ما جاء في كتاب الله من الحديث عن الجار والجيران
حين ننظر في الآيات الواردة في كتاب الله من خلال (المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم), سوف نجد أن هذه الكلمة -كلمة الجار- بمشتقاتها قد وردت في عدة مواضع؛ منها: ما جاء في سورة “الأحزاب” في قول الله تعالى: {لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً} [الأحزاب: 60]. وهذه الآية ليست في موضوعنا, وهو موضوع “التغاضي عن الجار ومواساته”؛ لأنها تتحدث عن المنافقين الذين يجاورون, والذين يعيشون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ويسكنون معه في المدينة، لكنهم يرجفون فيها وينشرون فيها الأكاذيب، والله سبحانه وتعالى يهددهم بقوله: {لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ} [الأحزاب: 60]؛ أي: لنغرينك يا رسول الله بهم؛ لتنتقم منهم، {ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً} أي: إن الله سبحانه وتعالى سوف يجعل رسوله صلى الله عليه وسلم يُخرج هؤلاء الذين يُرجفون في المدينة, وينشرون في أرجائها الأقاويل الكاذبة, والأحاديث الضالّة التي تهدد استقرار المجتمع.
ويقول تعالى في سورة “الأحقاف”: {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيم} [الأحقاف: 31] وهذه الآية -كما نعلم- وردت في جملة حديث للجن, الذين أرسلهم الله سبحانه وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم ليستمعوا إلى القرآن، فلما استمعوا إليه {قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِين * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيم * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيم} [الأحقاف: 29-31]، وإجارة الله سبحانه وتعالى معناها: أنه يحميهم, ويحفظهم من عذابه سبحانه وتعالى.
وقريبٌ من هذا ما جاء في سورة “المؤمنون”, في قول الله تعالى إثباتًا لوحدانيته: {قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُون * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} [المؤمنون: 88، 89] والمقصود بقوله: {وَهُوَ يُجِيرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ} أنه سبحانه وتعالى هو الذي يجير من يجير من أوليائه؛ فيحميهم ويحفظهم، ولا يستطيع أحد أن يجير على الله سبحانه وتعالى بأن يقول: هذا إنسان في جواري، فليصل إلى هذا الإنسان من العذاب ما أراد الله له؛ لأنه كفَر بالله ورسوله وحارب الله ورسوله؛ لأن أمثال هؤلاء ليس لهم من دون الله ولي ولا نصير.
وأيضًا نجد هذا في سورة “الملك”: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَن مَّعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَن يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيم} [الملك: 28]، هذه أيضًا إجارة الله سبحانه وتعالى ولا يمكن لأي مخلوق أن ينقذ الكافرين من عذاب الله -جل وعلا.
وأيضًا في هذا السياق نقرأ في سورة “الجن” قول الله تعالى: {قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا * إِلاَّ بَلاَغًا مِّنَ اللَّهِ وَرِسَالاَتِهِ} [الجن: 22، 23], فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبر عن ربه قائلًا؛ بأنه لن يجيره من الله أحدٌ, وأنه لن يجد من دون الله ملتحدًا؛ لأنه مبلّغ عن الله رسالته، ولو كذب فلن يستطيع أحدٌ أن يجيره من الله, ولا أن يمنع عنه عذاب الله، فصلوات الله وسلامه على هذا الرسول الأمين الكريم صلى الله عليه وسلم.
وفي سورة “التوبة” نقرأ قول الله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُون} [التوبة: 6], ومعنى الاستجارة: أن يقول المشرك: أنا في جوارك، فإن قال المشرك للمؤمن: أنا في جوارك، وطلب الحماية، فالمؤمن عليه أن يقبل منه هذا المطلب حتى يسمع هذا الكافر وهذا المشرك كلامَ الله، وهذه الاستجارة ليست هي الجوار الذي نتحدث عنه من جوار إنسان لإنسان يقيم بجواره، ويؤدي إليه ما عليه من الحقوق، لكننا في سورة “النساء” قد نجد شيئًا من هذا في قول الله تعالى: {وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا} [النساء: 36].
ففي هذه الآية الكريمة يأمر الله سبحانه وتعالى بالإحسان للوالدين, والإحسان إلى ذي القربى واليتامى والمساكين، والإحسان للجار ذي القربى -الجار القريب- والجار الجنب -الذي يكون بجوار الإنسان وهو ملازم له- والصاحب بالجنب -الذي يصاحب الإنسان في سفرٍ ونحوه- وابن السبيل -وهو الذي ينتقل من بلد إلى بلد- وما ملكت أيمانكم.
يبقى لنا الموضع الأخير في هذه الآيات في سورة “الأنفال”؛ حيث يقول ربنا: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَاءتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّيَ أَخَافُ اللّهَ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَاب} [الأنفال: 48], فقول الشيطان للمشركين في أول معركة بدر: {وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ} ليس معناه: أنه جار لهم يقيم معهم, ويقوم بأمرهم, ويؤدي لهم حقوقهم، إنما هو كاذب فيما قال في أنه ملازم لهم، وسوف يكون معهم, وسوف ينصرهم، {فَلَمَّا تَرَاءتِ الْفِئَتَانِ} المسلمة المؤمنة, وهؤلاء الكفرة {نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ} فقد رأى ملائكة الرحمن, وقد نزلت إلى أرض المعركة تقاتل مع أهل الإسلام، {إِنِّيَ أَخَافُ اللّهَ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَاب}.
نخلص من خلال عرض هذه الآيات, إلى أن هذه الآيات قد جاءت تتحدث عن جوار وعن إجارة وعن أشياء ليست في موضوعنا، إلا فيما جاء في سورة “النساء” في قول الله تعالى: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ} [النساء: 36]. على أية حال، فهذه الآية الكريمة بما فيها من أمر بالإحسان إلى هؤلاء الذين ذكرهم الله سبحانه وتعالى من الوالدين وذي القربى واليتامى والمساكين والجيران… إلى آخره- هي التي تدل على الجوار الذي نتحدث عنه؛ ففيها الأمر بالإحسان إلى هؤلاء الذين ذكرهم الله سبحانه وتعالى، ومعنى هذا الإحسان: أن نقابل الإساءة بالإحسان، وأن نتغاضى عما يكون من الجيران من هَفَوَات، ولا يكفي في الإحسان هذا, إنما يعني هذا الإحسان أن نواسي هؤلاء، وأن نقدم لهم ما نستطيع من ألوان البِرّ وألوان الخير.