Top
Image Alt

ما يجب على الغاصب

  /  ما يجب على الغاصب

ما يجب على الغاصب

الواجب على الغاصب: أنه إذا كان الشيء الذي غصبه قائمًا عنده بعينه, لم تدخله زيادة ولا نقصان؛ فيجب عليه أن يرده بعينه لقوله صلى الله عليه وسلم: ((على اليد ما أخذت حتى تؤديه)), وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم، ويرتجعه المالك منه، فإن لم يقدر المالك على أن يرتجع ماله المغصوب من الغاصب، فعلى ولي الأمر أن يقوم بما له من سلطان كي يسترجع المال المغصوب من صاحبه، ويقوم بتأديب هذا الغاصب، وهو التعزير.

وإن كان مما لا أجرة فيه -أي: لا أجرة لمثله- كالطعام والنقود؛ فالشيء المغصوب إذا كان ليس له أجرة كأن غصب الغاصب طعامًا أو نقودًا، فإن الغاصب يبرأ برده من حكم الغصب، أي: لا يكون فيه شيء؛ لأنه لا أجرة لمثله تترتب عليه.

وسواء كانت قيمته قد نقصت في الأسواق لرخص الأسعار, كأن اغتصبه وثمنه عشرة، فنقص وصار تسعة؛ لأن بقاء العين لا يعتبر فيه بقاء، أو الشيء المغصوب لا يعتبر فيه نقص قيمة السلع في السوق, فليس له اعتبار.

أما إن كان مما لمثله أجرة كأن اغتصب دابة، فالدابة تُكرى وتأتي بأجرة أو كِراء لصاحبها. وكذلك: الآلات، فالآلات إذا اغتُصبت ثم عطلها الغاصب؛ فعليه أن يرد مع العين المغصوبة -الآلة وما في مثلها- أجرة المثل إن كان لمثل زمان الغصب أجرة، أي: إذا كانت تعمل في هذا الزمن, وعليه أيضًا مئونة أو نفقة الرد إن كان للرد هذا مئونة، أي: فيه مشقة أو شيء أو نفقة تكون على هذا الغاصب.

هذا بالنسبة لما يجب على الغاصب إذا كان الشيء الذي غصبه قائمًا عنده، وعرفنا ما يتفرع عن هذه الجزئية من ناحية زيادة والنقصان، وسوف تأتي تفصيلات لذلك.

لكن إذا هلك الشيء المغصوب عند الغاصب، وكان من المنقولات فقط -أي: ليس منقولًا مع عقار- عند الحنفية، أو من العقارات والمنقولات عند غير الحنفية، وكان الهلاك بفعل الغاصب أو بغير فعله، فعليه ضمانه، أي: يغرم القيمة أو يعوض مالكه القيمة، أو يدفع غرامة له إلى نحو ذلك. لكن نرجع إلى ما حددناه قبل ذلك من أن العقارات عند الحنفية لا ضمان فيها، وأشرنا إلى قولهم في علة عدم التضمين.

لكن بالنسبة للجمهور أو غير الحنفية, إذا كان المنقول من العقارات أو من المنقولات، وكان الهلاك بفعل الغاصب أو بغير فعله، فعليه ضمانه لمالكه، لكن إذا كان الهلاك بتعدٍّ من غيره وليس بأمر سماوي، يضمن الغاصب هنا عند الجمهور، فإذا كان شخص أجنبي تعدى على الشيء المغصوب عند الغاصب، وأهلكه أو أتلفه، يضمن الغاصب هنا، فإن الغاصب يرجع عليه بما ضمن؛ لأنه -أي الذي تعدى هنا- يستقر عليه ضمان الشيء الذي كان يمكنه أن يتخلص منه برده إلى من كان في يده. وعبارة الفقهاء في ذلك تقول: الغاصب ضامن لما غصبه، سواء تلف بأمر الله أو من مخلوق، لكن إذا كان من مخلوق وضمن الغاصب يرجع على المتلف.

كيفية التضمين:

يجب الضمان عند الفقهاء بالتحديدات التي ذكرناها, وعن كيفية الضمان نقول: إذا كان المال المغصوب مثليًّا، فإنه يجب ضمان المثل وقيمته إذا كان قيميًّا، فإن تعذر وجود المثل وجبت القيمة للضرورة, أي: إذا وُجد المثل يكون الضمان بالمثل، وإذا تعذر وجود المثل نرجع إلى القيمة فنقيمه, ونقول: يساوي كذا وقيمته تساوي كذا.

والدليل على تضمين المثل من الكتاب قوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}  [البقرة: 194], وقوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ} [النحل: 126], وقوله تعالى: {وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [الشورى: 40].

ومن العقل، فالعقل يؤيد ذلك؛ لأن المثل هو أقرب ما يكون إلى الأصل التالف، فكان الإلزام بالتضمين بالمثل هو العدل الذي يتم به جَبْر الضرر الذي لحق المغصوب؛ فالمغصوب منه عندما يغصب منه شيء, فإذا عوضناه بالمثل -أي: مثل ما غصبه الغاصب وأتلفه هو أو غيره- نكون قد قمنا بعمل فيه عدالة؛ لأننا جبرنا خاطر المغصوب منه بسبب ما لحقه من الغصب، فأعطينا له مثل ماله الذي غُصب.

وتضمين القيمة هو أنه إذا تعذر التماثل التام في الصورة والمعنى، فإنه يجب المثل المعنوي، أي: إن القيمة تعتبر مثلًا معنويًّا، وليس مثلًا ظاهريًّا.

والمثل: هو ما يوجد له مثل في الأسواق بلا تفاوت يعتد به، فليس هناك تفاوت كثير، أو نقول: هو ما تماثلت آحاده -أفراده أو أجزاؤه- بحيث يمكن أن يقوم بعضها مقام بعض دون فرق يعتد به، فإن كان هناك فرق يعتد به فهذا تفاوت, ولا تكون المثلية تامة هنا.

والأموال المثلية أربعة: المكيلات، والموزونات، والعدديات المتقاربة -أي: الأمور المعدودة التي تعد- وبعض أنواع الذرعيات.

فالمكيلات: هي التي تُباع بالكيل كالقمح والشعير والذرة، وكثير من أنواع الحبوب؛ لأن هناك بعض أنواع الحبوب لا تباع كيلًا، وإنما تباع وزنًا؛ ولذلك نقول: كثير من أنواع الحبوب.

أما الموزونات فهي التي تباع بالوزن، كالسمن والزيت والسكر ونحو ذلك، وكثير من الأشياء باختلاف الزمان قد انقلبت من مبيعها مكيلة إلى موزونة أو العكس.

أما الذرعيات -بالذال، وليس بالزاي- فهي التي تباع بالذراعة, مأخوذة من المذارعة، أي: بالقياس كالمتر ونحوه, وتسمى الذرعيات في لغة الفقهاء، كالمنسوجات والأقمشة القطنية والصوفية والحريرية، وكل ما يباع بالذرع أي بالقياس، يقاس بالمتر ونحوه.

العدديات المتقاربة: هي التي لا تتفاوت آحادها -أي مفرداتها- إلا تفاوتًا بسيطًا، ومثلوا لها بالبيض والجوز فتباع بالواحدة، ولكن لو كانت هناك واحدة أكبر من الثانية فهذا تفاوت لا يعتد به، وكذلك المصنوعات في العصر الحاضر التي تباع بالعدد، كالأكواب والدفاتر والأقلام، ونحو ذلك من كل ما يشتريه الإنسان بالواحد، ويدفع ثمنًا له وهكذا.

هذا بالنسبة للمثل وبيان ما هو المثل مكيلًا، موزونًا، مذروعًا، عدديًّا.

أما القيمي فهو ما ليس له مثل في الأسواق، أو يوجد ولكن بينه تفاوت لا يعتد به في القيمة، أو تتفاوت أفراده فلا يقوم بعضها مقام بعض بلا فرق، ومثلوا له بالدور كالمساكن والأراضي الزراعية أو الأراضي التي يقام عليها المباني والحيوانات والأشجار والمفروشات من كل ما تتفاوت أفراده.

ومعنى تتفاوت أفراده كأن تكون هذه الأرض جيدة، والأخرى غير جيدة، والحيوان يتشابه مع الآخر شكلًا لكن المعاني الباطنية تختلف، من هنا قلنا: يتشابه شكلًا؛ لكن هناك تفاوت في الأمور الباطنية أو المعنوية.

وتجب القيمة في ثلاث حالات: تجب إذا كان الشيء غير مثلي, كالحيوانات والدور والمصنوعات والأشياء، فكل واحد من هذه له قيمة تختلف عن الأخرى باختلاف الصفات, التي تميز كل واحد عن الآخر.

ومما تجب فيه القيمة أيضًا: إذا كان الشيء خليطًا من مثلي ومثل آخر بغير جنسه، كقمح اختلط بشعير فصعب التفرقة بينهما، أو فُرز هذا عن ذاك، فنقول: إن هذا إذا قدرناه نقدره بالقيمة، وإن كان مفصولًا عن بعضه فالقمح في جانب والشعير في جانب, نقول هذا مثله.

ومما تجب فيه القيمة أيضًا: المثلي الذي يتعذر وجوده، إما حسيًّا كأن ينقطع من السوق بعد البحث عنه حتى لو وُجد في البيوت, كنوع من المفروشات النادرة التي مضت عليها مدة من الزمن فأصبحت نادرة, هذه إذا قدرناها نقدرها بالقيمة وليس بالمثل؛ لأنه لا يوجد مثلها في الأسواق يباع، وإن كانت موجودة في البيوت. هذا الانقطاع الحسي، وقد يكون الانقطاع حكميًّا -أي: موجودًا- ولكن بأكثر من ثمن المثل بكثير, فهذا يكون مما تجب فيه القيمة. فالقيمة تجب في هذه الحالات الثلاث، هذا بالنسبة لكيفية الضمان وضمان القيمي والمثلي.

وقت وجوب الضمان, أو الوقت الذي نقول فيه: ينبغي على الغاصب أن يضمن:

اختلف العلماء أو الفقهاء في الوقت الذي يجب فيه التعويض، وكانت لهم آراء متقاربة, هي على ما يلي:

أولًا عند الحنفية: قالوا: إن وقت وجوب الضمان هو وقت تقدير قيمة التعويض في المثل, إذا انقطع من السوق وتعذر الحصول عليه فيه؛ أي: وجوب الضمان عند تقدير قيمة التعويض في المثل لحظة انقطاعه من السوق، هذا وقت تقدير التعويض وتعذر الحصول عليه.

وفي هذا الكلام العام عند الحنفية ثلاثة أقوال داخلية:

القول الأول: وقت وجوب القيمة هو يوم انقطاع السبب عند أبي يوسف, أي: انقطاع الحصول عليه.

القول الثاني: وقت وجوب القيمة، أي: قيمة المثلي إذا انقطع هو يوم الانقطاع، فهو أمر مثلي وانقطع من الأسواق، فتجب فيه القيمة. محمد بن الحسن يقول: القيمة تكون يوم الانقطاع.

القول الثالث -وهو قول أبي حنيفة، وهو القول المختار عند الحنفية-: وجوب القيمة للمثل يوم الخصومة؛ أي: يوم يرفع المغصوب منه الأمر إلى الحاكم, أنه يختصم الغاصب فيقول له: فلان غصب مني شيئًا مثليًّا، وليس له وجود في السوق، فأبو حنيفة يقول: وجوب القيمة يوم الخصومة، وهو يوم أن يحكم الحاكم بقيمة الشيء ورده إلى صاحبه، ولا نرجع إلى يوم أن غُصب، ولا يوم أن فُقد من السوق, بل يكون يوم الخصومة، وهو القول المختار عند الحنفية، وهو قول أبي حنيفة.

هذا بالنسبة للمثل إذا انعدم من الأسواق، فمحمد يقول: يقدر يوم الانقطاع, وأبو حنيفة يقول: يوم الخصومة, وأبو يوسف يقول: يوم الغصب.

والقيمي بالإجماع عندهم جميعًا أن قيمة الشيء المغصوب تقدر، فنوجب الضمان على الغاصب يوم غصبه، أي: يوم أن غصب الشيء القيمي, فنقول له: قيمته يوم غصبته تساوي كذا حتى لو مضى عليها الزمن أو تغيرت الأسواق, فتكون يوم غصبه بلا خلاف عندهم.

هذا رأي الحنفية الذي تفرع إلى ثلاثة أقوال بالنسبة للمثل، وأما القيمي فرأيهم واحد عندهم جميعًا.

أما المالكية فيقولون: وقت وجوب الضمان في القيمي وفي المثلي إذا تعذر وجوده؛ لأن المثلي إذا تعذر وجوده صار كالقيمي, إلا أن القيمي والمثلي إذا تعذر وجوده تقدر قيمته يوم الغصب، كأنهم هنا يوافقون أحد أقوال الحنفية، وهو قول أبي يوسف؛ لأن الضمان مرتبط بالغصب, فقيمة المغصوب تكون يوم غصبه، أي: يوم غصبه كان يساوي كذا, هذا الذي نقوله عن الغاصب أن يدفع قيمته يوم أن اغتصبه تمامًا، كان يساوي عشرة يوم الغصب، ولا يتغير التقدير بعد ذلك بتغير الأسعار، فلو رخص في السوق أو غلا لا نعطيه الرخيص فنضر بصاحب المال، ولا نعطيه بالأغلى فنضر بالغاصب، فسبب الضمان واحد، وهو أن الغصب لم يتغير.

والشافعية قالوا -وهو في الأصح عندهم-: المعتبر في الضمان هو أقصى قيمة للمغصوب, من وقت الغصب في بلد الغصب إلى وقت تعذر وجود المثل، فكأن الحنفية يراعون مصلحة المغصوب منه, فيعطونه أقصى قيمة وصل إليها الشيء المغصوب من وقت الغصب إلى وقت تعذر وجود المثل، أي: كأن الغاصب قام ورفع الأمر ليشتكي ليرد المغصوب منه، فكان يوم أن غُصب بعشرة، ويوم أن رُفع الأمر للحاكم بعشرين، ويوم أن تلف بخمسة، فيرفع القيم فيكون التقدير بها في المثل إذا تعذر وجود مثله، وكذلك القيمي يضمنه أيضًا بأقصى أو بأعلى قيمة له من يوم الغصب إلى يوم التلف. وهذا رأي الحنفية، وكلٌّ له وجهة نظر.

أما الحنابلة فيقولون في المغصوب: إذا كان مِثْليًّا وفقد المثل وجبت قيمته، ولكن يوم انقطاع المثل؛ لأن القيمة وجبت في الذمة حين انقطع المثل، وهذا رأي وجيه أيضًا، لأننا كنا نريد أن نعطيه مثله في يوم معين، فيوم أن قُطع المثل من السوق نقول: قيمته تساوي كذا, فتقدر قيمته حينئذ، وإن كان من القيميات وتلف، فالواجب القيمة بالغة ما بلغت.

فهم كالشافعية يقولون بأعلى القيم أو أكثرها ما كانت من حين الغصب إلى حين الدفع للمالك، أو من يوم الغصب إلى يوم الدفع؛ لكن الشافعية يقولون: أقصى قيمة له من يوم الغصب إلى يوم التلف، فهم يختلفون في هذه الجزئية معهم.

error: النص محمي !!