مجالات نقد المعنى
والاتجاه الثاني الذي سار فيه النقد الجاهلي هو: نقد المعنى.
ونقد المعنى له مجالات:
المجال الأول: النظر في المبالغة من حيث الملاءمة للطبع الجاهلي، أو عدم الملاءمة له.
والمجال الثاني: الربط القوي بين الألفاظ، وما تدل عليه.
والمجال الثالث: النظر في جودة الشعر، من حيث أداؤه لوظيفته الجمالية.
والمجال الرابع: الموازنة بين نموذج، ونموذج آخر من الشعر.
ولتفصيل الكلام عن هذه المجالات المنضوية تحت اتجاه النقد المعنوي؛ نتوقف عند الروايات التي ذكرت أمثلة لهذا النقد.
المجال الأول: النظر في المبالغة:
المبالغة هي: الوصف الزائد، فيمكن أن يكون هذا الوصف زائدًا عن الحد المقبول فيصير مبالغة، والذوق العربي فرّق بين المبالغة المقبولة والمبالغة غير المقبولة، فهناك مبالغات تستريح إليها النفس ويستجيدها الذوق، ومبالغات ينفر منها الذوق ولا تستريح إليها النفس، ففي مجال الكرم -والكرم كان من الأمور المقدسة عند العربي- كانوا يصفون أنفسهم بالكرم ويبالغون في ذلك، وذوقهم يقبل هذه المبالغة أو الوصف الزائد في الكرم، فعنترة مثلًا عندما يقول: وإذا سكرت، فإنني مستهلك | * | مالي، وعرضي وافر لم يكلم |
وإذا صحوت فما أقصر عن ندى | * | وكما علمت شمائلي وتكرمي |
نجد أن النفس تستريح إلى هذا الوصف، والذوق العربي يقبله.
وعندما كانوا يفتخرون بقوتهم ومجدهم، ويبيّنون أنهم متغلبون على أعدائهم؛ كانوا أيضًا بسبب ما شاع في بيئتهم من ثقافة الحروب والتفاخر والتنافر، يقبلون المبالغة في هذا الجانب؛ ولهذا نجدهم يعجبون بقصيدة عمرو بن كلثوم التي فيها مبالغات كثيرة في الفخر، ومن هذه المبالغات قوله:
إذا بلغ الفطام لنا رضيع | * | تخرّ له الجبابر ساجدينا |
وقوله:
ونشرب إن وردنا الماء صفوا | * | ويشرب غيرنا كدرًا وطينا |
فقصيدة عمرو هذه مليئة بالمبالغات، لكنهم استجادوها.
وعندما يأتي القول متضمنًا مبالغة كبيرة أو وصفًا زائدًا عن الحد، فإن في لغة العرب من الألفاظ أو التعبيرات ما يمكن أن يسوّغ هذه المبالغة ويجعلها مقبولة، ومن هنا تأتي القدرات المتفاوتة بين المتكلمين في تسويغ ما يأتون به من المبالغات أو عدم تسويغه، فالشاعر الجاهلي أوس بن حجر يصف السحاب الكثيف فيقول:
دانٍ مُسِفّ فويق الأرض هيدبُهُ | * | يكاد يلمسه من قام بالراح |
الراح أي: الكفّ، فالشاعر هنا يصف سحابًا كثيفًا، دانيًا من الأرض، ومسفّ: نازل، فويق الأرض أي: فوق الأرض هذا السحاب بقليل، ثم جاء بلفظ “يكاد” أي: يكاد الإنسان الواقف يلمس هذا السحاب بيده، والعرب لم ينتقدوا هذه المبالغة ولم يعيبوها؛ لأنه سوّغها بلفظ “يكاد”، فهذه اللفظة “يكاد” حبّبت مبالغته إلى نفس العربي، فاستراح إليها ولم يرفضها.
والقرآن الكريم وهو النسق الأعلى المعجز في لغة العرب، يستخدم هذا المسوغ، وذلك في مثل قول الله سبحانه وتعالى:{ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} النور: 35]، وفي مثل قوله:{ يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ } [البقرة: 20]. فالمبالغات التي تكون في هذا الإطار لا يرفضها الذوق العربي، ولا تكون معيبة عند الجاهليين، لكنهم يكرهون الغلوّ ويرونه شيئًا من الكذب، وقد ذكروا أنه من الغلو في المبالغة قول المهلْهل، يصف وقع السيوف على الدروع في موقعة من المواقع:
فلولا الريح أسمع من بحجر | * | صليل البيض تقرع بالذكور |
وقد قيل عن هذا البيت: إنه أكذب بيت قالته العرب؛ إذ بين حُجْر التي وردت في البيت، وهي قرية، وبين مكان الموقعة التي يصفها المهلهل عشرةُ أيام، ولم يأت المهلهل بلفظ يكاد ليسوغ مبالغته أو غلوه، “فلولا الريح”، ومعنى البيت: يقول المهلهل: إن صوت السيوف وهي تقع على الدروع، كان يمكن أن يسمعه من في قرية حجر التي تبعد مسيرة عشرة أيام عن مكان الحرب، لولا الريح:
فلولا الريح أسمع من بحجر | * | صليل البيض تقرع بالذكور |
والبيض هي: الدروع، والذكور هي: السيوف، والصليل هو: الصوت.
من هنا كان هذا البيت في نظرهم معيبًا من جهة المعنى؛ بسبب وقوعه في الغلو والمبالغة الشديدة، من غير أن يستخدم الشاعر لفظًا يسوغ هذه المبالغة.
المجال الثاني الذي تحرك فيه النقد المعنوي: الربط بين الألفاظ ومعانيها:
الرواية التي تصحبنا في هذا المجال تجعل من النابغة الذبياني الناقد الذي تدور حوله الرواية، وكان النابغة من المحكِّمين في الشعر بين الشعراء الجاهليين، يقضي بينهم ويحكم في سوق عكاظ؛ حيث كانت تضرب له قُبَّة حمراء، ويأتي الشعراء من قبائلهم المختلفة ينشدون قصائدهم بين يديه، ويحكم هو بينهم من أشعر.
والنابغة له مكانة معروفة في تاريخ الشعر العربي في العصر الجاهلي، وقد جاءته هذه المكانة من خلال قدرته البارعة على التعبير والتصوير، وما كان يُعرف عنه من السفر إلى ملوك الحيرة من المناذرة، وإلى ملوك الغساسنة كذلك، ومكانته معروفة عند هؤلاء وعند أولئك، وهو من أبرع شعراء الاعتذار في تاريخ الشعر العربي قاطبة، وقد مكّنه كل هذا من احتلال هذه المكانة في نفوس الشعراء الجاهليين، ورضوا به حكمًا يحكم بينهم، ويقدم بعضهم على بعض في مجال الشعر.
وتحكيمهم للنابغة في الشعر يدل على أن العرب الجاهليين كانوا معنيّين بالنظر في شعرهم، ومعنيين بنقده بوصفه وسيلة إلى تطوير هذا الفن، والتدرج به في مراقي الكمال؛ لأن هذا النقد عندما يكون في سوق عكاظ، فإنه يستنهض همم الشعراء ليجودوا أشعارهم، ويزكّي روح المنافسة والسبق فيما بينهم.
ويدل كذلك على أن هؤلاء الجاهليين كانوا يشترطون فيمن يتصدى للحكم في الشعر أن يكون شاعرًا فَحْلًا، وأن يكون صاحب تجارب وخبرة وبصر بالشعر.
والرواية التي وردت في هذا المجال، وتجعل النابغة ناقدًا وحاكمًا بين الشعراء، تذكر أن النابغة أُعجب بشعر الأعشى واستحسنه، وأُعجب بشعر الخنساء واستحسنه أيضًا، ونقد شعر حسان بن ثابت، هذا في الجاهلية؛ فقد فضل الأعشى وذكر أن الخنساء تأتي في المرتبة الثانية بعده، فقال عنها: هي أشعر من بالسوق بعد صناجة العرب -أي: الأعشى.
وتذكر الرواية أن حسان بن ثابت أنشد أمام النابغة، فقال مفتخرًا:
لنا الجفنات الغُرّ يلمعن في الضحى | * | وأسيافنا يقطرن من نجدة دما |
ولدنا بني العنقاء وابني محرق | * | فأكرم بنا خالًا وأكرم بنا ابنما |
فقال له النابغة: “أنت شاعر، ولكنك أقللتَ جفانك وأسيافك، وفخرت بمن ولدتَ ولم تفخر بمن وَلَدكَ”.
فنقده للبيت الأول يدل على وجوب التعبير عن المعنى باللفظ الذي يؤديه أداءً كاملًا، بحيث ينهض اللفظ بحق المعنى ولا يقصر عنه.
وهذه ملاحظة بارعة، ولأن العرب -كما سبق الكلام في الاتجاه الأول- كانت تستحسن المبالغة في مقام الفخر، والنابغة هنا يفتخر، فكان عليه أن يبالغ في هذا الفخر؛ لأن الذوق العربي يحب ذلك.
ففي قول النابغة لحسان: “ولكنك أقللت جفانك وأسيافك”، يأخذ عليه أنه جاء بجمع القلة في قوله: لنا الجفنات، وجاء بجمع القلة في قوله: وأسيافنا، ومجال الفخر يقتضي المبالغة؛ فكان ينبغي أن يأتي بجمع الكثرة.
أما نقده للبيت الثاني، فهو يدل على ما كان شائعًا في بيئة العرب في الجاهلية من فخرهم بآبائهم وأجدادهم وعدم فخرهم بالأبناء.
فالشاعر عادة يفتخر بآبائه ولا يفتخر بأبنائه، لكنّ حسانًا قال: “ولدنا بني العنقاء وابني محرق”، فافتخر بالأبناء؛ ولذلك قال له النابغة: “وفخرت بمن ولدت ولم تفخر بمن ولدك”، فهذا هو موضع النقد والمؤاخذة من النابغة لحسان.
والشاهدان في البيتين يتعلقان بالمعنى؛ ففي البيت الأول كان ينبغي أن يأتي بجموع الكثرة التي تناسب مقام الفخر.
وفي البيت الثاني افتخر بأولاده ولم يفتخر بآبائه، وإذا كان الشاعر يريد أن يفتخر بأبنائه فلا بد أن يذكر معهم الآباء، فإهمال النسب وعدم الاعتداد به من الأمور التي لم تكن مقبولة في الجاهلية؛ لأن الفخر بالآباء مركوز في كل نفس، حيث لا يمكن إغفاله أو تجاهله، فإذا انضم إلى المجد القديم مجد الآباء مجد جديد متمثلًا في الأبناء، فلا بأس على حد قول الشاعر:
وما الحسب الموروث لا در دره | * | بمحتسب إلا بآخر مكتسب |
أو قول شاعر آخر:
فإني وإن كنت ابن سيد عامر | * | وفي السر منها، والصريح المهذب |
لما سودتنا عامر عن وراثة | * | أبى الله أن أسمو بأم ولا أب |
فيمكن للإنسان أن يفتخر بذاته وأن يفتخر بأبنائه، لكنه مع ذلك لا يهمل حسبه ولا يهمل نسبه؛ هكذا كانت طبيعة الجاهليين أو العرب، أو هي طبيعتهم إلى يومنا هذا.
ومع أن هذه الرواية التي وردت عن النابغة ونقده لحسان، وحكمه للأعشى والخنساء -مشهورة في كتب الأدب والنقد، فإن بعض الدارسين المحدَثين شكّك فيها.
وذهب إلى أن الجاهليين لم يكونوا يعرفون الكلام عن جمع القلة وجمع الكثرة، وأن هذا النقد لو كان موجودًا في الجاهلية لظهر أثره بعد ذلك في نقد المشركين للقرآن.
وهذا كلام لا يقوم على قدم؛ لأن عدم معرفة الجاهليين بتفاصيل القواعد لا يعني أنهم كانوا يجهلون ما يناسب المعاني من الألفاظ، وما يناسب كل مقام من المقال.
أمّا أنهم لو كانوا عرفوا النقد لنقدوا القرآن فهذا كلام عجيب؛ لأن القرآن الكريم لو كان الجاهليون وجدوا فيه مغمزًا لغمزوه، ولو وجدوا فيه مطعنًا لطعنوه، لكن القرآن الكريم الكلام المعجز لم يجد فيه العرب شيئًا من ذلك، وتبقى الرواية صالحة للاستدلال بها على نمط من أنماط النقد الأدبي في العصر الجاهلي.