Top
Image Alt

مجالات علم اللغة الاجتماعي، وأهميته، والعلوم المتصلة به

  /  مجالات علم اللغة الاجتماعي، وأهميته، والعلوم المتصلة به

مجالات علم اللغة الاجتماعي، وأهميته، والعلوم المتصلة به

مجالات علم اللغة الاجتماعي وأهميته والعلوم المتصلة به:

إن مجالات علم اللغة الاجتماعي كثيرة متنوعة، إنه يعرض لمشكلات التنوعات اللغوية في المجتمع الواحد، وموقع هذه التنوعات من اللغة النموذجية أو المشتركة، أو ما يسمى بالفصحى في حالة لغتنا العربية، إنه يعرض أيضًا لمشكلات التواصل اللغوي بين الأمم أو الجماعات التي تستخدم لغات مختلفة، إنه يعرض للمشكلات التي تسببها الثنائية أو التعددية اللغوية في الوطن الواحد، إنه ينظر في مشكلات تعامل الأفراد لغويًّا طبقًا للظرف والمناسبة والحالة، وعلاقة اللغة بالثقافة، إنه يستطيع أن يسهم في حل أمثال هذه القضايا.

إن دراسة الألفاظ ودلالاتها لا تتم إلا في إطار اجتماعي وحضاري، والتغير اللغوي لا يفسر إلا في ضوء الظروف الحضارية والاجتماعية، وقضايا انتشار وتطور وصراع اللغات واندثار بعضها يعالج في ضوء هذا العلم الذي بين أيدينا، واللهجات ينظر إليها نظرة اجتماعية، حتى التراث الشعبي أيضًا يفسر في ضوء علمنا.

إن المواقف الاجتماعية تؤثر على مستوى اللغة، وهذه المستويات اللغوية تساير التغيير اللغوي الذي يحدث في مجتمع من المجتمعات.

قضية اللغة والكلام ومدى العلاقة بينهما؛ قضية تعالج في ضوء هذا العلم، لغة الكتابةأو الشق الكتابي من اللغة يعالج أيضًا في ضوء علم اللغة الاجتماعي مثله مثل الشق الشفوي أو ما يسمى بلغة الحديث، اللغة والجنس اللغة والقومية اللغة والفكر والثقافة، اللغات واللهجات، الفصائل اللغوية؛ كل هذه القضايا أو المباحث ينظر إليها اجتماعيًا.

ومن القضايا الكبرى التي تطرح أمام هذا العلم في لغتنا العربية قضية الفصحى والبيئة، وقضية اللهجات العربية الحديثة وقضية اللهجات الطبقية أو الاجتماعية وقضية اللهجات الفردية؛ هذه القضايا ينبغي أن يكون لعلم الاجتماع العربي إن ارتضينا هذا المصطلح، فإن قضية الفصحى والبيئة قضية اجتماعية ذلك أن اللغة الفصحى تنطق في الوطن العربي في جميع مجالات الاستعمال اللغوي حاملة بعض الفوارق اللغوية سواء على مستوى الأصوات أو على مستوى الأداء من النبر والتنغيم والتزمين ولون الصوت؛ هذه الفوارق نابعة عن ما بين المجتمعات العربية في البلاد العربية من فوارق اجتماعية في العادات والتقاليد، وفوارق ثقافية وفكرية وحضارية.

إن مسألة اللهجات العربية الحديثة وتفرعها عن العربية الفصحى ينظر إليها أيضًا اجتماعيًا؛ فالعامل الاجتماعي يقف جانبًا إلى جنب مع العامل الجغرافي الذي يدرس في ضوء علم اللغة الجغرافي أيضًا؛ حيث يفسر كل منهما نشأه هذه اللهجات، واللهجات الطبقية أو الاجتماعية التي تنشأ في داخل الإقليم الواحد كلهجة الصيادين والفلاحين والتجار والصناع والمحامين والمثقفين إلى غير ذلك من أرباب المهن، واللهجات الفردية التي تظهر على مستوى الفرد من أبناء اللغة الواحدة أو اللهجة الواحدة تنظر أيضًا اجتماعيًا؛ حيث تؤثر هذه اللهجات الفردية على المستوى اللغوي العام وذلك تحت تأثير عوامل كثيرة كالانتقال من طبقة إلى أخرى أرقى، وذلك مثل طالب العلم الذي ينتقل من طبقة الفلاحين أو الصناع أو الصيادين إلى طبقة المثقفين؛ إلى غير ذلك.

وإذا كانت الدلالة ينظر إليها صوتيًا وصرفيًا ونحويًا ومعجميًا فإنه ينبغي أن ينظر إليها أيضًا اجتماعيًا؛ ذلك أن العلاقة بين اللغة والمجتمع قوية والتلازم بينهما قائم ومستمر، وبما أن اللغة تتأثر بحضارة الأمة ونظمها وتقاليدها وعقائدها واتجاهاتها العقلية ودرجة ثقافتها ونظرتها إلى الحياة وشئونها الحياتية العامة؛ فإن اللغة تحمل مع دلالاتها اللغوية دلالة اجتماعية تلتصق بكلماتها وتمتزج بألفاظها.

ومن العوامل الاجتماعية التي تنعكس على اللغة وتصبح قادرة أو قائمة بالتعبير عنها ما يلي:

أولًا: نهوض اللغة وسمو أساليبها وتعدد فنون القول فيها ودقة معانيها واتساع وسائل الاشتقاق والاقتباس عن التعبير عن المسميات والأفكار الجديدة بسبب اتساع حضارة الأمة ورقي تفكيرها.

ثانيًا: اللغة تحمل الخصائص والملامح اللغوية التي تدل على الطبقة الاجتماعية داخل المجتمع؛ فانتقال الأمة من البداوة إلى الحضارة كما حدث في الأمة العربية بعد مجيء الإسلام يهذب اللغة ويسمو بأساليبها ويكسبها المرونة في التعبير والدلالة.

ثالثًا: تأثر اللغة في مفرداتها ومعانيها وأساليبها وتراكيبها بمظاهر النشاط الاقتصادي من حيث النظام الاقتصادي وشئون الحياة المادية والمهن السائدة من زراعة وصناعة وتجارة وصيد ورعي أغنام؛ إلى غير ذلك.

رابعًا: اللغة مرآه تنعكس عليها الشئون الاجتماعية للمجتمع؛ فعقائد المجتمع وتقاليده ومبادئه السياسية والتشريعية والقضائية والأخلاقية وميله إلى الحرب أو جنوحه إلى السلم كل ذلك ينعكس على اللغة وعلى ظواهرها اللغوية.

خامسًا: درجة القرابة مثلًا عند الفرد بالنسبة لأسرة الأب وأسرة الأم عند المجتمعات التي تسوي بينهما تطلق لغاتها كلمة واحدة على العم والخال مثلًا لفظ أنكل، وعلى العمة والخالة كذلك لفظ طانط، وابن العمة وابنة العم وابنة العمة وابن الخال وابن الخالة وابنة الخال وابنة الخالة لفظ كزم، على حين أن المجتمعات التي تفرق بين القرابتين تضع ألفاظًا لأفراد أسرة الأب من العم وابن العم وابنة العم والعمة وابن العمة وابنة العمة، وتضع ألفاظًا لأفراد أسرة الأم من الخال وابن الخال وابنة الخال والخالة وابن الخالة وابنة الخالة؛ كما هو الشأن في لغتنا العربية ومجتمعنا العربي.

سادسًا: المجتمع الذي تسود فيه مبادئ المساواة تشيع فيه الكلمات التي تدل على ذلك كاستعمال ضمائر المتكلمين والمخاطبين من مثل الضمائر العربية أنت وأنتِ وأنتما وأنتم وأنتن وأنا ونحن وهو وهي وهما وهم وهن، حين تستعمل في مدلولاتها الفعلية، والمجتمع الذي ينحرف عن المساواة ويميل إلى التعظيم وإلى الطبقية فإن الاستعمال يجري في لغته على إطلاق ضمائر الجمع على المفرد وتراكيب الجماعة على الفرد للتعظيم والتبجيل.

فيقول الفرد مخاطبًا الآخر يتفضل سيادتكم أو يتفضل سيدي أو أنتم تأمرون؛ وللمخاطب في كل هذا مفرد.

سابعًا: ضخامة الفوارق الاجتماعية بين طبقات المجتمع تؤدي إلى اختلاف الدلالة في المفردات التي تطلق وتستعمل عند كل طبقة، ففي اللغة الفرنسية يطلق لفظ خاص على كل من دخل المسكين والخادم والعامل الدائم أو العامل المؤقت والممثل والصحفي والقسيس والجندي والضابط والموظف غير الحكومي والموظف الحكومي وصاحب المهنة الحرة كالطبيب والمحامي والمالك الزراعي والمساهم في شركة ما والنائب البرلماني؛ إلى غير ذلك.

وكل مفرد من هذه المفردات يشير أصله اللغوي في صورة ما إلى عمل الطبقة التي يطلق على دخلها وإلى نشاطها الاقتصادي ومنزلتها لما عداها من الطبقات.

ثامنًا: اتجاه الأمة ونظرتها في الحياة تنعكس على اللغة.

تاسعًا: ظهور الأخلاق الدالة على الأدب أو الحشمة تنعكس على لغة المجتمع في كلماتها؛ فاللغة اللاتينية لا تستحي أن تعبر عن العورات والأمور المستهجنة بعبارات مكشوفة وتسميها بأسمائها الصحيحة، أما اللغة العربية بعد الإسلام فتتلمس أحسن الحيل إلى الحشمة والأدب في التعبير عن هذه الشئون فتلجأ إلى المجاز في اللفظ وتستبدل الكناية بصريح القول؛ نحو القبل والدبر ومقاربة النساء ولمس المرأة وقضاء الحاجة؛ إلى غير ذلك، والقرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة ضربا بسهم وافر في هذا المضمار من ذلك قوله تعالى في سورة البقرة في الآية الثالثة والعشرين والمائتين: {نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ} [البقرة: 223]، وقوله تعالى في سورة النساء في الآية الرابعة والعشرين: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ}  [النساء: 34]، وفي السورة نفسها في الآية الثالثة والأربعين {لاَمَسْتُمُ النِّسَاء}   [النساء: 43]، وفي سورة المجادلة في الآية الثالثة {مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3]، وفي سورة البقرة الآية السابعة والثمانين ومائة قوله: { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ}  [البقرة: 187]، وأيضًا في سورة النساء في الآية الحادية والعشرين {وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ}  [النساء: 21]، وفي سورة البقرة في الآية الثانية والعشرين بعد المائتين قوله تعالى: {فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ}  [البقرة: 222].

عاشرًا: الخصائص العقلية والخصائص النفسية ومستوى التفكير يظهر في خصائص اللغة وظواهرها.

حادي عشر: تطور الدلالة يتبع تطور الأمة، ومن أمثلة ذلك في العربية لفظ القطار؛ فقد كان يعني: تلك المجموعة من الإبل تكون على نسق واحد وتستخدم في السفر والتنقل، ثم لما تطورت وسائل المواصلات أصبحت تعني تلك المجموعة من عربات السكك الحديدية.

ولفظ البريد كان يطلق على الدابة التي تحمل الرسائل، وبعد تطور وسائل المواصلات صارت تطلق على تلك الهيئة العامة للبريد، وعلى وسائله المتنوعة من الرسائل التي ترسل بواسطة الطائرات مما يسمى بالبريد الجوي.

ومن المواصلات السلكية واللاسلكية من البرق والهاتف والتلكس والفاكس؛ إلى غير ذلك.

وأيضًا لفظ الريشة كانت تطلق على أداه الكتابة المأخوذة من ريش الطيور، ثم أصبحت تطلق الآن على تلك الوسيلة المصنوعة من حديد أو من مادة بلستيكية بشكل خصوص وبطريقة راقية للكتابة.

وهكذا، نرى الدلالة الاجتماعية تفرض نفسها على اللغة فتحمل الدلالات اللغوية للمفردات والتعبيرات والأساليب والجمل.

الأمر الذي جعل اللغة في نظر علماء الاجتماع وعلماء الأنثروبولوجيا من أنجع الوسائل في الكشف عن الخصائص والظواهر الاجتماعية للمجتمع في عصر من عصوره وفي مرحلة من مراحله.

من هنا تكمن أهمية هذا العلم؛ إنه بتطبيقاته العملية يسهم في تطوير دراسة اللغويات واللهجات المختلفة مما يقدم المساعدة لعلماء التربية وطرق التدريس وعلم نفس التعلم، إنه يكشف عن العوامل الاجتماعية التي تؤثر في تطور اللغة لكل أمة، إنه يدرس اللغة وتشعبها إلى لهجات مختلفة، إنه يغربل التراث اللغوي من الدخيل الضعيف من ألفاظ اللغات الأخرى لمواجهة الغزو الثقافي والصراع اللغوي، إنه يوجه صانعي القرار بأهمية دعم الحركات الأدبية والثقافية للمحافظة على التراث الثقافي الوطني وتحقيق التوازن بين الأصالة والمعاصرة، إنه يساعد الدول المستقلة حديثًا بعد طول احتلال كالجزائر مثلًا في أعقاب تخلصها من الاحتلال الفرنسي في إعادة إحياء لغتها الوطنية وإنجاح سياسة التعليم بها؛ وذلك من خلال البحوث التي ترصد لحركة التعريب، إنه ببحوثه يختبر مدى تقبل الناس لمصطلح التعريب من اللغات الأجنبية التي تقوم بها المجامع اللغوية العربية قبل إقرارها بشكل نهائي، إنه ينبه علماء اللغة للأخطاء اللغوية الشائعة لفظًا ونحوًا وإملاءً للعمل على تداركها وإيجاد الحلول المناسبة لها، إنه يسهم في دراسة اللهجات المختلفة عن طريق عمل الأطالس اللغوية.

أما بالنسبة للعلوم المتصلة به؛ إنه يرتبط بالتاريخ44:32 فإنه يرتبط بالتاريخ وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا الاجتماعية وعلم السياسة؛ وغير ذلك من العلوم السلوكية.

وذلك نظرًا لأنه يتعامل مع التغيرات في اللغة داخل المجتمع، ويمكن أن تكون هذه التغيرات محلية أو على المستوى القومي أو على مستوى أمة ككل، وعلى سبيل المثال يهتم علماء الاجتماع بتفسير الاختلافات بين كلام أهل الريف وكلام أهل الحضر، والتي يمكن أن ترجع إلى التوزيع العرقي للجماعات أو إلى الهجرة أو إلى مجموعة أخرى من العوامل التاريخية والاجتماعية؛ لذلك ترتبط أبحاث علم اللغة الاجتماعي بما قلنا؛ من تاريخ، ومن اجتماع، ومن سياسة، وغير ذلك.

إن علم اللغة الاجتماعي يتشابك مع ما يسمى بعلم اللغة الأنثروبولوجي أو الأنثروبولجية اللغوية في دراسة التنوعات اللغوية واستعمالاتها في علاقاتها بالأنماط الثقافية ومعتقدات الإنسان بوجه عام، وليس هناك حدود فاصلة بين علم اللغة وعلم اللغة الاجتماعي فقد أكد هذا قول من العلماء، ومن ثم فإن علم اللغة الاجتماعي يمثل واجهة من واجهات علم اللغة أو هو علم اللغة من وجهة اجتماعية وإن كنا لا نعدم من يرى حدًا بين علم اللغة وعلم اللغة الاجتماعي؛ ذلك أن علم اللغة عند هؤلاء ينحصر اهتمامه في البحث في اللغة وبنيتها وخواصها التركيبية بوصف كونها بناءً أو هيكلًا أو شكلًا أو جهازًا منعزلًا عن صاحبه ومصدره دون التفات إلى السياق الاجتماعي أو الثقافي أو ما يسمى بسياق الحال أو السياق غير اللغوي الذي يجري فيه التعامل اللغوي الفعلي الحادث من الأفراد في مجتمعه.

هذه النظرة الفاصلة بين علم اللغة وعلم اللغة الاجتماعي هي نظرة المدرسة البنيوية والأوروبية منها بوجه خاص، وكذا هو الحال عند المدرسة التوليدية التحويلية ومن تأثر بها، ولكن الرأي الآخر الذي لا يرى حدًا فاصلًا بين علم اللغة وعلم اللغة الاجتماعي هو رأي مقبول؛ فلا يمكننا أن نتكلم أو ندرس لغة معينة في فراغ؛ لأنها نفسها ظاهرة اجتماعية ومنسوبة إلى قوم معينين، وإن المدقق في الأبحاث التي يقدمها علماء اللغة الاجتماعيين أو علماء الاجتماع اللغويين أو علماء الأنثربولوجية اللغوية يجد اتفاقًا بينهم في كثير من تلك الأبحاث؛ وخاصة فكرة التفاعل الدائم بين اللغة والمجتمع، وأيضًا الاهتمام الفائق بالكلام، وإن كان الخلاف يكمن في بعض الأمور مثل درجة الاهتمام ومنطلق الدراسة؛ فاللغويون بحكم حرفتهم ينطلقون من اللغة، ويعملون على النظر في مشكلاتها من منظور اجتماعي؛ بغية الوصول إلى نتائج علمية دقيقة بوصف اللغة ظاهرة اجتماعية.

والفريقان الآخرن ينطلقان من حقولهما العلمية الاجتماعية الأنثروبولوجية وكثيرًا ما يتلاقيان في الطريق، ويكمن الخلاف أيضًا في منهج الدرس وطرائق التحليل، وقد تأتي المناهج مختلفة وفقًا لحرفة كل واحد من هؤلاء الثلاثة وهدفه، ومن ثم تأتي نتائج كل فريق متسقة مع نظريات مجاله وحقله الذي تخصص فيه؛ فوجوه الاتفاق أكثر وأعمق من وجوه الاختلاف.

error: النص محمي !!