ما يجب فيه الضمان، وما يتحقق فيه الغصب، وآثار الغصب
الأمر الأول: ما يجب فيه الضمان, وهو كل مال تلفت عينه عند الغاصب بأمر سماوي، أي: لا دخل للغاصب فيه، أو كل مال لم تتلف عينه، ولكن أثبت الغاصب يده عليه وتملكه، وحرم صاحبه منه.
الأمر الثاني: ما يتحقق فيه الغصب، وعليه: هل يجب فيه الضمان أم لا؟
إن ما يتحقق فيه الغصب فمنه ما هو متفق عليه، ومنه ما هو مختلف فيه:
أمّا ما هو محل اتفاق على أنه يتحقق فيه الغصب، ويجب فيه الضمان، فهو المال المنقول المباح الذي يقبل التحويل، والمملوك لصاحبه. مثال ذلك: الأمتعة الشخصية والبهائم والحلي والسيارات ونحوها، فهذه بالاتفاق ينطبق عليها ما قلناه من أنه مال منقول مباح يقبل التحويل ومملوك لصاحبه، فهذا يتصور فيه الغصب ويجب فيه الضمان باتفاقٍ بين جمهور الفقهاء, وأبي حنيفة وأبي يوسف.
أما المختلف فيه فهو العقار، والعقار هو كل ما لا يمكن نقله، ولا تحويله من مكان إلى آخر، ومثل ذلك الأرض والدور, أي: المساكن والمباني.
ووجهة نظر جمهور الفقهاء -من المالكية والشافعية والحنابلة, ومحمد وزفر من الحنفية- أن الغصب يقع على العقار، ويجب ضمانه على صاحبه أو على غاصبه, أي: على الغاصب لهذا العقار؛ لأنه يكفي عندهم، ونحن قد أشرنا إلى ذلك في الاتجاهين اللذين تفرعا عن تعريف الجمهور وتعريف أبي حنيفة وأبي يوسف.
فجمهور الفقهاء -وهم المالكية والشافعية والحنابلة, ومعهم صاحبا أبي حنيفة: محمد وزفر- قالوا: الغصب يقع على العقار؛ لأنه يكفي عندهم لتحقق معنى الغصب إثبات يد الغاصب على الشيء، كسُكْنى دار لغيره، فلو أن شخصًا وضع يده على دار غيره وسكنها أو وضع أمتعته فيها، بأن فتح الباب ووضع أمتعته فيها؛ ترتب على ذلك ضرورة إزالة يد المالك, وقالوا: لاستحالة اجتماع اليدين على محل واحد في حالة واحدة.
فالجمهور هنا يقولون: إن مجرد إثبات يد الغاصب على الشيء بهذا المثال الذي ذكرناه، يترتب عليه استحالة اجتماع يدين -يد الغاصب ويد المغصوب منه- على محل واحد، واستدلوا على وقوع الغصب على العقار بقوله صلى الله عليه وسلم: ((من ظلم قيد شبر من أرض؛ طُوِّقه من سبع أرضين)), وذكر الأرض في هذا الحديث يدل على تحقق أو وقوع الغصب في العقار. هذا رأي الجمهور.
أما عن أبي حنيفة وأبي يوسف فقد قالا: لا يتحقق أو يقع غصب إلا فيما ينقل ويحول؛ لأن حقيقة الغصب عندهما هي إزالة يد الغاصب بالنقل, ولا تتحقق إلا في المنقول دون غيره كما هو مذكور قبل ذلك في تعريف الغصب، وأن الغصب عندهما يتحقق بأمرين هما: إثبات اليد العادية -المعتدية، وهي يد الغاصب- وإزالة اليد المحقة، أي: تثبت يد الغاصب على الشيء المغصوب في نفس الوقت الذي تزال فيه اليد المحقة, أي: صاحبة الحق وهي يد المالك، وهذا لا يتصور إلا في المنقول.
وأما العقار كالأرض والدور والمساكن، وكل ما يسمى عقارًا, فلا يتصور وجود معنى الغصب فيه لعدم إمكان نقله وتحويله من مكان إلى آخر، فمن غصب عقارًا فهلك هذا العقار تحت يده بأمر سماوي -كأن انهدم العقار أو اجتاحه سيل وهدمه أو غير ذلك- فليس الغاصب بضامن عندهما؛ لعدم تحقق الغصب بإزالة اليد؛ لأن العقار في محله لم ينقل، فصار كما لو حال بين المالك وبين متاعه، فتلف المتاع، فلا يضمن عندهما.
ولا يضمن عندهما على سبيل ضمان غصب؛ ولذلك يقولون: أما لو كان الهلاك بفعل الغاصب, كما لو هدم العقار فإنه يضمنه، أي: بمجرد وضع أو إثبات اليد العادية على الشيء المغصوب. فالعقار يفرق بين هلاكه بأمر سماوي، وهلاكه بيد الغاصب، فإذا هلك بأمر سماوي عندهما فلا ضمان فيه، وإذا هلك بفعل الغاصب ففيه ضمان، لكنه لا يسمى ضمان غصب وإنما يعتبر هنا ضمان إتلاف؛ لأن الغصب إذا لم يتحقق في العقار عندهما, فإن الضمان يكون على الإتلاف.
فإذا هدم العقار أو أزاله بإرادته ورأيه، فالإتلاف هنا الذي وقع من الغاصب على العقار يكون مضمونًا، والضمان يكون ضمان إتلاف، والإتلاف مضمون على المتلف عند جميع الفقهاء؛ ولكن هنا نقول: إتلاف تعدٍّ أو يضمن ما تعدى عليه، ولكن لا يعد ضمان غصب.
هذه وجهة نظر كلٍّ من الجمهور وأبي حنيفة وأبي يوسف في مسألة: ما يتحقق فيه الغصب، وعليه: هل يجب فيه الضمان أم لا؟
أما المسألة الثانية هنا, فهي آثار الغصب:
للغصب آثار تتعلق بكل من الشيء المغصوب والغاصب والمغصوب منه.
أولًا: آثار الغصب بالنسبة للغاصب:
الغصب بالنسبة للغاصب يترتب عليه آثار:
أولها: الإثم والتعزير؛ لأن الإثم يترتب على أن الغصب حكمه أنه حرام. والتعزير: التأديب من الحاكم أو من وليّ الأمر على هذا الذي يفعل هذه الأفعال, بأن يضع يده أو يحول بين الناس وبين مالهم, أو يغتصب أموالهم ويتلفها، فهذا يُعزّر.
والإثم هذا أمر أخروي أما التعزير فهو أمر دنيوي، فالإثم عقوبة أخروية والتعزير عقوبة دنيوية, والغاصب إذا علم أن ما يضع يده عليه من مال الغير دون وجه حق له فيه أو مجرد شبهة, عمله هذا فيه مؤاخذة في الآخرة، لكن إذا كان له وجه حق فيه؛ بمعنى: أنه ظن أن هذا المال هو الذي كان ضائعًا منه، فالتبس عليه الأمر، فأمسك بهذا المال وأخذه من يد الغاصب، وكأنه يرى أنه مستحق له أو أن له حقًّا فيه، أو حتى مجرد الشبهة، فإنه لا شيء فيه. أمّا إذا لم يكن له حق فيه، أو لا شبهة له فيه كان ذلك معصية، وارتكاب المعصية عمدًا موجب للمؤاخذة لقوله صلى الله عليه وسلم: ((من ظلم قيد شبر من الأرض, طوقه من سبع أرضين)).
أما التعزير, فإن جمهور الفقهاء يصرّحون بأن الغاصب يؤدّب باجتهاد الحاكم؛ بالضرب أو السجن أو العقوبة التي يراها مناسبة للغاصب المميز, رعاية لحق الله تعالى, حتى ولو عفا عنه المغصوب منه -صاحب المال- لدفع الفساد في الأرض وزجرًا للغاصب ولأمثاله. وذكرنا الغاصب المميز هنا جريًا على رأي الذين يقولون: إن المميز يكون ضامنًا، حتى إذا لم يكن ضامنًا عند البعض أو عند غيرهم فإنه يقع عليه نوع اجتهاد من الحاكم, حتى في المستقبل عندما يكبر هذا الصبي المميز، ويكون هذا زجرًا له، فلا يقدم على ذلك بعدئذ.
أما غير المميز من صغير ومجنون فلا يعزر؛ لأنه لا يستطيع ذلك, وربما كان التعزير ضارًّا به.
وكذلك لو حدث الغصب والشخص لا يعلم أن ما أخذه مملوك لغيره, بأن ظن أنه ملكه؛ فلا إثم ولا مؤاخذة عليه.
الأثر الثاني بالنسبة للغاصب: رد العين المغصوبة ما دامت قائمة. فيجب على الغاصب -باتفاق أهل العلم- رد العين التي غصبها إلى صاحبها, ما دامت قائمة وموجودة بذاتها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((على اليد ما أخذت حتى تؤديه)), وقولهصلى الله عليه وسلم: ((لا يأخذن أحدكم متاع أخيه لعبًا ولا جدًّا، ومن أخذ عصا أخيه فليردها)).
ما مكان الرد؟ وفي أي مكان يرد الغاصب ما غصبه؟
قال الفقهاء: مكان الرد يكون في مكان الغصب، فترد العين المغصوبة فيه؛ وذلك لتفاوت القيم باختلاف الأماكن. ونفقة الرد تكون على الغاصب؛ لأنها من ضرورات الرد, أي: لا نقول للمغصوب منه: إذا أردت أن تأخذ الشيء الذي غصب منك فأنفق عليه, بل نقول: الغاصب النفقة عليه؛ لأنها من ضرورات الرد، ويكون ذلك في مكان الغصب.
متى يصير المالك مستردًّا للمغصوب؟
يصير المغصوب منه مستردًّا لماله بإثبات يده عليه؛ لأنه كان مغصوبًا منه لأن يده كانت مرفوعة عنه، فإذا أثبت يده عليه مرة أخرى فقد أعاده إلى يده، وبذلك تزول يد الغاصب عنه إلا إذا غصبه مرة أخرى، هذا إذا كان المغصوب موجودًا بعينه.
أما إذا كان قد فات, أي: هلك أو فقد أو هرب, رد الغاصب إلى المغصوب منه مثله إن كان له مثل، كأن يكون مكيلًا أو موزونًا أو معدودًا من الطعام أو النقود ونحو ذلك، أو يرد القيمة إن لم يكن له مثل كالعروض والحيوان والعقار.
ثانيًا: آثار الغصب بالنسبة للشيء المغصوب:
فضمانه إذا هلك, وكيفية التضمين ووقته، وما يخرج به الغاصب من عهدة الضمان فسوف يأتي -إن شاء الله تعالى- في الدرس القادم.
ثالثًا: آثار الغصب بالنسبة للمغصوب منه:
يترتب على الغصب آثار بالنسبة للمالك المغصوب منه، وهي: عبارة عن حقوق تقابل ما وجب على الغاصب، وهذه الحقوق هي: رد أو استرداد العين المغصوبة. ويرد أيضًا زوائدها وهي الغلات والمنافع، التي نتجت عن العين المغصوبة أو زادت عليها.
ويذهب جمهور الفقهاء إلى أن من حق المغصوب منه, أن يرد إليه الغاصب عين ماله الذي غصبه, إن كان باقيًا بحاله على النحو الذي ذُكر سابقًا، وفي وجوب الرد على الغاصب من ناحية الدليل ما قلناه ومكان الرد.
أما عن زوائد المغصوب، وهي الأمور التي تزيد على المغصوب من تاريخ غصبه، وهي ما نسميها بالأمور الزائدة والمنافع والغلات، فهذا -إن شاء الله تعالى- سوف يكون محل تفصيل في الدرس القادم.