مثال ترجيح الحديث لموافقته للإجماع
قدم المثال في المسلك الثاني وهو النسخ، الطريق الرابع من الطرق التي يعرف بها النسخ، إجماع الأمة على ترك العمل بالحديث، وذكرت هنالك حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه مرفوعًا: ((من شرب الخمر فاجلدوه، فإن عاد في الرابعة فاقتلوه))، رواه أهل السنن الأربعة وغيرهم.
وقد عارضه ما رواه النسائي في (سننه الكبرى)، في آخر كتاب الحد في الخمر، الحديث الثاني بعد الثلاثمائة وخمسة آلاف، والحديث الثالث بعد الثلاثمائة وخمسة آلاف، من حديث سيدنا جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما مرفوعًا: ((من شرب الخمر فاضربوه، فإن عاد فاضربوه، فإن عاد فاضربوه، فإن عاد الرابعة فاضربوا عنقه، فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم نعيمان أربع مرات)).
فرأى المسلمون أن الحد قد وقع وأن القتل قد رفع، الجزء الثالث الصحيفة السابعة والخمسون ومائتان.
فحديث معاوية رضي الله عنه يفيد قتل شارب الخمر في المرة الرابعة، وحديث جابر يوافقه في المرفوع خاصة، ولكنه يدل صراحة على أنه صلى الله عليه وسلم لم يقتل الصحابي نعيمان رضي الله عنه في المرة الرابعة، وإنما جلده فحسب، وصرح بنسخ القتل بقوله: وأن القتل قد رفع، ويشهد له الإجماع، على أن حد شارب الخمر هو الجلد، ولو شربها ألف مرة.
وبهذا نكون قد رجحنا حديثًا على حديث، لاعتضاد أحدهما بالإجماع، والإجماع حجة قاطعة من حجج الشريعة الإسلامية، كالآية والحديث على حد سواء؛ لأن أمة الإسلام لا تجتمع على ضلالة، كما قال ربنا عز وجل: {وَمَن يُشَاقِقِ الرّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيّنَ لَهُ الْهُدَىَ وَيَتّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلّهِ مَا تَوَلّىَ وَنُصْلِهِ جَهَنّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً} [النساء: 115]. كما استدل بهذه الآية الكريمة الإمام الشافعي، إمامنا -رحمه الله ورضي عنه- على أن الإجماع حجة من حجج الشريعة، كالآية والحديث.