Top
Image Alt

ما يتناوله الناسخ، وانتهاء النسخ بانتهاء الوحي

  /  ما يتناوله الناسخ، وانتهاء النسخ بانتهاء الوحي

ما يتناوله الناسخ، وانتهاء النسخ بانتهاء الوحي

النسخ في الشريعة قليل:

فقد أورد الإمام الشاطبي -رحمه الله- في كتابه “الموافقات” واستدل على أن النسخ في الشريعة قليل بوجوه أربعة، وأرجو أن تتنبهوا لكلام الشاطبي فهو كلام دقيق وكلام مفيد في هذه المسألة:

أ. أن الأحكام الشرعية التي نزلت بمكة أحكام كلية وقواعد عامة:

وهذا يقتضى بأن النسخ فيها قليل لا كثير؛ لأن النسخ لا يكون في الكليات، وإن كان ممكنًا عقلًا.   

فقال ما حاصله: معلوم أن المنزل بمكة من أحكام الشريعة هو ما كان من الأحكام الكلية والقواعد الأصولية في الدين، على غالب الأمر، فاقتضى ذلك أن النسخ فيها قليل لا كثير. وإنما الأحكام الواردة في القرآن المكي لها تعلق بكليات الشريعة، والقواعد الأصولية، يعني: الخطوط العريضة، وهذا على غالب الأمر، وإذا كان الأمر كذلك فإن النسخ يكون فيها قليل لا كثير؛ لأن النسخ لا يكون في الكليات وقوعًا -يعني وقوعًا شرعيًا-، الأمور الكلية والمبادئ العامة والقواعد الأصولية النسخ لا يتطرق إليها شرعًا وإن أمكن عقلًا -يعني يجوز عقلًا- لا مانع من ناحية العقل لا يترتب على نسخها محالٌ عقلًا فهو جائز عقلًا، لكن بقي أن نسأل أنفسنا: هل هذا وقع شرعًا، وقع بالفعل؟

والجواب: لم يقع ذلك، فكون الأحكام التي نزلت في مكة أحكام كلية وقواعد أصولية، يدل على أن النسخ فيها قليل وليس بكثير، وأن النسخ من الناحية الشرعية لم يقع في هذه الأمور وإن جوزناه من ناحية العقل، ويدل على ذلك الاستقراء التام، فالاستقراء التام دل على أن الأحكام الكلية وأن القواعد الأصولية في الدين غير منسوخة، وأن الشريعة الإسلامية مبنية على حفظ الضروريات والحاجيات والتحسينيات وهذا كلام في غاية الروعة من الإمام الشاطبي، يقرر أن الشريعة الإسلامية مبنية على حفظ الضروريات يعني: الأمور الضرورية أو المصالح الضرورية، والحاجيات يعني: المصالح الحاجية والتحسينيات، يعني: المصالح أو الأمور التحسينية.

ولابد هنا أن نبين لكم معنى “أن الشريعة مبنية على حفظ الضروريات والحاجيات والتحسينيات” فنقول: إن الضروريات -ويسميها البعض الضرورات- هي: التي ترجع إلى حفظ مقصود من المقاصد الخمسة، الشاطبي -رحمه الله- سمى كتابه (مقاصد الشريعة)، فالشريعة الإسلامية لها مقاصد هذه المقاصد أنواع ثلاثة: مقاصد ضرورية، ومقاصد حاجية، ومقاصد تحسينية.

فالمقاصد الضرورية: هي التي ترجع إلى حفظ مقصود من المقاصد الخمسة والتي -تحفظونها أنتم بمسمى الكليات الخمسة، وهي: الدين المحفوظ بشرع الجهاد، والنفس المحفوظة بشرع القصاص، والعقل المحفوظ بتحريم المسكرات وحد شاربها، والبضع المحفوظ بتحريم الزنا وحد الزاني، والمال المحفوظ بتحريم الإتلاف، وشرع الضمان وقطع السارق، إذًا الضروريات هي: التي ترجع إلى حفظ مقصود من المقاصد الخمس، والمقاصد الخمسة: حفظ الدين وحفظ النفس وحفظ العقل وحفظ النسل وحفظ المال.

قال الشاطبي -رحمه الله-: معناها -يعني: الضروريات أو المقاصد الضرورية-: أنها لابد منها في قيام مصالح الدين والدنيا بحيث إذا فقدت لم تجرِِ مصالح الدنيا على استقامة، بل على فساد وتهارج وفوت حياة وفي الآخرة فوت النجاة والنعيم والرجوع بالخسران المبين، هذا معنى الضروريات أو المقاصد الضرورية.

والمحافظ على هذه الضروريات يكون بأمرين:

أحدهما: ما يقيم أركانها ويثبت قواعدها وذلك عبارة عن مراعاتها من جانب الوجود.

والثاني: ما يدرأ عنها الاختلال الواقع أو المتوقع فيها وذلك عبارة عن مراعاتها من جانب العدم.

إذًا قررنا أن الشريعة مبنية على حفظ الضروريات -وقد عرفتم الآن معنى الضروريات يعني الأمور الخمسة أو الكليات الخمسة أو المقاصد الخمسة التي حافظت الشريعة عليها بل حافظت كل الشرائع من لدن شريعة آدم إلى شريعة نبينا صلى الله عليه  وسلم عليها، وهي حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال، هذا معنى الضروريات.

الحاجيات أو المقاصد الحاجية: هي ما افتقر إليها من حيث التوسعة ورفع الضيق المؤدي في الغالب إلى الحرج والمشقة اللاحقة بفوت المطلوب، وهذا الكلام يدل على سمو الشريعة الإسلامية، فهي شريعة تحافظ على مقاصد ضرورية وحاجية وتحسينية، فالمقاصد الحاجية هي أقل درجة وأقل رتبة من المقاصد الضرورية؛ لأنه يفتقر إليها من حيث التوسعة ورفع الضيق، ومعنى هذا أن الشارع إذا لم يشرع من الأحكام ما يحفظ المصالح الحاجية، فلن يفوت دين ولا نفس ولا نسل ولا عقل ولا مال، بل تبقى أصول هذه المصالح محفوظة ولكن هذا الحفظ لا يكون أكمل وأتم إلا إذا روعيت هذه المصالح.

وقد مثل الأصوليون للحاجيات أو المقاصد الحاجية في العبادات بالرخص المخففة بالنسبة إلى لحوق المشقة بالمرض والسفر، فأبيح الفطر في السفر، وكذا قصر الصلاة الرباعية لوجود المشقة غالبًا فيه، بل مجرد السفر ولو كان خاليًا من المشقة رخص الشارع فيه الفطر والقصر.

ومثلوا للحاجيات في المعاملات بأنواع من المعاملات كالمساقاة والسلم وإلغاء التوابع في العقد على المتبوعات كثمرة الشجر ومال العبد وغير ذلك من المعاملات.

ومثلوا في الجنايات بضرب الدية على العاقلة في القتل الخطأ فإن عاقلة الجاني يعني عائلة الجاني وهم عصوبته يتحملون مع القاتل دية القتل، ومثلوا للحاجيات في العادات بإباحة الصيد والتمتع بالطيبات مما هو حلال مأكلًا ومشربًا وملبسًا ومسكنًا ومركبًا و نحو ذلك كما قرر الشاطبي في (الموافقات).

إذًا الشريعة -كما قلنا- مبنية على حفظ الضروريات والحاجيات فالحاجيات خادمة للضروريات.

أما التحسينيات أو المقاصد التحسينية: فحاصلها الأخذ بما يليق من محاسن العادات وتجنب الأحوال المدنسات التي تأنفها العقول الراجحات ويجمع ذلك قسم مكارم الأخلاق.

ومثالها في العبادات: إزالة النجاسة وستر العورة، ومثالها في العادات آداب الأكل والشرب ومجانبة المآكل النجسات والمشارب المستخبثات والإسراف والإقتار في المتناولات.

ومثالها في المعاملات: المنع من بيع النجاسات وفضل الماء والكلأ وسلب العبد منصب الشهادة والإمامة وسلب الأمة منصب الإمامة وإنكاح نفسها.

ومثالها في الجنايات: منع قتل الحر بالعبد أو قتل النساء والصبيان والرهبان في الجهاد، تلك هي المقاصد الضرورية والحاجية والتحسينية.

ولتعلم أن هذه المقاصد بأنواعها الثلاثة مقصودة للشارع الحكيم، فالشاطبي يقرر أن الشريعة مبنية على حفظ الضروريات والحاجيات والتحسينيات، وجميع ذلك لم ينسخ منه شيء.

إذًا: النسخ في الشريعة قليل، بل إنما أتى بالمدينة يعني التشريع المدني أو القرآن المدني ما يقويها ويحكمها ويحصنها، وإذا كان كذلك لم يثبت نسخ كليٍ البتة، يعني الأمور الكلية سواء كانت مقاصد ضرورية أو حاجية أو تحسينية لم يثبت لها نسخ البتة، قال: يعني الشاطبية ومن استقرأ كتب الناسخ والمنسوخ تحقق هذا المعنى فإنما يكون النسخ في الجزئيات منها والجزئيات المكية قليلة، هذا الوجه الأول من الأوجه الأربعة التي ذكرها الشاطبي -رحمه الله- على أن النسخ في الشريعة قليل جدًّا.

ب. إذا ثبتت الأحكام على المكلف فادعاء النسخ فيها لا يكون إلا بأمر محقق:

لأن ثبوتها على المكلف أولًا محقق، فرفعها بعد العلم بثبوتها لا يكون إلا بمعلوم محقق.

فقال: إن الأحكام إذا ثبتت على المكلف يعني: إذا استقرت الأحكام وشغلت ذمة المكلف بالأحكام، إذا ثبتت الأحكام على المكلف فادعاء النسخ فيها لا يكون إلا بأمر محقق؛ لأن ثبوتها على المكلف أولًا محقق فرفعها بعد العلم بثبوتها لا يكون إلا بمعلوم محقق، على حد قول الفقهاء: اليقين لا يرفع إلا بيقين، فنحن تيقنا من شغل ذمم المكلفين بهذه الأحكام، فلا يرفع هذا الأمر إلا بأمر محقق، وعلى ذلك فدعوى النسخ تحتاج إلى تأمل وتحتاج إلى نظر وتحتاج إلى تدبر، ولا يتكلم الإنسان بالنسخ لمجرد أن هذا ظاهر التعارض مع أمر آخر، هذا هو الوجه الثاني.

ج. أن معظم ما ادعي فيه النسخ إذا تأمل وجد أنه متنازع فيه، ويمكن الجمع بين ما ظاهرهما التعارض:

وذلك عن طريق بيان المجمل، أو تخصيص العام، أو تغير المطلق وما أشبه ذلك. 

فقال الشاطبي -رحمه الله-: إن غالب ما ادعي فيه النسخ، يعني غالب النصوص التي ادعي أنها منسوخة، إذا تأملتها وجدتها متنازع فيها، ومحتملة، وقريبة من التأويل، وذلك بالجمع بين الدليلين على وجه من كون الثاني بيانًا لمجمل، أو تخصيصًا لعموم أو تقييدًا لمطلق وما أشبه ذلك، إذًا غالب ما يدعى فيه النسخ عند النظر الصحيح والتأمل تجده من الأمور المتنازع فيها والأمور المحتملة فهي قريبة من التأويل إما بالجمع بين الدليلين على وجه من كون الثاني بيانًا لمجمل، أو تخصيصًا لعموم أو تقييدًا لمطلق وما أشبه ذلك.

إذًا: النسخ في الشريعة قليل ونظن أنه منسوخ أو فيه نسخ عند التأمل تجده من الأمور المتنازع فيها، ولذلك يقول بعض العلماء: ظن بعض العلماء المتأخرين أن النسخ شيء سهل، فقالوا: إن آية السيف وهي قوله تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة:5] قالوا: هذه الآية وهي آية السيف نسخت ثلاثمائة آية أو أكثر ثم تسرع الكثير في الحكم بالنسخ حتى شمل كل سورة من القرآن وهذا إسراف، والحقيقة أن النسخ في التشريع شيء عظيم حتى إن بعض النوابغ من علماء المسلمين -مثل أبي مسلم الأصفهاني محمد بن بحر كما ذكرنا عند الخلاف في حجية أو في مشروعية النسخ- أنكر النسخ، أنكر وقوعه وأيده كثير من الأذكياء.

والنسخ كان يطلق أيام الصحابة والتابعين على أشياء كثيرة، فكان يطلق على التخصيص والتقييد أو البيان كما أثبت ذلك الإمام الشاطبي في كتابه (الموافقات)، وقد سبق وضع الأصول وهو الإمام الشافعي -رحمه الله- مفخرة الإسلام والمسلمين، فوضع للنسخ حدًّا أصوليًّا بما معناه أن النسخ رفع حكم النص بعد أن يكون ثابتًا.

ولهذا شدد كثير من العلماء في النهي والتحذير من التسرع والتساهل في الحكم بأن هذا منسوخ وذلك ناسخ، ومن هؤلاء العلماء الإمام ابن حزم الظاهري -رحمه الله- في كتابه (الإحكام في أصول الأحكام) حيث قال مشددًا: لا يحل لمسلمٍ مؤمنٌ بالله واليوم الآخر أن يقول في شيء من القرآن والسنة: هذا منسوخ إلا بيقين؛ لأن الله عز وجل يقول: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [النساء:64]، وقال: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [الأعراف:3]، فكل ما أنزله الله تعالى في القرآن أو على لسان نبيه صلى الله عليه  وسلم ففرض اتباعه، فمن قال في شيء من ذلك: إنه منسوخ فقد أوجب ألا يطاع ذلك الأمر، وأسقط لزوم اتباعه، وهذه معصية لله تعالى مجردة وخلاف مكشوف، إلا أن يقوم برهان على صحة قوله وإلا فهو مفترٍ مبطل، ومن استجاز خلاف ما قلنا فقوله: يؤول إلى إبطال الشريعة كلها؛ لأنه فرق بين دعواه النسخ في آية ما، أو حديث ما، وبين دعوى غيره النسخ في آية أخرى وحديث آخر، فعلى هذا لا يصح شيء من القرآن والسنة وهذا خروج عن الإسلام، وكل ما ثبت بيقين فلا يبطل بالظنون ولا يجوز لنا أن نسقط طاعة أمر أمرنا به الله تعالى ورسوله إلا بيقين نسخ لا شك فيه، وأنت ترى أيها الدارس الكريم من كلام ابن حزم أنه يحذر وينهى عن التسرع والتساهل في الحكم بأن هذا منسوخ وذلك ناسخ.

د. أن تحريم ما هو مباح بحكم الأصل ليس بنسخ عند الأصوليين.

لأن بعض الناس يفهم خطأً أن تحريم ما هو مباح بحكم الأصل نسخ، والأمر ليس كذلك، فالشاطبي يكرر أن تحريم ما هو مباح بحكم الأصل ليس بنسخ عند الأصوليين وضرب لذلك مثالين، قال: كالخمر والربا فإن تحريمهما بعدما كان على حكم الأصل لا يعد نسخًا لحكم الإباحة الأصلية؛ فالخمر كانت مباحة في صدر الإسلام الأول وقد حرمت بالتدريج.

وكذا الربا فالشاطبي -رحمه الله- يقرر: أن تحريم ما هو مباح بحكم الأصل ليس بنسخ عند الأصوليين كالخمر والربا؛ لأن تحريمها بعدما كان على حكم الأصل لا يعد نسخًا لحكم الإباحة الأصلي، ولذلك قالوا في حد النسخ: إنه رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر ومثله رفع براءة الذمة بدليل.

ما يتناوله الناسخ:

وهذه المسألة في الواقع توضيح لمسألة أن النسخ في الشريعة قليل، فالنسخ في الشريعة قليل، وهو لا يكون إلا في الأحكام، بل وفي نوع معين من الأحكام فحدوده ضيقة للغاية، يعني: مجال النسخ مجال ضيق للغاية، وفي هذا المعنى يقول الشيخ الزرقاني في (مناهل العرفان): إن تعريف النسخ بأنه رفع حكم شرعي بدليل شرعي يفيد في وضوح أن النسخ لا يكون إلا في الأحكام وذلك موضع اتفاق بين القائلين بالنسخ.

إذًا أنتم تعرفون أن الشريعة أحكام وغير أحكام، فالنسخ يتعلق بالأحكام وهذا محل اتفاق بين القائلين بالنسخ، لكن في خصوص ما كان من العبادات والمعاملات، لأن الأحكام تشمل أشياء كثيرة، عبادات ومعاملات وحدود وقصاص وجنايات وأحكام أسرة ونحو ذلك.

فالعلماء يقولون: إن النسخ نطاقه ضيق يتعلق بالأحكام وخصوص أحكام معينة وهي ما كان من العبادات والمعاملات، أما غير هذه الفروع من العقائد وأمهات الأخلاق وأصول العبادات والمعاملات ومدلولات الأخبار المحضة فلا نسخ فيها على الرأي السديد الذي عليه جمهور العلماء، هذا كلام الزرقاني في (مناهل العرفان)، وبه يبين أن النسخ مجاله أحكام معينة من العبادات والمعاملات، أما الأحكام المتعلقة بالعقائد وأصول الدين، ووجود الله سبحانه وتعالى، وصفاته، وأسمائه، والأمور الغيبية، والموت، والبعث، والحشر، والنشر، وكل هذه الأمور، وكذا أمهات الأخلاق -يعني الفاضلة؛ كخلق الصدق، والأمانة، والوفاء بالعهد، والرحمة، والبر، وصلة الرحم، والإحسان إلى الوالدين، والقول الحسن، وكل هذه الأخلاق، أمهات الأخلاق- فهذه لا يدخلها النسخ بحال من الأحوال، وكذا مدلولات الأخبار المحضة الخبر المحض لا ينسخ، لأن خبر الشارع صدق، فلا ينسخ، هذا كله على الرأي السديد الذي عليه جمهور العلماء.

error: النص محمي !!