها))، وتحريم الانتفاع يؤخذ من دليل آخر كحديث: ((لا تنتفعوا من الميتة بشيء)) وقد تقدم، والمعنى: لا تظنوا أن هذه المنافع مقتضية بجواز بيع الميتة؛ فإن بيعها حرام.
قوله: ((جَمَلوه)) -بفتح الجيم والميم- أي: أذابوه، يعني: اليهود جملوا الشحم؛ أي: أذابوا الشحم، يقال: جمله إذا أذابه، والجميل الشحم المذاب، وفي رواية للبخاري: ((جملوها ثم باعوها)).
وحديث ابن عباس فيه دليلٌ على إبطال الحيل والوسائل إلى المحرم؛ الإنسان لا يتحايل على شرع الله، لقد جاء النهي عن هذه الحيل، قال صلى الله عليه وسلم في معنى الحديث “لا تكونوا مثل بني إسرائيل؛ تحايلوا فاستحلوا محارم الله بأدنى الحيل”.
يقول الشارح: في حديث ابن عباس دليلٌ على إبطال الحيل والوسائل إلى المحرم، وإن كان ما حرمه الله على العباد فبيعه حرام لتحريم ثمنه، فلا يخرج من هذه الكلية إلا ما خصه دليل، والتنصيص على تحريم بيع الميتة في حديث الباب مخصص لعموم مفهوم قوله صلى الله عليه وسلم: ((إنما حرم من الميتة أكلها))، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((لعن الله اليهود)) زاد في (سنن أبي داود): ((ثلاثًا)) يعني: قال صلى الله عليه وسلم: ((لعن الله اليهود، لعن الله اليهود، لعن الله اليهود)).
الحديث الثالث: وعن أبي جحيفة: ((أنه اشترى حجامًا، فأمر فكسرت محاجمه، وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرّم ثمن الدم وثمن الكلب وكسب البغي، ولعن الواشمة والمستوشمة وآكل الربا وموكله، ولعن المصورين)) متفق عليه.
المراد بـ((ثمن الدم)) هنا عمل الحجامة، و((كسب البغي)) -والعياذ بالله- هي المرأة العاهر التي تأكل بفرجها، ((ولعن الواشمة))، أي: قضى بطردها من رحمة الله، التي تصنع الوشم لنفسها ولغيرها، ((والمستوشمة)): الطالبة والفاعلة للوشم في نفسها، ((وآكل الربا وموكله، ولعن المصورين))، أي: دعا عليهم بالطرد من رحمة الله تعالى.
الحديث الرابع: وعن أبي مسعود عقبة بن عمرو قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب، ومهر البغيِّ، وحلوان الكاهن)).
((مهر البغي)): هو ما يعطى للمرأة في مقابل الزنا بها، والعياذ بالله.
((حُلوان الكاهن)): هو ما يعطى للساحر أو للمشعوذ أو لمن يتكهن؛ أجرة على كهانته؛ وعرف بالحلوان لأنه يأخذ شيء بسهولة من غير تعب.
الحديث الخامس: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب، وقال: إن جاء يطلب ثمن الكلب؛ فاملأ كفه ترابًا)) رواه أحمد وأبو داود.
الحديث السادس: وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب والسنور)) رواه أحمد ومسلم وأبو داود.
رابعًا: تخريج هذه الأحاديث:
يقول الإمام الشوكاني: حديث ابن عباس سكت عنه أبو داود والمنذري والحافظ في (التلخيص) ورجاله ثقات، والمراد بحديث ابن عباس: هو قول ابن عباس: ((نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب، وقال: إن جاء يطلب ثمن الكلب فاملأ كفه ترابًا)) أي: لا تعطه شيئًا. قال الحافظ بن حجر: رجاله ثقات؛ لأن أبا داود رواه من طريق عبيد الله بن عمرو الرقي -وهو من رجال الجماعة- عن عبد الكريم بن مالك الجزري، وهو كذلك عن قيس بن حبتر، بفتح الحاء المهملة وإسكان الموحدة وفتح الفوقية، وهو من ثقات التابعين -كما قال ابن حبان.
وحديث جابر هو في مسلم بلفظ: ((سألت جابرًا عن ثمن الكلب والسنور، فقال: زجر النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك)) وقد أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه بلفظ: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الهر)) إذًا هنا بينت الرواية الثانية أن السنور هو الهر أي: هو القط، وقال الترمذي: غريب، معنى غريب: أي من رواية راوٍ واحد، والغرابة لا تعيب الحديث، فقد يكون الحديث غريبًا وهو من أصح الأحاديث، وقال النسائي: هذا حديث منكر، كلمة منكر هي التي تعيب الحديث، وفي إسناده عمر بن زيد الصنعاني، قال ابن حبان: يتفرد بالمناكير عن المشاهير، حتى خرج عن حد الاحتجاج به، وقال الخطابي: قد تكلم بعض العلماء في إسناد هذا الحديث، وزعم أنه غير ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن عبد البر: حديث بيع السنور لا يثبت رفعه؛ وقال النووي: الحديث صحيح، رواه مسلم وغيره. انتهى. وبهذا يكون الحديث ثبتت صحته؛ لأن قول مسلم هو الذي يؤخذ ويعمل به في مثل هذه الروايات، ولم يخرجه مسلم من طريق عمر بن زيد المذكور، بل رواه من حديث معقل بن عبد الله الجزائري عن أبي الزبير قال: ((سألت جابرًا))، وقد أخرج الحديث أيضًا أبو داود والترمذي من طريق أخرى ليس فيها عمر بن زيد الصنعاني الذي ضعّفوه من أجله، ولكن في إسناده اضطراب كما قال الترمذي، إلا -كما قلت سابقًا- قول النووي: ورواية مسلم لهذا الحديث تكفي في صحته.
قوله: ((حرم ثمن الدم)) اختلف في المراد به؛ فقيل: أجرة الحجامة، فيكون دليلًا لمن قال بأنها غير حلال، وقيل: المراد به ثمن الدم نفسه لا يجوز بيعه، فيدل على تحريم بيع الدم، وهو حرام إجماعًا كما في (الفتح).
قوله: ((وثمن الكلب)) فيه دليل على تحريم بيع الكلب، والحديث هنا مطلق لا يفرق بين الكلب المعلّم المأخوذ للصيد وغيره وكلب الحراسة، لكن هناك أحاديث أخرى بينت أنه يجوز اقتناء الكلب للصيد وللحراسة، وما دام فيه نفع فيجوز بيعه، إذًا هذا الحديث مطلق مخصص بالكلاب التي لها نفع؛ أما الكلب الذي لا نفع فيه فلا يجوز بيعه ولا يجوز شراؤه، ويحرم ثمنه.
يقول الشارح: وظاهره عدم الفرق بين المعلَّم -يعني: الكلب المعلَّم- وغيره؛ سواء مما كان يجوز اقتناؤه أو مما لا يجوز، وإليه ذهب الجمهور، وقال أبو حنيفة: يجوز، وقال عطاء والنخعي: يجوز بيع كلب الصيد دون غيره.
ويدل عليه ما أخرجه النسائي من حديث جابر قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب إلا كلب الصيد)) قال في (الفتح): ورجال إسناده ثقات، إلا أنه طعن في صحته، وأخرج نحوه الترمذي من حديث أبي هريرة، لكن برواية أبي المهزم وهو ضعيف، فينبغي حمل المطلق على المقيد، ويكون المحرّم بيع ما عدا كلب الصيد، إن صلح هذا القيد للاحتجاج به.
قوله: ((وكسب البغي)) في الرواية الثانية: ((ومهر البغي)) والمراد: ما تأخذه الزانية على الزنا، وهو مجمع على تحريمه، و((البغيّ)): بفتح الموحدة وكسر المعجمة وتشديد التحتانية، وأصل البغي الطلب، غير أنه أكثر ما يستعمل في الفساد، واستدل به على أن الأَمة إذا أكرهت على الزنا فلا مهر لها، وفي وجه للشافعية يجب للسيد الحكم.
قوله: ((ولعن الواشمة والمستوشمة)) هي المرأة التي تتزين بفعل الوشم، وهو أمر لعنت صاحبته الفاعلة والمفعول له.
((وآكل الربا وموكله)) سيأتي ذلك في أبواب الربا.
وقوله: ((ولعن المصورين)) فيه أن التصوير أشدّ المحرمات؛ لأن اللعن لا يكون إلا على ما هو كذلك، وهناك تصاوير تجوز وتصاوير تحرم.
قوله: ((وحلوان الكاهن)) “الحُلوان” بضم الحاء المهملة مصدر حلوته: إذا عطيته، قال في (الفتح): وأصله من الحلاوة، شبه بالشيء الحلو من حيث إنه يأخذ سهلًا بلا كلفة ولا مشقة، فالحلوان أيضًا الرشوة. والحلوان أيضًا ما يأخذه الرجل من مهر ابنته لنفسه والكاهن، قال الخطابي: هو الذي يدعي مطالعة علم الغيب، ويخبر الناس عن الكوائن، قال في (الفتح): حلوان الكاهن حرام بالإجماع؛ لما فيه من أخذ العوض على أمر باطل، وفي معناه التنجيم والضرب بالحصى، وغير ذلك مما يتعاطاه العرافون من استطلاع الغيب. والله أعلم.
قوله صلى الله عليه وسلم: ((فاملأ كفه ترابًا)) كناية عن منعه من الثمن، كما يقال للطالب الخائب: لم يحصّل في كفه غير التراب، وقيل: المراد التراب خاصة حملًا للحديث على ظاهره، وهذا جمود لا ينبغي التعويل عليه، ومثله حمل من حمل حديث: ((احثوا التراب في وجوه المداحين)) على حقيقته.
قوله: ((والسنور)) بكسر السين وفتح النون المشددة وسكون الواو بعدها راء هو الهر، وفيه دليل -يعني: يستفاد من هذا الحديث- تحريم بيع الهر، وبه قال أبو هريرة ومجاهد وجابر وابن زيد، حكى ذلك عنه ابن المنذر، وحكاه المنذري أيضًا عن طاوس، وذهب الجمهور إلى جواز بيعه، وأجابوا عن هذا الحديث بأنه ضعيف، وقد سبق ذلك الكلام، وقيل: إنه يحمل النهي على كراهة التنزيه، يعني الحرمة في بيع الهر تحمل على كراهة التنزيه، وأن بيعه ليس بمكارم الأخلاق، ولا من المروءات، ولا يخفى أن هذا إخراج للنهي عن معناه الحقيقي بلا مقتضي.
وروى الإمام مسلم هذه الأحاديث في كتابه القيم (صحيح مسلم)، وشرحها الشيخ موسى في كتابه (فتح المنعم)، فإليكم بعضًا من هذه التعاليق التي علقها الشيخ موسى -حفظه الله- على هذه الأحاديث:
خامسًا: المعنى العام:
الإسلام دين الطهارة؛ طهارة الظاهر، وطهارة الباطن، وطهارة المأكل والمشرب، يحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث، وطهارة العقيدة من الشرك والأوثان، وما يحل أكله وشربه يحل بيعه وشراؤه، وما لا ينفع البشرية ويضرها في بدنها أو عقيدتها لا يحل بيعه، فالبيع أحله الله لمنافع الإنسانية؛ من هنا حرم الإسلام بيع الخمر وشرائها وهبتها بعد أن حرم شربها.
ولقد كان العرب في الجاهلية يشربونها بكثرة كما يشربون الماء، وكانت الشراب المفضل في سهراتهم ومسامراتهم رغم علمهم بمضارها، وتمكنت منهم هذه العادة حتى كان من الصعب اقتلاعها بدون تمهيد وتدرج؛ فنزل قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا} [البقرة: 219] فامتنع بعض من كان يشربها، وتردد بعض، فنزل قوله تعالى: {لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى } [النساء: 43]، فامتنع بعض آخر وتوقع الباقون أن تحرم، وتوقع صلى الله عليه وسلم قرب تحريمها، فنصحهم أن يتخلصوا مما عندهم منها بالشرب أو بالبيع أو بالهبة.
ولم يمضِ قليلًا من الزمن حتى نزل قول الله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 90] فقال صلى الله عليه وسلم لهم: ((من كان عنده خمر فلا يشربها ولا يبعها)) فلم يكن أمامهم إلا أن يسفكوها في طرقات المدينة، وقرر الإسلام تحريم بيعها وتحريم بيع الميتة والخنزير والأصنام، وحذر من التحايل على التشريع، ونعى على اليهود أنهم لما حرم الله عليهم الشحوم تحايلوا على هذا التحريم فأذابوها وباعوها وأكلوا ثمنها، وتعللوا بأنهم لم يأكلوها، يحذر المسلمين أن يفعلوا فعلهم، وأن يلتفوا حول الأحكام الشرعية بالألاعيب والحيل.
بعد أن ذكر فقه الحديث قال: في هذا الحديث دليلٌ على بذل النصيحة للمسلمين في دينهم ودنياهم؛ لأنه صلى الله عليه وسلم نصحهم في تعجيل الانتفاع بها ما دامت حلالًا، ثم قال: ومن الرواية الثانية أن من ارتكب معصية جاهلًا تحريمها لا إثم عليه ولا تعزير، وقال أيضًا: في هذه الأحاديث دليل على إبطال الحيل والوسائل للوصول إلى المحرم، وفيها أيضًا أن الشيء إذا حُرمت عينه حرم ثمنه، وفيه دليل على أن بيع المسلم الخمر للذمي لا يجوز؛ يعني لغير المسلم، وفيها أيضًا استعمال القياس في الأشباه والنظائر.