ما يتصل بشروط الموكل فيه
الموكل فيه هو محل الوكالة، ويشترط فيه أن يكون قابلًا للنيابة فيه شرعًا؛ لأن هناك أمورًا لا تقبل النيابة فيها شرعًا، وهي العبادات ونحوها مما فيه كلام للفقهاء. هذا على سبيل الإجمال.
تفصيل الكلام في شروط الموكل فيه:
محل التوكيل أو الموكل فيه ينقسم لثلاثة أقسام: قسم يجوز فيه التوكيل مع العجز والقدرة، وقسم عكسه لا يجوز فيه التوكيل مع العجز والقدرة، وقسم يجوز فيه التوكيل مع العجز ولا يجوز مع القدرة.
القسم الأول، وهو الذي يجوز فيه التوكيل مع العجز والقدرة، فهو ما كان من حقوق الأموال، أو ما يجري مجرى الأموال؛ أي: كل ما يتصل بالأمور المالية أو ما يجري مجرى الأمور المالية، فهذا القسم يجوز فيه التوكيل مع العجز ومع القدرة.
فمثلًا: ما كان من حقوق الأموال منه ما يكون من حقوق الله تعالى كالزكاة والكفارة، فهذا يجوز التوكيل في إخراجها وتوزيعها؛ لا أن يخرجها نيابة عني؛ فأنا قادر على إخراج الزكاة, فأوكل فلانًا يدفع عني من ماله زكاة مالي, هذا لا يجوز. لكن يجوز أن أوكله في إخراج الزكاة وتوزيعها؛ أي: إنه وكيل عني في الأمور المالية، فأقول له: أخرج زكاة أموالي؛ أي: وزعها على الفقراء.
وكذلك الكفارة نفس هذا الأمر، وما كان من حقوق الأموال، فهناك ما يكون من حقوق الله تعالي، ومنه ما يكون من حقوق الآدميين، وهذا كثير كالبيع والشراء, إلى آخره، فكل ما يكون من هذا النوع جائز بالأدلة مثل قوله تعالى: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ } [الكهف:19] وغير ذلك من دلائل.
ومن المعقول أيضًا أن حاجة الناس تدعو للتوكيل إلى هذا, كالشخص الذي لا يحسن البيع، ولا يحسن الشراء، ولا يمكنه الخروج إلى السوق، وقد يحسن ذلك ويغبن في بعضه، وقد يحسن ذلك لكنه لا يتفرغ له من الأعمال الكثيرة، وقد يحسن ذلك لكن لا تليق به التجارة كالمرأة مثلًا, أو من يعير به؛ لأن له منزلة كبيرة أو من ذوي الهيئات بين الناس.
هذا كله في كل حقوق الآدميين في البيع والشراء، وهؤلاء الناس يجوز لهم أن يوكلوا، فتجوز الوكالة في كل ما يندرج تحت حقوق الأموال الراجعة إلى حقوق الآدميين، لكن حقوق الله تعالى محصورة في الزكاة والكفارة؛ لأن حقوق الله الصلاة والصيام والزكاة والحج، وهذه فيها كلام كثير، لا نستطيع أن ندخله هنا تحت باب الوكالة؛ لاتساع الكلام فيه.
لكن نقول: تجوز الوكالة في كل ما يندرج تحت حقوق الأموال التي ترجع إلى حقوق الآدميين, وهذه كثيرة في: الإجارة والحوالة والرهن والضمان, والكفالة والشركة والوديعة والعارية, والمضاربة والجعالة والمساقاة والقرض, والصلح والهبة والوصية والوقف, والفسخ والإبراء والمطالبة والقبض. فالتوكيل في كل هذه المعاملات المالية جائزٌ؛ للحاجة الداعية إليه بلا خلاف بين العلماء.
هذا يسمى التوكيل في الأموال الراجعة إلى حقوق الآدميين، وهناك أمور تجري مجرى الأموال -أي: ليست مالًا صرفًا، لكن تجري مجرى الأموال- كالنكاح، فالنكاح يجوز التوكيل في عقده في الإيجاب والقبول, والنبي صلى الله عليه وسلم وكّل عمرو بن أمية في نكاح أم حبيبة رضي الله عنها وهي يومئذ بأرض الحبشة، ووكّل أبا رفع في نكاح ميمونة رضي الله عنها إلى آخره، هذا ما يجري مجرى الأموال.
كذلك مما يجري مجرى الأموال ويجوز التوكيل فيه؛ المطالبة بالحق، فأنا لي دين على فلان فمطالبتي له بالحق؛ أي: ما ليس لي الوقت للمطالبة، فيجوز لي أن أوكل في المطالبة بالحقوق محاميًا, وهذا يستلزم إثبات حجج وبيانات ودعاوى ومخاصمات، هذا كله يجوز فيه التوكيل إجمالًا؛ لأن فيه مسائل عند التفريع قد لا يجوز فيها التوكيل, كالتوكيل مثلًا في إثبات الحدود واستيفاء الحدود واختلف فيه الفقهاء، وهذا الكلام فيه متسع. هذا بالنسبة للقسم الأول الذي يجوز فيه التوكيل مع عجز الموكل ومع قدرته.
وهناك أمور لا يجوز التوكيل فيها مع القدرة والعجز، وهذه ما كانت كالعبادات والصيام والصلاة والطهارة من الحدث، فلا يجوز فيها التوكيل؛ أي: لا يجوز أن أقول لشخص: صَلِّ نيابة عني أو وكلتك في الصلاة أو وكلتك في الصيام، فهذا لا يجوز؛ لأن هذه الأمور تتعلق ببدن الشخص, فلا يقوم غيره مقامها أبدًا إلا في بعض مسائل في الصيام المنذور، فلو نذر شخص صيامًا ومات يجوز أن يُفعل عنه، لكن هذه مسائل متناثرة.
وأيضًا هذا ليس بتوكيل؛ لأنه لو صام شخص عن شخص مات، وكان قد نذر صيامًا فهذا ليس بتوكيل؛ لأن الميت لم يوكل فيه، ولا وكل فيه غيره.
كذلك لا يجوز التوكيل في الصلاة إلا في حالة واحدة فقط، وهي الركعتان اللتان يصليهما الحاجّ بعد الطواف بالبيت إذا كان نائبًا عن غيره في الحج، فهاتان الركعتان ملحقتان بالطواف، والطواف من أركان الحج، والحج جازت فيه النيابة، فجازت صلاة الركعتين هنا تبعًا؛ لأن الحج جاز التوكيل فيه، ولا يجوز التوكيل في فعل صلاة منذورة، ولا يجوز التوكيل في الطهارة بأن يفعلها شخص نيابة عن شخص إلا في أمور متصلة بذلك، كأن ينيب شخصٌ شخصًا آخر بأن يصب الماء على يديه في الوضوء، أو أن يطهر نجاسته الواقعة على البدن أو الثوب أو غير ذلك؛ فهذه لا يتعلق الخطاب فيها بشخص الإنسان، وإنما يجوز أن ينيب فيها غيره.
كذلك مما لا يجوز التوكيل فيه الشهادة, بأن يقول شخص: وكلتك في أن تشهد عني في القضية الفلانية، فهذه الشهادة تتعلق بذات الشاهد، وهذا المعنى لا يتحقق في الوكالة، لكن قد يستنيب شخصًا، والاستنابة هنا أخرجت الشهادة الأولى من كونها توكيلًا فيها إلى اسم شهادة على شهادة؛ أي: نسميها باب الشهادة أو فصل الشهادة على الشهادة، وهذا للفقهاء كلام فيه، فالتوكيل بمعنى التوكيل هذا لا يجوز؛ لأن الذي شهد لا بد وأن يؤدي ما سمعه بنفسه أو رآه بنفسه، ولا يجوز هذا أن يكون بوكيل عنه.
كذلك لا يجوز التوكيل في الأيمان ولا في النذور؛ فالذي يريد أن يحلف على شيء لا يجوز أن يوكل شخصًا يحلف عنه، والذي نذر أن يفعل شيئًا لا يجوز أن يوكل شخصًا يفعل عنه، فلا يجوز أن يقول له: وكلتك أن تحلف أو تنذر عني، وهكذا.
كذلك التوكيل في الرضاعة، كأن وُكلت أو استُؤجرت امرأة لترضع الولد، فهذه المرأة لا يجوز أن توكل امرأة أخرى في إرضاع الولد؛ لأنه تم اختيار هذه المرضعة لأمر ما, فلا يجوز أن توكل غيرها.
كذلك لا يجوز التوكيل في الظهار؛ لأنه منكر من القول وزور، فلا يجوز أن يقول لشخص: وكلتك في أن تظاهر من امرأتي.
كذلك لا يجوز للشخص أن ينيب غيره في أن يفعل محرمًا، كل ذلك ما دام لا يجوز للشخص فعله من الأصل، فلا يجوز له أن يوكل فيه.
وهناك قسم ثالث يجوز فيه التوكيل مع العجز، ولا يجوز مع القدرة، وهذا هو باب الحج والعمرة، فيجوز التوكيل فيه عند العجز لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: ((وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلًا)), وكذلك في القرآن الكريم الدليل على أن الحج إنما هو على المستطيع لـ {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران: 97] وكذلك في العمرة نفس الحكم.